التفلسف على قضية الوحدة ضروري، وكذا العزلة التي قد يكون الشعور بالوحدة نتيجتها. وقد نشعر بالوحدة ونحن بين الجموع. من جهة، قد يُصاب الناس بالاكتئاب، الذي يُعزى أساسا إلى الوحدة، مما قد يدفعهم في كثير من الأحيان إلى الانتحار. والوحدة حالة عاطفية ذاتية تتميز بمشاعر العزلة والفراغ والانفصال عن الآخرين. وقد تشير إلى جفاف المحبة من قلب الإنسان والسآمة من مراعاة الناس. وقد يأتي على الإنسان زمان يشعر فيه بأنه لم يعد يحب أحدا ولا يكره أحدا.
وقد يُستخدم المصطلح على نطاق أوسع ليشير إلى مجموعة من التجارب وربما إلى قرار واعٍ بإعطاء الأولوية للنمو الشخصي واكتشاف الذات والحرية. وهنا يدخل مصطلح العزلة، وهو قرار بأن يعتزل الإنسان الناس لكي لا يُغيّروا نفسه التي يعرفها، أو لكي لا يصيبه ضجيج الآخرين بالجنون.
معنى الوحدة ليس مُوحّدا ويعتمد على وجهات النظر والتجارب الشخصية. قد يُعاني الناس من الوحدة بغض النظر عن حالة علاقاتهم، ويمكن أن تتجلى المعاناة بأشكال مُختلفة. من جهة أخرى، يُمكن للفرد من خلال الوحدة أن يُحقق نموا روحيا وجسديا عاليا. هذه هي غاية كثير من الفلاسفة، دراسة الإنسان في سياق تطوره الروحي ونشاطه الاجتماعي، واستكشاف جميع القضايا المتعلقة بالحالة الروحية للفرد. هذه هي غاية هؤلاء النبلاء، وليست تغيير معتقداتك الدينية.
أصبح انتشار الشعور بالوحدة في القرن الحادي والعشرين مشكلة كبيرة إلى حد ما. تقول الإحصائيات إن ما يقرب من ثلث البالغين على مستوى العالم يعانون من مشاعر الوحدة. ولعل هذا الثلث يلفت انتباه الكون ومن فيه إلى أن القضية لا تندرج في التسلية والحديث لمجرد الحديث.
من أبرز الفلاسفة الذين درسوا موضوع الوحدة كان مارتن هايدغر. رغم أن الحديث عن وحدة الإنسان وشقائه قديم قدم "تأملات" ماركوس أوريليوس، إلا أن هايدغر كان أول من نجح في دمج هذا الموضوع في الفلسفة المعاصرة وتحديد اتجاهات البحث فيه. في السابق، كانوا يدرسون هذا الموضوع ظاهرة منفصلة، بينما درسها هو في سياق نظرية التأويل عنده، واختار أن الوحدة ليست ظاهرة سلبية، بل هي، على العكس، ظاهرة إيجابية وبناءة. بالنسبة لهايدغر، العزلة وسيلة لاختراق التأمل الفلسفي والوصول إلى أعمق المعاني المضنون بها على غير أهلها.
الإنسان في وحدته يستطيع التعمق في تأملاته. مثل هذا التعمق لا يحدث في حوانيت الصخب بأنواعها. ومع ذلك، يجادل هايدغر بأن الأنا الإنسانية لا يمكن أن تكون معزولة تماما
الوحدة أنواع، وحدةٌ قسرية، أي الشعور بالوحدة نتيجة لتأثير عوامل خارجية كالسجين الذي يشعر أنه قد ألقي به خارج العالم. هذه هي الأولى. والثانية تعني نبذ المجتمع للفرد واغترابه عنه. هذه أيضا قسرية، كحال الفيلسوف أو المثقف عندما يتصادم مع أيديولوجيا المجتمع فيلتفت إليه المجتمع ويحاول سحقه. هكذا يفعل الغاغة مع النخبة، يحاولون إيذاءهم بسبب شعورهم بالدونية أمام هؤلاء النوابغ، وإن غلّفوا باطنهم بدعاوى من مثل الحفاظ على الدين والتقاليد. تماما مثلما حصل لسبينوزا مع المجتمع اليهودي في هولندا، حيث عزلوه من دون إرادته، بل حاولوا قتله، لكنه بقي شامخا ثابتا لا يلقي لهم بالا، حتى مات في سن صغيرة.
