من الرياض إلى بوينس أيرس

ليس هناك أقوى من الثقافات والآداب كوسيلة لمد الجسور بين الشعوب

من الرياض إلى بوينس أيرس

منذ القدم وعاصمة الأرجنتين بوينس أيرس تشكل فضاء حيويا لتلاقح الثقافات وتبادل الأفكار، لهذا فتحت أحضانها للمهاجرين العرب ومنحتهم فرصة لإعادة تشكيل ذواتهم وهوياتهم ضمن نسيجها الاجتماعي. أولئك الأدباء المهاجرون الذين حملوا معهم حنين الشرق وثقافته، وأسسوا ما يُعرف فيها بـ"الرابطة الأدبية" عام 1949 على يد الشاعر جورج صيدح، والتي صارت لاحقا واحدة من بذور "مدرسة المهجر" لتمد أولى الجسور بين الشرق العربي والغرب اللاتيني، من خلال لغة الشعر التي وحدت الجزيرة العربية وبيروت ودمشق وبغداد على أرض خورخي لويس بورخيس، ووثقت حنينهم، ومحاولاتهم غرس جذور الهوية في تربة غريبة عنهم.اليوم، وبعد عقود من ذاكرة شعراء المهجر العرب تعود المملكة العربية السعودية لتعزيز هذا الجسر عبر مبادرات التبادل المعرفي، وبناء المراكز الثقافية كمركز الملك فهد الثقافي الإسلامي، بالإضافة إلى تعليم اللغة العربية في الجامعات الأرجنتينية، وفتح آفاق التعاون الأدبي لتقريب المسافات البعيدة بنبض معاصر يواكب تحولات عالم اليوم المتغير والمتشكل وتحدياته. في تلك المساحات العابرة للغة، والحاضنة للبذور الثقافية العربية جاءت السعودية كفاعل ثقافي يتجاوز الأطر التقليدية للدبلوماسية، إذ لم يكن حضورها في الأرجنتين طوال العقود المنصرمة محصورا في المبادرات الرسمية وحدها، بل اتخذت منحى أعمق وبالتحديد حينما غدت العاصمة السعودية الرياض ضيف شرف على معرض بوينس أيرس الدولي للكتاب 2025، في دورته التاسعة والأربعين. وهذا التتويج في أكبر تظاهرة أدبية للنشر في أميركا اللاتينية لم يكن تكريما مباغتا ولا إيمانا مفاجئا بالتبادل المعرفي إنما هو نتاج أزمنة من التواصل المؤسسي بين السعودية والأرجنتين، وإشارة واضحة إلى المكانة المتنامية التي تحظى بها السعودية اليوم على خارطة الأدب العالمي.وبرأيي نجحت وزارة الثقافة ممثلة بهيئة الأدب والنشر والترجمة في تقديم نموذج سعودي استثنائي لجناح الرياض في المعرض الذي جذب إليه الزوار والإعلاميين والمواطنين الأرجنتينيين ومنحهم تجربة حسية متكاملة استخدمت فيها تقنيات العرض المتقدمة والوسائط المتعددة، من معارض فوتوغرافية، ومجسمات عمرانية تحاكي تطور مدينة الرياض عبر الزمن، وعروض وثائقية قصيرة جسدت تحولات المدينة وتفاصيلها اليومية، وأكلاتها الشعبية أيضا.إضافة إلى ما قدمه الجناح طوال أيام المعرض من ندوات فكرية، وفعاليات أدبية متنوعة، ناقشت قضايا الأدب، وهويتها الثقافية والحضارية النابضة بالموروث التاريخي والأدبي، وتحولات المجتمع السعودي، والعلاقة الوطيدة بين الأدبين السعودي والأرجنتيني... وغيرها.

بورخيس الذي أعلن إعجابه بما حواه التراث العربي من رمزية وتأملات فلسفية، مؤمن بأنه امتداد للنسيج الروحي للأدب العالمي، بل واعتبره جزءا من الإرث الإنساني المشترك

