لم تعرف الحركة الوطنية الفلسطينية منصب "نائب الرئيس" في أي من كياناتها الوطنية الرئيسة الجامعة، "المنظمة" و"السلطة" و"فتح"، فهذه الحركة ببنيتها "البطركية"، ظلت بمثابة حركة الزعيم، أو القائد، هذا حصل في ظل حقبة ياسر عرفات، وفي حقبة خليفته محمود عباس، فهو الذي يقرر سياساتها وخياراتها، ويتحكم بإطاراتها وإدارة أوضاعها، وهو الذي ينتخب ناخبيها، أي يقرر من يشغل عضوية هيئات كياناتها السياسية القيادية، وعددهم.
هكذا، فنحن إزاء حركة وطنية تفتقر للمأسسة، وتفتقد للقيادة الجماعية، وللشرعية الانتخابية والتمثيلية، وما زالت تعمل وفقا لنظام المحاصصة الفصائلية "الكوتة"، سيما مع غياب الانتخابات، سواء لهيئات المنظمة أو للسلطة، علما أن ثمة كثيرا من الفصائل لم يعد لها وجود، أو دور يذكر، لا في مواجهة إسرائيل، ولا في مجتمعاتها، إضافة إلى افتقادها أي هوية سياسية أو أيديولوجية أو كفاحية، وفي واقع باتت فيه الحركة الوطنية الفلسطينية بمثابة سلطة، مع غياب مرجعية وطنية واحدة، في ظل الانقسام والتنازع الحاصل بين الحركتين الرئيستين، أي "فتح" و"حماس".
المشكلة الآن، أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وقد بلغ من العمر 90 عاما، يجمع في يده قيادة الكيانات الثلاثة، أي "المنظمة" و"السلطة" و"فتح"، منذ 20 عاما، بحيث مكث رئيسا للسلطة أكثر من سلفه ياسر عرفات، الذي تبوأ ذلك الموقع عشرة أعوام فقط، علما بأنه كان قد انتقد الزعيم الراحل، لتفرده بالقيادة وبالقرارات الرئيسة، ولجمعه زعامة الكيانات الثلاثة بيديه، لكنه تناسى كل ذلك بعد أن آلت القيادة إليه.
على ذلك، فإن أي إجراء يأخذه الرئيس اليوم، يبدو متأخرا جدا، ولزوم ما لا يلزم. أولا، بسبب تهتّك وتقادم وتكلّس الكيانات السياسية الفلسطينية، وتدهور أحوالها، بخاصة أنها تعيش منذ زمن حالة ضياع في خياراتها السياسية والكفاحية، فاقمت منها حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني منذ 18 شهرا. وثانيا، لأن تلك الإجراءات تأتي ناقصة، وشكلية، فحتى تعيينه نائبا له أتى مشروطا، إذ للرئيس أن "يكلفه بمهام، وأن يعفيه من منصبه، وأن يقبل استقالته"، حسب نص القرار، أي إن النائب ليس نائبا إلا حيث يريد أو يقرر الرئيس. ثالثا، لأن هذا التغيير، مهما كان رأينا به، أتى تحت الضغط الخارجي، الدولي والعربي، وليس نتيجة تطور في النظام السياسي الفلسطيني، أو نتيجة قناعة بضرورته. رابعا، كان الرئيس أضعف الكيانات الشرعية الفلسطينية، وبالرغم من ذلك فقد نقل صلاحيات المجلس الوطني الفلسطيني إلى المجلس المركزي، وحل المجلس التشريعي (أواخر 2018)، وقام بإلغاء الانتخابات الفلسطينية (2021)، مع كل الشبهات حول شرعيته هو، والذي أتى نتيجة انتخابات بات لها 20 عاما!
عموما، فإن تلك الحال تذكّر بقصة حصلت للرئيس محمود عباس ذاته، إذ أتى كأول رئيس لحكومة السلطة، بفضل الضغوط الأميركية، التي اضطر عرفات للرضوخ لها، إبان الانتفاضة الثانية. حينها بقي عباس في ذلك المنصب لأربعة أشهر فقط (أبريل/نيسان، سبتمبر/أيلول 2003)، إذ اضطر إلى تقديم استقالته، بسبب التحريض عليه من قبل الزعيم الفلسطيني الراحل، الذي كان وقتها محاصرا في مقره في رام الله، والذي كان يخشى تقليص صلاحياته، أو ظهور بديل له، وقد شرح محمود عباس، بذاته، في كتاب استقالته، وبمشاعر مريرة، الأسباب التي حملته على ذلك، وضمنها وصمه من قِبل سلفه بأنه "كرزاي فلسطين". (راجع مجلة "الدراسات الفلسطينية"، العدد 56- 2003).
