"البوكر العربية".. العشاء الأدبي الأخير أم بداية الحكاية

"البوكر العربية".. العشاء الأدبي الأخير أم بداية الحكاية

استمع إلى المقال دقيقة

في عوالم الكتابة الروائية، تتقاطع الطموحات بالموهبة، وتتصادم الرغبة في التعبير مع طقوس النشر والاحتفاء، لتبرز جائزة البوكر العربية، كأهم أحلام الروائيين. إنها تتويج يحمل ختم الاعتراف، والانتشار، وفرصة لأضواء أكثر، ومقروئية أوسع، ومحطة لرواية حكايتك للعالم بصوت أعلى.

خلف هذا المجد تتوارى أسئلة عميقة: هل تتحول القمة إلى نهاية لدى بعض الروائيين؟ هل تكون الجائزة، بمثابة العشاء الأدبي الأخير، الذي يكتفي فيه الكاتب بلحظة التاج؟ متى تصبح الجائزة أداة تحريض للروائي، على عدم تكرار نفسه، ومواصلة الكتابة كفعل حياة؟ هذه التساؤلات وغيرها ما يسعى المقال لمناقشته.

منذ انطلاق "البوكر العربية" 2007، في أبوظبي وهي فارضة نفسها كمنصة بارزة لاكتشاف أصوات سردية، وتقديمها إلى جمهور أوسع، وترجمات عديدة، ومهرجانات مستمرة، وعلى الرغم من هذه الإيجابيات، فإن خلفها سيفا ذا حدين، يُخفي وراءه ظلالا من القلق والتردد، وربما الإحجام الكلي عن الكتابة.

ما يُثير التساؤل هو أن عددا من الفائزين بالجائزة، لم يُبدِ رغبة واضحة في الاستمرار بإبداعه المتصاعد بعد لحظة تتويجه؛ وكأن الفوز تحول من حافز إلى نقطة ختام، بدلا من أن تكون الجائزة بداية لمسار أدبي أكثر اتساعا وجرأة، صارت لدى بعضهم ذروة تخبو بعدها الرغبة في التجريب، ومقارعة التحديات، ما يطرح إشكالية حقيقية، حول أثر الجوائز على المبدعين، ومدى قدرتها على تحفيز الكتاب أو تجميدهم مؤقتا.

الروائية السعودية رجاء عالم، يمكن اعتبارها نموذجا ضمن هذا السياق حيث فازت عن روايتها "طوق الحمام" في 2011 مناصفةً مع الروائي المغربي محمد الأشعري عن روايته "القوس والفراشة" لتختفي عن مشهد النشر لسنوات، ومن ثم تنشر في عام 2023 "باهبل مكة مالتي فيرس" وتصل بها للقائمة القصيرة 2024.

أما الروائي المصري يوسف زيدان، الذي أسرته روايته "عزازيل" الفائزة في 2009 مع ما صاحبها من اتهامات، حول أصالة نصها، لتجيء أعماله التالية: كـ"النبطي"، و"الورّاق- أمالي العلاء" محطمة سقف التوقعات، الذي فرضه النجاح الساحق لعزازيل.

هذه النماذج الفائزة وغيرها، مما وصل للقوائم الطويلة والقصيرة محل إثارة لمخاوف حقيقية، من أن الجائزة قد تتحول لمحطة توقف، بدلا عن كونها محطة انطلاق. وكأن الكاتب يصل إلى قمة جبل البوكر، ومن ثم يعجز عن الصعود لجباله السردية الخاصة، لا لقصور فيه، بل ربما لأن الأضواء الكثيفة تحجب الرؤية وتقتل الخطوة التالية. فهل يصبح الفوز عبئا نفسيا وفنيا؟ وهل يحق للقراء مطالبة الروائيين المتجمدين بالاستمرار، أم عليهم احترام صمتهم واستسلامهم، وتقبل تكرارهم لأنفسهم؟

