"مقابر الرمال"... الهجرة الأفريقية غير النظامية بين الموت و"أمل الموت"

الطريق إلى الحلم الأوروبي مفروش بالأحلام وجثث الأبرياء

أ ب
أ ب
مهاجرون ينتظرون المساعدة على متن قارب خشبي مكتظ في البحر الأبيض المتوسط ​​قبالة الساحل الليبي، 12 فبراير 2021

"مقابر الرمال"... الهجرة الأفريقية غير النظامية بين الموت و"أمل الموت"

طرق الموت في البحر أسهل على المهاجرين غير النظاميين من طرق البر، ففي البحر تغرق القوارب ويموت ركابها تحت الموج في مواسم المطر محاولين الاختفاء بين الموج المرتفع عن نظر قوارب حرس السواحل، إلا إذا كان حظهم أفضل ووجدتهم سفن المنظمات العاملة على إنقاذ الهاربين فتكون حياة أخرى تدور فوق اللُجة بانتظار مرافئ تستقبلهم.

أما الوصول إلى البحر لعبوره فهو يمر بطرق أوحش وأصعب وخصوصا على المهاجرين من جنوب الصحراء في أفريقيا، هناك يقف لهم الموت بأشكال مختلفة، تبدأ بالطرق الصحراوية الوعرة، ووسائل المرور التي تختلف من أمكنة إلى أخرى، فهي قد تكون سيارات أو بهائم أو حتى دراجات نارية، والموت هناك يبدأ بالعطش والجوع أحيانا، وبالتعذيب وبرصاص ميليشيات تختطف العابرين لتبيع النساء في أسواق "الدعارة"، والرجال للعمل بالسخرة أو التحول لعناصر في ميليشيات مقاتلة، مجبرين على ذلك تحت تهديد الموت.

تقرير أعدته كل من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، والمنظمة الدولية للهجرة صدر في الخامس من يوليو/تموز 2024 أكد أن المهاجرين يواجهون خطر الوقوع ضحايا للعنف الجسدي والجنسي الشديدين، والاختطاف على طول الطرق المؤدية من الصحراء الكبرى إلى البحر الأبيض المتوسط، وأن أعدادا كبيرة من العابرين خلال هروبهم من الحروب في بلدانهم يسقطون برصاص حروب في بلدان أخرى وخصوصا في السودان وليبيا.

من عمق الصحارى الأفريقية إلى تخوم البحر المتوسط، تُسجل واحدة من أكثر الكوارث الإنسانية إيلاما في العصر الحديث. إنها قصة الهجرة غير النظامية من أفريقيا جنوب الصحراء، رحلة أمل كثيرا ما تنتهي في قوارب الموت، أو في مقابر جماعية منسية وسط الرمال. مسارات تهريب تنطلق من مناطق جنوب الصحراء الأفريقية تحصل فيها انتهاكات مرعبة يعيشها العابرون، فيما ينمو في هذه الأرض حلم الهجرة أو "اقتصاد الخوف" من الحروب والفقر والانقلابات وصراعات القبائل ما يغذي مأساة تأكل لحوم الغارقين بأحلام الشمال.

أربعة مسارات رئيسة يسلكها المهاجرون من دول أفريقيا جنوب الصحراء نحو أوروبا ودول الخليج، أبرزها الطريق الأوسط عبر ليبيا، وهو أخطر المسالك

الاتحاد الأوروبي، أو الوجهة النهائية لمن يبقى حيا من المهاجرين غير النظاميين، يحاول خلال السنوات الأخيرة قطع طرق العبور من خلال اتفاقات مع دول عدة في الشمال الأفريقي، ولكن أبرزها كما يبدو هو التعاون مع ميليشيات تقطع الطرق وتعتقل العابرين دون مسوغات قانونية. والأسوأ هو التغاضي عن جرائم قتل يقوم بها قادة ميليشيات أو قوى شبه رسمية يجدون بسبب تعاونهم مع بعض أجهزة الشرطة الأوروبية فرصة للوصول إلى أوروبا والخروج منها بعد توقيفهم، كما حصل في إيطاليا مع آمر جهاز الشرطة القضائية في ليبيا ومدير سجن معيتيقة في العاصمة طرابلس أسامة نجيم، الذي تلاحقه اتهامات بانتهاك حقوق الإنسان وتعذيب المهاجرين والسجناء، والذي أعادته الشرطة الإيطالية إلى بلاده رغم مطالبة المحكمة الجنائية الدولية بتسليمه.

