الشعرية الشبابية الجديدة والأسئلة الوجودية

الشعرية الشبابية الجديدة والأسئلة الوجودية

استمع إلى المقال دقيقة

في المشهد الشعري العربي المعاصر نلاحظ بروز جيل شبابي جديد بالكلية يكتب قصيدته بجرأة لافتة متحديا الأشكال التقليدية ومنتقدا الصيغ الجاهزة والمستهلكة. جيل لم يقبل أن يكون تابعا مطيعا للتراث أو الصوت الجمعي المكرور، بل طالب بحقه في إعادة تعريف وكتابة الشعر، في زمن كثُرت فيه الأصوات وتداخلت الأشكال الفنية.

وأكثر ما استدعاني لتسليط الضوء على هذا المولد الشعري هو كتاب "في الشعرية الشبابية الجديدة- مقاربة معرفية" الصادر حديثا عن "دار النابغة للطبع والنشر والتوزيع"، والذي كتبه الناقد السعودي الدكتور مجدي خواجي متناولا فيه الجماليات الشعرية لدى الشعراء الشباب الذين وظفوا موهبتهم باعتمادهم على تقنيات كتابية لم يسبقهم إليها جيل، مستلهمين ذلك من كل ما توفر لديهم من استدعاءات وتحديات وتقنيات في عالم يتشكل أمامهم باستمرار.

يحيلنا الناقد خواجي في كتابه إلى أن الجرأة الشعرية الشبابية هذه لم تكن عشوائية ولا فوضوية أو سطحية، بل جاءت في كثير من تفاصيلها واعية بأصولها وجذورها، كون الشعراء الشباب أدركوا أن القطيعة المطلقة مع الموروث مستحيلة وغير مجدية. لذلك نجد قصيدتهم تُعيد الحوار مع تراثها، وتستلهمه بلغة جديدة، معترفة بأثره لكنها لا تستسلم لسطوته.

وقد تشكلت "الشعرية الشبابية الجديدة" بوصفها محاولة جادة لتوسيع أفق اللغة وإعادة توزيع المعنى في عصر مضطرب وموزع تاهت فيه المرجعيات بين عوالم التقنيات وخلقت القصيدة لنفسها مساحة حرة لإعادة التفكير داخل مكان مفتوح للكشف عن الذات أمام العالم كما لو أنهم وضعوا شعرهم أمام تيار جارف من الأسئلة.

إلى جانب ذلك، يمكن وصف هذه التجربة بأنها شعرية الذهن أو العقلانية البنائية إذ لم يعد شاعرها يعتمد على تدفق انفعال غير مصقول، وإنما يشتغل على قصيدته كما لو كان مهندسا معماريا، يبني طبقات من المعنى، ليُعطي لكل كلمة وزنها المدروس ويسبك أغوار العلاقة بين المقاطع وصورتها الكتابية القائمة على التشكيل البصري والصوتي معا، لتمنح القارئ تجربة مركبة يتداخل فيها الفكر بالحس، والهدوء بالتوتر.

في قلب هذه التجربة الشعرية الشبابية الجديدة نشأ ما يمكن تسميته "التنافذ الشعري الموزع"، وهو محاولة واعية لتفكيك الشكل التقليدي المغلق للقصيدة. وفيها لم يعد النص خطا مستقيما ذا بداية ونهاية محددتين، بل صار مساحة مفتوحة تستقبل أصواتا متعددة ورؤى متشابكة، بما يعكس تعقيد الواقع المعاصر وتشظيه.

لفهم "الشعرية الشبابية الجديدة" يمكن تخيلها كشبكة معقدة من "الجسور الدلالية" تمتد في اتجاهات مختلفة لتتحول فيها القصيدة من سرد خطي وأفكار مغلقة إلى بناء متعدد الأدوار

والشاعر الشاب في هذه المرحلة لم يقدم نصا مغلقا بل ترك فجوات مقصودة تدعو القارئ إلى مشاركته في بناء المعنى باعتباره شريكا فعّالا في إنتاج الدلالة، وبهذا يغدو "التنافذ الشعري الموزع" مرآة لعصر قائم على الأسئلة المفتوحة، وزحزحة القوالب التقليدية، وإعادة التفكير في بنية النص، وشكليته.
ولفهم "الشعرية الشبابية الجديدة" يمكن تخيلها كشبكة معقدة من "الجسور الدلالية" تمتد في اتجاهات مختلفة لتتحول فيها القصيدة من سرد خطي وأفكار مغلقة إلى بناء متعدد الأدوار تتوزع فيه الدلالات كما تتوزع الجسور حاملة الشاعر والقارئ نحو تأويل وفهم تشاركي.
ضمن هذه الجسور نجد "جسر القلق" المحفز للأسئلة الوجودية المثارة حول النص، وفيه تنبئ القصيدة عن اعترافات وجودية مقلقة على خلاف القصيدة الكلاسيكية التي تحيل للحيرة باعتبارها وسيلة للفهم. إضافة إلى جسور عديدة أنشأتها الشعرية الشبابية الجديدة منها: الألم، والمعاناة، والعمى، والتناقضات والتوترات الداخلية، وهو ما أبرز جماليات إضافية كثنائية الضوء والعتمة، والكشف والإخفاء، والحضور والغياب. بل وجعل منها تجربة حسية وفكرية في آن واحدة وضعت القارئ في مواجهة مع خفايا الحياة وزيفها.
في شعرية الشباب الجديدة ستكتشف أن العشق متحول من الرومانسية والأحلام إلى صراعات مفضوحة مليئة بالرغبة و"النوستالجيا" والخوف، والهشاشة. فقصائدهم لا تجمّل العاطفة بل تثير حولها التساؤلات، وتكشف عن أن الحب يُنتج معارك طاحنة تهدف إلى نيل اعتراف بالوجود أو الحرية، أو التشظي. كما تتعامل هذه الشعرية مع "النسيان" باعتباره شرارة النفس الشاعرية، وأنه مقاومة ضد الفناء والزوال، ويعطي القصيدة مشاعر ذهنية تمنحها القدرة على مواجهة خرف وهشاشة الذاكرة.
في كتاب الناقد السعودي الدكتور مجدي خواجي تتأكد من فصل إلى آخر بأن القيمة الكبرى لهذه القصيدة جاءت بمثابة دعوة صريحة لإعادة التفكير في الشعر ككينونة، وفي العالم الموازي كمصدر انتزع الشباب منه تقنياتهم، وزخرفاتهم التي غيرت من طريقتهم في النظر للأشياء والأحداث والعاطفة. معتبرا أن ما قدمه جيل الشعراء الجدد نهضة شعرية تستوجب الالتفاتة والتبويب والبدء في التواصل معها نقدا وتحليلا وممارسة ورصدا صادقا، لإعادة تأسيس العلاقة بين الإنسان وكلماته، والذات والآخر، والفوضى والمعنى، والوجود والأسئلة اللا متناهية، والأجيال المتتابعة الفاصلة بين حقبة الرواد ومن تلاهم.

font change