المتتبع لمسارات بعض "البوكريين" اليوم قد يلحظ تفاوتا جليا في التلقي النقدي والجماهيري، لأعمالهم اللاحقة فرواية "فرانكشتاين في بغداد" للكاتب العراقي أحمد سعداوي الفائزة عام 2014 قد تبدو مثالا واضحا لهذا النمط؛ كونها حققت حضورا كبيرا، تجاوز الأوساط العربية، ما منحها مكانة استثنائية في خارطة السرد العربي المعاصر، ومع هذا جاءت محاولات سعداوي التالية مع ما فيها من اجتهاد فني وتجريب أسلوبي، إلا أنها لم تلق ذات الصدى، بل ظلّت تُقارن تلقائيا بـ"فرانكشتاين" وهذه المعضلة واجهها الكثير غير سعداوي، من الكتاب الذين فازوا مبكرا أو حققوا نجاحا استثنائيا: فهل تراهم سيواصلون الكتابة دون أن تبتلعهم رواياتهم الأكثر شهرة؟ ليتهم يفعلون، وليتهم يتخلصون من معادلة الخوف من فقدان جمهورهم، والانشغال بمطاردة الظلال السابقة.

وفي الجانب الآخر هناك "بوكريون" استمروا بثبات مفضلين الابتعاد عن الأضواء، محافظين على منهجهم الفني: كاللبناني ربيع جابر المتكرر لأربع مرات، والمتوج ببوكر 2012 عن روايته "دروز بلغراد" وشكري المبخوت المتوج ببوكر 2015 عن "الطلياني" الذي أعقبها بأعمال مقروءة على نطاقات واسعة كـ"باغندا" مُكرّسا بذلك حضوره في المشهد الروائي التونسي والعربي.

ويبقى النموذج المثير من وجهة نظر القراء، هو الروائي السعودي الدكتور محمد حسن علوان، الفائز في 2017 عن رواية "موت صغير" الذي عدّه النقاد أحد كنوز اللغة الشعرية، والذي صاحب حفل تتويجه بركان ثائر، وانفجار إعلامي، ولغط كبير. ومع هذا أصدر في 2020 "جرما الترجمان" بذات الجماليات اللغوية والاشتغالات الفلسفية، والتاريخية، في محاولة منه لاجتياز لحظة البوكر نحو ما هو أعمق وأبقى، ومع هذا لم تكن روايته هذه لتكتب بهذه الصورة، لو أنه أجلها لسنوات تالية يكون قد تخفف خلالها من العبء الذي وجد نفسه فيه.

في مشهد الجائزة المتقلب، يبرز لنا أيضا نمط مختلف من الحكايات الأدبية، هم أولئك الذين اقتربوا من التتويج، ثم ابتعدوا، ليعودوا لاحقا أكثر نضجا وقوة

في مشهد الجائزة المتقلب، يبرز لنا أيضا نمط مختلف من الحكايات الأدبية، هم أولئك الذين اقتربوا من التتويج، ثم ابتعدوا، ليعودوا لاحقا أكثر نضجا وقوة.. وكأن الوصول إلى القائمة الطويلة والقصيرة لم يكن بالنسبة لهم سوى مقدمة لطريق إبداعي أطول. لعل هؤلاء الكتّاب لم يتعاملوا مع خسارتهم الأولى بوصفها نهاية، بل اعتبروها تمارين سردية على الصبر والانتظار وهم كثر، بينهم الروائي الفلسطيني وليد الشرفا، والعراقي سنان أنطون، والتونسي الحبيب السالمي، والليبي إبراهيم الكوني، واللبناني إلياس خوري، والسوداني أمير تاج السر، والجزائري واسيني الأعرج، وقوائم "البوكريين" لا ولن تنتهي.

‎‎إذن يجب أن لا تكون البوكر هي العشاء الأدبي الأخير لأي روائي كان؛ فهي أو غيرها جوائز مهمة نعم، لكن الإبداع الحقيقي لا يُكافأ بجائزة؛ فالكاتب الذي يتوقف عند الفوز، يخسر أكثر مما ربح. والكاتب الذي يواصل الكتابة، هو الذي يخلق مجده بنفسه. في زمن تتضاعف فيه النصوص ويتناقص فيه العمق، تبقى الرواية العربية في حاجة إلى كُتّاب لا ينتظرون الأضواء، بل يكتبون لأن الكتابة في ذاتها فوز لا يُقارن. والرواية التي تُكتب من قلق التجربة، وأسئلة الإنسان، وقطار الواقع هي التي تبقى، فإن حدث وحققت جائزة فهو تتويج، وإن لم تحقق فتتويجها القراء، وهم له خير وأبقى...

font change