في عهد عباس حصل الانقسام الفلسطيني، وباتت "حماس" بمثابة فصيل منافس لـ"فتح" على مكانة الزعامة والقيادة، أي خسرت "فتح" مكانتها القيادية لأول مرة في تاريخها، كما خسرت قطاع غزة، وذلك طوال 18 عاما
فوق كل ذلك، فإن عهد الرئيس محمود عباس، في القيادة والزعامة، تمخّض عن خسارات كبيرة لـ"المنظمة" و"السلطة" و"فتح"، ففي عهده (20 عاما)، تم تهميش "منظمة التحرير الفلسطينية"، في دورها، ومكانتها التمثيلية، حتى إن الإشارات المتعلقة بكونها ممثلة لكل الفلسطينيين، في كل أماكن وجودهم باتت ضعيفة. مثلا، إبان زيارته لدمشق، مؤخرا، للقاء القيادة السورية الجديدة، لم يقم بزيارة لمخيم اليرموك، كمبادرة ولو رمزية لإبداء نوع من حساسية تضامنية، مع نكبة الفلسطينيين في سوريا، الذين تجاهلتهم الفصائل الفلسطينية في محنتهم.
أيضا، في عهده لم يعقد المجلس الوطني سوى جلسة عادية واحدة (2018)، وحتى المجلس المركزي، الذي تم إحلاله محل المجلس الوطني، لم يعقد طوال 18 شهرا من حرب الإبادة الإسرائيلية أية جلسة، باستثناء الأخيرة، التي أتت نتيجة ضغوط خارجية، ولغرض أساسي واحد وهو ترضية الأطراف الخارجية، بتعيين نائب له، بالطريقة التي تم بها.
وعلى صعيد السلطة، حصل في عهده الانقسام الفلسطيني، وباتت "حماس" بمثابة فصيل منافس لـ"فتح" على مكانة الزعامة والقيادة، أي خسرت "فتح" مكانتها القيادية لأول مرة في تاريخها، كما خسرت قطاع غزة، وذلك طوال 18 عاما.
أيضا، فإن تلك الأوضاع أثرت على "فتح"، التي باتت تخسر من قيادييها، وكوادرها، ومنتسبيها، ومع تعدد مراكز القوى فيها، الأمر الذي كان في مركز قرار محمود عباس، التراجع عن تنظيم انتخابات فلسطينية (2021)، بعد أن تعددت قوائم "فتح".
الحركة الوطنية الفلسطينية تعيش حالة استعصاء سياسي نتيجة التحديات الإسرائيلية، والسياسات الأميركية، ونتيجة أزمتها الداخلية، وهي أزمة شاملة وعميقة، وتطال خطاباتها وكياناتها وعلاقاتها وأشكال كفاحها
في كلمته أمام مؤتمر القمة العربي الطارئ (القاهرة، مارس/آذار 2025) تعهد الرئيس الفلسطيني بالتالي: "إجراء انتخابات عامة، رئاسية وتشريعية، خلال العام المقبل حال توفرت الظروف الملائمة لذلك، في غزة والضفة والقدس الشرقية... إعادة هيكلة الأطر القيادية للدولة، وضخ دماء جديدة في (المنظمة) و(فتح) وأجهزة الدولة، وعقد المجلس المركزي الفلسطيني خلال الفترة القريبة القادمة... استحداث منصب وتعيين نائب لرئيس (منظمة التحرير) ودولة فلسطين... إصدار عفو عام عن جميع المفصولين من الحركة، واتخاذ الإجراءات التنظيمية الواجبة لذلك".
كل تلك الإجراءات، إن تمت بالطريقة المناسبة، باتت متأخرة جدا جدا، كونها أتت لإرضاء أطراف خارجية، وليس نتيجة قناعة بضرورتها، أو كنتيجة لتطور في النظام السياسي الفلسطيني. والمعنى أن الحركة الوطنية الفلسطينية تعيش حالة استعصاء سياسي نتيجة التحديات الإسرائيلية، والسياسات الأميركية، وهذا ليس جديدا، إذ إن ذلك يحصل، أيضا، بسبب أزمتها الداخلية، وهي أزمة شاملة وعميقة، وتطال خطاباتها وكياناتها وعلاقاتها وأشكال كفاحها، وبسبب تجاهل قيادتها لذلك، لذا فإن مجرد تعيين نائب، أو ترقيع هنا أو هناك لا يحل تلك الأزمة، فالحركة الوطنية بحاجة إلى تجديد وتغيير، أكثر من أي شيء آخر.