ويسعى الاتحاد الأوروبي من خلال اتفاقيات مع دول عدة إلى حماية حدوده الخارجية، وذلك للحد من الهجرة غير النظامية، حيث وقّع اتفاقات مالية مع دول المنطقة، كما مارس ضغوطا عليها لإبقاء العابرين ضمن حدودها أو إعادتهم قسرا إلى البلدان التي انطلقوا منها.

خارطة الموت

أربعة مسارات رئيسة يسلكها المهاجرون من دول أفريقيا جنوب الصحراء نحو أوروبا ودول الخليج، أبرزها الطريق الأوسطعبر ليبيا، وهو أخطر المسالك، حيث يعبر المهاجرون الصحراء الكبرى من مصر والسودان وتشاد والنيجر وبوركينا فاسو ومالي إلى ليبيا، ينقلهم المهربون ليلا بشاحنات مليئة بالأشخاص، ويُمنعون من الاستراحة خلال الطريق التي تمتد مئات الكيلومترات، ومن يقع من الشاحنة يبقى في مكانه بلا مساعدة في أمكنة مقطوعة عن العالم، لأن المهربين لن يوقفوا وسائل النقل ولو للحظات لالتقاطه، مسالك متشعبة يعبرها عشرات آلاف المهاجرين إلى شواطئ البحر المتوسط لينطلق من استطاع الوصول أو بقي حيا في قوارب غير آمنة نحو إيطاليا. حيث سلك أكثر من 150 ألف مهاجر هذا الطريق عام 2024، معظمهم عبر شبكات تهريب تنقلهم في قوارب متهالكة لا تحتمل الرحلات الطويلة، فتغرق أو تصلها قبل قليل من غرقها المساعدة الإنسانية عبر مؤسسات مثل "أطباء بلا حدود" التي تطلق سفن بحث في البحر المتوسط لإيجاد المهاجرين.

أ ف ب
مهاجرون يفرون مع وصول الشرطة التونسية لتفكيك مخيم مؤقت للمهاجرين من دول جنوب الصحراء الكبرى في العمرة على مشارف مدينة صفاقس الساحلية التونسية في 5 أبريل 2025

الطريق الغربي عبر المغرب، يبدأ من مالي أو النيجر والجزائر وهي ممرات عبور للمهربين، لا يبقى فيها المهاجرون لفترات طويلة، وهي ليست محطات ثابتة كما ليبيا أو تونس اللتين توجد فيهما مخيمات ومراكز تجمّع بعضها بإشراف مؤسسات غير حكومية وغيرها أصبح تجمعا بالصدفة، ويصل هذا الطريق إلى المغرب المحطة الثابتة باتجاه أماكن مختلفة، حيث يحاول المهاجرون العبور إلى إيطاليا وإسبانيا عبر البحر أو نقاط التماس مع سبتة ومليلية المنطقتين الإسبانيتين على الحدود المغربية، والبعض يركب القوارب متجها إلى جزر الكناري التابعة أيضا لإسبانيا في المحيط الأطلسي.

الطريق الشرقي عبر القرن الأفريقي، ينطلق من الصومال أو إريتريا، مرورا بالسودان، وصولا إلى ليبيا أيضا. ويواجه فيه جزء من المهاجرين انتهاكات مروعة من قبل الميليشيات الذين تستخدمهم كعمال بالسخرة وتجردهم من إنسانيتهم، أو تبيعهم لشبكات الإتجار بالبشر، ما يعرض بعضهم للتجنيد للقتال في الاشتباكات أو يُستغلون في أعمال سخرة على أمل السماح لهم لاحقا بالوصول إلى شواطئ البحر المتوسط.

وطريق القرن الأفريقي من شرق أفريقيا وطرق إثيوبيا وإريتريا والصومال و"أرض الصومال" وجنوب السودان، يهرب الناس بسبب الحروب والجفاف والفيضانات الناجمة عن تغير المناخ، هي أيضا مسارات محفوفة بالمخاطر، خصوصا في مناطق انتشار "حركة الشباب"، والتي تفرض "ضرائب" مالية على عصابات التهريب، وأحيانا تختطف مهاجرين معينين ينتمون لقبائل أفريقية تصفهم بـ"الكفار" أو حتى تقتلهم، هذا المسار المتشعب يصل إلى المحيط الهندي وخليج عدن وباب المندب للعبور إلى اليمن حيث تستغلهم الميليشيات بتشغيلهم بأعمال السخرة، ليعيشوا ضمن بلد يعاني من الحرب ويحلمون بالعبور إلى دول الخليج العربي.