وفي المقابل أيضا أبدت دور النشر الأرجنتينية اهتماما كبيرا بالأدب السعودي طوال السنوات الأخيرة، كما دشنت خلال هذا المعرض عددا من الأعمال الأدبية المترجمة إلى اللغة الإسبانية، من روايات وشعر وسير أدبية، ما أتاح لجمهور المعرض نافذة للاطلاع على تنوع الأدب السعودي المعاصر خارج الإطار الكلاسيكي... هذه اللحظة التي طالما تمناها المثقف السعودي للخروج إلى فضاءات جديدة، تترجم وتناقش وتحتفي به في محافل ثقافية عالمية، ومن بينها بوينس أيرس التي باتت اليوم ساحةً تتفاعل فيها النصوص العربية مع القارئ اللاتيني بشغف واهتمام.
دأبه في ذلك دأب الأدب العربي وخاصة أدب المهجر، الذي تمكّن من خلق أثر واضح في النتاج الأدبي الأرجنتيني واللاتيني على مر العقود ولم يكن هذا الأثر مجرد انعكاس ثقافي عابر، بل أخذ شكلا عميقا تجلى في أعمال بعض كبار الكتّاب على رأسهم الأديب الأرجنتيني بورخيس أحد أعمدة الأدب العالمي في القرن العشرين، والذي عبّر مرارا عن ولعه بالثقافة العربية، ووجد في عوالمها مصدر إلهام فريدا.
بورخيس الذي أعلن إعجابه بما حواه التراث العربي من رمزية وتأملات فلسفية، مؤمن بأنه امتداد للنسيج الروحي للأدب العالمي، بل واعتبره جزءا من الإرث الإنساني المشترك؛ لهذا عاش آخر أيامه مفتونا باللغة العربية مقررا تعلّمها رغم تقدمه في السن وفقدانه البصر مستعينا بأستاذ مصري، وبزوجته التي ظلت تكتب له الحروف على راحة كفه حتى يلمس أشكالها. لم يتقن بورخيس العربية كما تمنى لكنه غاص في معانيها وكان يعتبر أن "ألف ليلة وليلة" كتاب لا يشبه أي كتاب، كونه يعيد بناء الواقع بمنطقٍ يشبه الحلم.

وبما أننا اليوم في الزمن الذي تعيد فيه الأمم تعريف ذاتها عبر أدوات القوة الناعمة فليس هناك أقوى من الثقافات والآداب كوسيلة لمد الجسور بين الشعوب. كما حدث بين السعودية والأرجنتين في الدورة الحالية لمعرض بوينس أيرس، حيث لم يكن الأدب مجرد جسر للتواصل بينهما، بل غدا وسيلة تفاهم وتآلف فتحت الأبواب المغلقة، وبنت ممرات روحية عابرة للغات، وحملت جيلا جديدا من الأدباء والروائيين والشعراء السعوديين نحو العالم، لمواصلة توطيد هذه العلاقة الثقافية كخيطٍ ذهبيٍ دافئ، يشدّ الشرق بالغرب، والذاكرة بالمستقبل، عبر تواصل إنساني عميق يتجاوز الحدود الجغرافية، وينسج لحظات من الفهم المتبادل والاحترام المشترك. في بوينس أيرس حيث اجتمع اليوم بالأمس، والحنين بالحداثة، والسعوديون باللاتينيين على طاولة الثقافة، ومساحة من الجمال والتفاهم الذي تجاوز أثر الكلمات المترجمة.
بين "ألف ليلة وليلة" في الخيال العربي، والأدبين السعودي والأرجنتيني المعاصرين، وبين ليلة تُروى على ضوء قمر لاتيني، ورقصة أرجنتينيّة سريعة ومثيرة يسمونها "التانغو"، كتب الطرفان معا صفحة جديدة من الوصال الثقافي، عنوانها البارز الإنسان والأدب، لتمتزج الأبجدية العربية بإيقاعات الإسبانية، والقشعريرة الشعرية بلغة الحلم، ليكتشف العالم بعدها أن الثقافة ليست مجرد طقوس أو رموز، بل هي الإنسان في أعمق تجلياته، وتفكيره، وشعوره، وأحلامه.
إن العلاقات المعرفية تبنيها الترجمات وتوثق عراها الكتب والمعارض، والفعاليات الثقافية حيث يجد كل طرف في الآخر مرآة تعكس جزءا من تراثه وحضارته، وعيننا تتطلع نحو المستقبل بنظرة مليئة بالأمل المستمر. وهذه هي الحقيقة العميقة التي أثبتتها وزارة الثقافية السعودية عبر جسر من الإبداع والتسامح والتفاهم، وعبر تصديرها لمبدعيها ومثقفيها ليستمروا في بناء صورة العربي الجديد في أميركا اللاتينية وفي غيرها بالكلمة، والتعايش عبر صوت أدبي وفكري يفتح آفاقا جديدة على العالم، مؤكدا بذلك موقعا للسعوديين والعرب على خارطة الثقافة العالمية.

font change