والثالثة هي الوحدة الطوعية، وجوهرها أن الشخص يختار هذا النمط من الحياة بوعي. العزلة الطوعية تحدث عندما يقرر الواحد منا أن يقطع علاقته مع المجتمع، بإرادته الحرة. هذا التمييز ضروري كمجال بحثي مهم لتحديد متى تُعدّ الوحدة سببا للاكتئاب ومتى تُعدّ ظاهرة إيجابية. الوحدة الطوعية وحدها هي الإيجابية.
يقول الفلاسفة إن هايدغر هو أفضل من حلل الوجود الإنساني. الفكرة الأساسية لتأويلية مارتن هايدغر هي محاولة إدراك معنى الوجود الإنساني من خلال اللغة. والعزلة عنده، حالة مميزة لجميع الفلاسفة والشعراء، إذ إن الإنسان في وحدته يستطيع التعمق في تأملاته. مثل هذا التعمق لا يحدث في حوانيت الصخب بأنواعها. ومع ذلك، يجادل هايدغر بأن الأنا الإنسانية لا يمكن أن تكون معزولة تماما. في كتابه "الوجود والزمان"، يبحث هايدغر في المصطلح الألماني "Mitsein"، الذي يُترجم إلى "الوجود مع"، ويمكن أن يحمل أيضا معنى "المجتمع" أو "الجماعة".
في سياق التحليل، يرى هايدغر أن هذه الكلمة مشتقة من مصطلح ألماني آخر هو "Selbstsein"، والذي يمكن ترجمته إلى "الوحدة مع الذات". واستنادا إلى ذلك، يجادل الفيلسوف بأن وجود الإنسان مرتبط دائما بالآخرين، لأن الفرد في عزلته يسترشد بالمواقف والتوجهات التي تلقّاها خلال تربيته من والديه. فالإنسان يتذكر ذلك، ومن خلال هذا التذكر يعيش مرة أخرى لحظات حياته مع الآخرين. وبالتالي، يرى هايدغر أنه لا توجد عزلة مطلقة بالمعنى الكامل للكلمة، لكن يمكن أن يحصل لك انفصال عن المجتمع. ويمنح الفيلسوف لهذا الجانب قيمة خاصة، مسميا إياه "صمت الوجود"، والذي يعتبره مهماً جدا للتأمل والتفكر في الحياة لكل إنسان.
لأن استجابتي للعالم تتشكل جوهريا من خلال علاقاتي بالآخرين، يرى هايدغر أن "الوجود مع الآخرين" بنية وجودية للوجود في العالم
ولأن استجابتي للعالم تتشكل جوهريا من خلال علاقاتي بالآخرين، يرى هايدغر أن "الوجود مع الآخرين" بنية وجودية للوجود في العالم. بصفتي "وجودا مع الآخرين"، فأنا مُندمجٌ جوهريا في طريقة تعامل الآخرين في عالمنا المشترك، ومستجيبٌ لها. وعندما يتحدث هايدغر عن "الدازاين"، فلا بد أن نتذكر أنها لا تعني الإنسان وحده. "الدازاين" تعني الإنسان المهموم بوجوده، والعالم، الإنسان في العالم. هذا الثنائي الذي ذابت ثنائيته هو "الدازاين".
أفكار مارتن هايدغر هي دائما الأكثر تعقيدا وعمقا، ويتطلب فهمها تحليل حياته الخاصة. ليس فقط تحليلا لشخصية هذا الفيلسوف البارز، بل للطريقة التي عاش بها. تتبع سيرته قادنا إلى العزلة من جديد. فقد كان يعتزل أحيانا في كوخ بسيط منعزل في الغابة السوداء، حيث وفرت له الطبيعة بيئة مناسبة للتأمل الفلسفي العميق.
كان لهايدغر منزله الصغير، حيث عاش بمفرده من وقت لآخر. هذا المنزل كان متواضعا إلى حد ما في المظهر والأثاث، لكنه كان السكنى التي تحدث عنها طويلا. ذلك المنزل لم يكن مجرد مسكن السيد هايدغر، بل كان أيضا بمثابة حصن حصين للفيلسوف.