النساء والفتيات هن الحلقة الأضعف في رحلة الهجرة. تقارير "منظمة أطباء بلا حدود" (MSF) و"منظمة العفو الدولية" تكشف عن حالات اغتصاب جماعي في نقاط التهريب

اقتصاد بملايين الدولارات

تشير تقديرات مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC) إلى أن سوق تهريب البشر في الطريق الأوسطعبر ليبيا وحده بلغ ما بين 290 و370 مليون دولار في عام 2023. هذه الشبكات التي تدير عمليات النقل لا تكتفي بالتهريب، بل تتورط في جرائم تشمل الخطف، والتعذيب، والاغتصاب، والابتزاز، والاستعباد، ومقايضة المخطوفين بالمال مع عائلاتهم في بلدانهم التي تركوها آملين الوصول إلى بلدان أكثر أمنا.

ويتعرض المهاجرون في مراكز الاحتجاز في ليبيا لانتهاكات جسيمة. في إحدى الحالات الموثقة عام 2022، هوجم مركز عين زارة بطرابلس من قبل مسلحين، وأسفرت العملية عن مقتل واعتقال مئات المهاجرين. لتُجبر النساء على ممارسة الجنس للبقاء على قيد الحياة، بينما يُحتجز الرجال ويُعذبون حتى تدفع أسرهم فدية أو ينقلون للعمل بالسخرة.

شهادات من جحيم الكفرة

في شمال شرقي مدينة الكفرة الليبية، اكتُشفت مقابر جماعية تحتوي جثث 79 مهاجرا، بعضهم قُتل رميا بالرصاص. ويُرجح أن الضحايا أُعدموا أو تُركوا للموت عطشا.

يروي أحد الناجين السودانيين لفريق مفوضية اللاجئين، تفاصيل رحلته من دارفور إلى ليبيا: "في الطريق، رأيت جثثا مرمية في الرمال. كنا نُساق كالحيوانات، وكل من يرفض التعاون يُطلق عليه النار، أو يُعذّب بالصعق الكهربائي."

وتشير التقارير الأممية نقلا عن مسؤولين ليبيين في الكفرة، إلى أن المهربين يصورون مشاهد التعذيب ويرسلونها إلى عائلات الضحايا لابتزازهم، ويصفون ذلك بـ"العمل المنظم.. تجارة موت وذل."

أجساد النساء أثمان للعبور

النساء والفتيات هن الحلقة الأضعف في رحلة الهجرة. تقارير "منظمة أطباء بلا حدود" (MSF) و"منظمة العفو الدولية" تكشف عن حالات اغتصاب جماعي في نقاط التهريب، حيث تُستخدم النساء "عملة" لدفع تكاليف الطريق.

تنقل مسؤولة في "أطباء بلا حدود" عن مهاجرة من نيجيريا مشاهد مرعبة لعمليات الاعتداء على النساء "نُقلنا من أغادير إلى سبها في شاحنات، وذات ليلة، اقتحم رجال مسلحون المخيم واغتصبونا. لم يكن أحد ليسمع صراخنا في الصحراء".

تونس وليبيا... جحيم لا مفر منه

في تونس، بدأت السلطات منذ بداية أبريل/نيسان 2025 بتفكيك مخيمات المهاجرين جنوب البلاد، خاصة في مدينة العامرة. شملت العمليات ترحيلا قسريا واعتقالات، وواجهت الحكومة انتقادات حقوقية بسبب العنف المستخدم، ولكن السلطات أعلنت أنها قامت بنقل المهاجرين دون أي عنف، وهي هدفت من تحركها إلى إبعاد المهاجرين عن مناطق السكان، مشيرة إلى أنه كان يعيش ما يصل إلى 20 ألف شخص في وضع غير قانوني.

أما في ليبيا، فقد أصبحت البلاد وفق تقارير المنظمات الدولية بمثابة "سجن مفتوح" للمهاجرين. تُحتجز آلاف العائلات في مراكز لا تخضع لأي رقابة دولية، وتُمنع المنظمات من دخولها. وفي مارس 2025، أوقفت السلطات الليبية 10 منظمات إنسانية عن العمل من بينها "أطباء بلا حدود".

رغم تراجع عدد الوفيات إلى 4,465 في عام 2024، فإن ثلاثة أرباع هذه الحالات وقعت خلال محاولات عبور البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي

أوروبا وأبعاد الأزمة

نجحت أوروبا، عبر اتفاقيات تمويل وتدريب، في تحويل دول بشمال أفريقيا إلى حراس حدود لها. في 2023، أبرمت موريتانيا اتفاقا أمنيا مع الاتحاد الأوروبي، وتبعتها تونس وليبيا، ما أدى إلى تكدس عشرات آلاف المهاجرين في هذه الدول.

إيطاليا وحدها خصصت 20 مليون يورو لدعم عمليات إعادة المهاجرين من تونس وليبيا والجزائر إلى بلدانهم الأصلية. لكن غالبية هؤلاء المهاجرين لا يحملون وثائق، وينتمون إلى دول ترفض استقبالهم بعد خروجهم منها، ما يُحوّلهم إلى فئة منسية، ضائعين بلا أوراق تحميهم.

مأساة بلا نهاية

رغم تقارير الأمم المتحدة التي توثق جرائم ضد الإنسانية في ليبيا، لا تزال الممارسات مستمرة من دون محاسبة، يشهد فيها العالم مأساة عابرة للقارات، يُجرى فيها بيع البشر أمام أعين السلطات والدول.

في عام 2024، تم تسجيل 2,452 حالة وفاة في البحر الأبيض المتوسط. ورغم تراجع عدد الوافدين إلى أوروبا بنسبة 38 في المئة، إلا أن ضغوط الهجرة غير النظامية لم تتراجع، بل انتقلت جنوبا، ويقول مسؤول في مفوضية اللاجئين خلال تقديم تقرير عن الوضع إن رحلة المهاجرين كثيرا ما تتوقف في أفريقيا، ولا تستكمل طريقها، فتتحول مرات نحو دول جنوب قارة أفريقيا حيث تقع مآس أخرى.

أ ف ب
قوارب تنقل مهاجرين من جنسيات مختلفة بعد إنقاذهم في البحر من قبل خفر السواحل الليبي، في 25 أبريل 2023

صحراء بلا خارطة

الهجرة غير النظامية من أفريقيا جنوب الصحراء ليست مجرد أزمة إنسانية، بل نتيجة لمزيج قاتل من الفقر، والحروب، والاستبداد، والخراب المناخي. تحوّلت الصحراء إلى مقبرة جماعية، وأصبح البحر المتوسط خندقا للفصل بين الحياة والموت، أو بين نعيم الموت في العالم الأول وجهنم الموت في بلاد الفقر.

يؤكد مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية أن القارة الأفريقية في عام 2025 تشهد تحولات جوهرية في أنماط الهجرة، تتجلى في انخفاض حاد في أعداد المهاجرين غير النظاميين إلى خارج القارة، مقابل تصاعد مستمر للهجرة الداخلية بحثا عن فرص اقتصادية أفضل. وتثير هذه التحولات تساؤلات حول قدرة الدول الأفريقية على استيعاب هذه الديناميكيات الديموغرافية وتوفير حلول مستدامة للهجرة.

وانخفضت الهجرة غير النظامية من أفريقيا إلى أوروبا ودول الخليج بشكل حاد خلال عام 2024، حيث تم تسجيل نحو 146,000 مهاجر مقارنة بـ 282,000 في عام 2023. ويُعزى هذا التراجع إلى القيود الأمنية المتزايدة، بدعم من الاتحاد الأوروبي، على المعابر الحدودية في شمال وغرب أفريقيا.

وسجل المغرب منع أكثر من 45,000 محاولة عبور، وتفكيك 177 شبكة تهريب وإنقاذ 10,800 شخص في البحر، فيما ساهمت العمليات الأمنية في جيبوتي واليمن في تقليص الهجرة عبر باب المندب بنسبة 54 في المئة.

ورغم تراجع عدد الوفيات إلى 4,465 في عام 2024، فإن ثلاثة أرباع هذه الحالات وقعت خلال محاولات عبور البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي.

يؤكد مسؤولون أمميون يعملون في دول شمال أفريقيا أن "الحلول الأمنية وحدها لا تكفي" لوقف الهجرة غير النظامية التي تديرها عصابات تهريب منظمة. المطلوب هو مقاربة شاملة تتضمن التنمية، وحماية الحقوق، ومساءلة المتورطين. فإلى أن يتحقق ذلك، سيظل الطريق إلى الحلم الأوروبي مفروشا بالأحلام وبجثث الأبرياء الذين يظنون أن العبور إلى "حلم دول العالم الأول" هو حبل خلاصهم من الفقر والحروب في بلدانهم.

font change

مقالات ذات صلة