الفرنك السويسري ملاذ المستثمرين وسط إعصار التعريفات

عملة أمان مع اضطراب الدولار في دولة تتمتع باقتصاد قوي واستقرار سياسي ونقدي وتشريعي

Shutterstock
Shutterstock
فئات مختلفة من عملة الفرنك السويسري

الفرنك السويسري ملاذ المستثمرين وسط إعصار التعريفات

أثار"يوم التحرير" الذي أعلن فيه الرئيس الأميركي دونالد ترمب لائحة الرسوم الجمركية اضطرابات ملحوظة في اسواق الصرف الأجنبي، بينما سجل الفرنك السويسري مكاسب كبيرة وخصوصا في مقابل الدولار واليورو على الرغم من فرض رسوم جمركية على الواردات السويسرية بنسبة 31 في المئة، مقارنة بـ 20 في المئة على واردات الاتحاد الأوروبي، قبل تعليقها موقتا لمدة 90 يوما.

تُعزى مكاسب الفرنك إلى ظاهرة معروفة في أسواق المال تُسمى بـ"الهروب إلى الجودة"، إذ يلجأ المستثمرون إلى الأصول الآمنة في أوقات عدم اليقين الاقتصادي أو الجيوسياسي. وقد ترسخت سمعة الفرنك السويسري كعملة ملاذ آمن منذ الحرب العالمية الأولى، عندما بدأت العملات الأوروبية تنهار واحدة تلو الأخرى، بينما احتفظت العملة السويسرية بقيمتها.

وفي عام 1929 عندما انهارت أسواق المال العالمية تعزز موقع الفرنك مجددا. وخلال الحرب العالمية الثانية عززت سويسرا احتياطياتها من الذهب عبر بيعها المواد الخام إلى ألمانيا، مما منح عملتها مزيدا من الدعم لتصبح من أقوى العملات بالرغم من عدم انضمام سويسرا لاحقا الى اتفاقية "بريتون وودز".

أسهمت عوامل عديدة في جعل الفرنك السويسري ملاذا آمنا، أبرزها الاقتصاد القوي وارتفاع حجم الاستثمار الأجنبي، والاستقرار السياسي والقانوني والمالي والنقدي

في عام 1973 تبنت سويسرا نظام سعر الصرف العائم، مما أتاح للفرنك تسجيل ارتفاعات متتالية. وقد وصل خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008 إلى مستويات قياسية مرتفعة، قبل أن يستقر خلال تجربة الارتباط باليورو من عام 2011 لغاية عام 2015، ليعود بعدها الى الارتفاع مكرسا مكانته كإحدى أكثر العملات أمانا وموثوقية في العالم.

أثر انخفاض عائدات السندات الأميركية على الفرنك

أدى انخفاض عائدات سندات الخزانة الأميركية لأجل 10 سنوات، في الآونة الأخيرة، إلى هروب المستثمرين نحو الأصول الآمنة وخاصة الفرنك السويسري، مما أدى إلى ارتفاع قيمته إلى أعلى مستوى منذ سنوات. ويتماشى انخفاض عائدات السندات الأميركية مع استراتيجيا ترمب الهادفة إلى خفض أسعار الفائدة وتقليل تكاليف الاقتراض للحكومة والشركات، مما يحفز الاستثمار ويدعم النمو الاقتصادي في البلاد، إلا أن البعض يعتبر انخفاض أسعار السندات سياسة محفوفة بالأخطار من شأنها أن تعيد رسم موازين القوى في الأسواق العالمية.

Shutterstock
استقرار الفرنك السويسري مع تراجع الدولار الأميركي

أسهمت عوامل عديدة في جعل الفرنك السويسري ملاذا آمنا أبرزها الاقتصاد القوي وارتفاع حجم الاستثمار الأجنبي والاستقرار السياسي والقانوني والمالي والنقدي. إذ يتجلى الاستقرار النقدي في احتفاظ سويسرا بأدنى معدل تضخم في العالم على مدى القرن الماضي، فيما تُعد عملتها المعدنية من فئة عشرة سنتات، المصدرة عام 1879، الأقدم التي لا تزال قيد التداول حتى اليوم، مما دفع موسوعة "غينيس" للأرقام القياسية الى وصفها "بأقدم عملة معدنية في العالم لا تزال متداولة". كما لا يتجاوز دينها العام 30 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بجيرانها مثل فرنسا (116.3في المئة) وإيطاليا (153.5في المئة).

إنفوغراف: توقعات قاتمة للنمو الاقتصادي لعام 2025

ونظرا الى محدودية هامش المناورة المتاح للبنك المركزي السويسري في شأن تعديل أسعار الفائدة، المتدنية أصلا، من المرجح أن يزيد تدخلاته في سوق العملات الأجنبية، ولكن بهدوء لتفادي اتهامات البيت الأبيض بالتلاعب بالعملات وتعزيز القدرة التنافسية للصادرات السويسرية أو للحصول على ميزات استثمارية واقتصادية أخرى.

رقابة أميركية لصيقة على سويسرا

منذ عام 2015 تحدّث الولايات المتحدة قائمة الدول المتهمة بالتلاعب بعملاتها في أسواق الصرف، وقد ظهرت سويسرا مؤقتا على هذه اللائحة بناء على ثلاثة معايير:

- وجود فائض ثنائي كبير في تجارة السلع والخدمات مع الولايات المتحدة لا يقل عن 15 مليار دولار.

- وجود فائض في الحساب الجاري لا يقل عن 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

-  تدخلات متكررة في شراء العملات الأجنبية لكبح ارتفاع الفرنك السويسري.   

يُعد المصدرون السويسريون، من أكبر المتضررين جراء ارتفاع قيمة الفرنك، خاصة في قطاعات مثل الساعات والتكنولوجيا الطبية والخدمات والسياحة

يُعد المصدرون السويسريون، من أكبر المتضررين جراء ارتفاع قيمة الفرنك، خاصة في قطاعات مثل الساعات والتكنولوجيا الطبية والخدمات والسياحة، حيث أصبحت سويسرا وجهة باهظة الثمن للسياح الأوروبيين والأميركيين.

أبرز الخاسرين من ارتفاع الفرنك

يواجه البنك المركزي السويسري الذي يحاول إضعاف الفرنك منذ سنوات دون جدوى، تحديات في إدارة سعر الصرف. فإذا باع الفرنك بكميات كبيرة في السوق فهناك خطر من إعادة إدراجه على "قائمة الدول المتلاعبة بالعملات" كما حصل في عام 2020. أما على صعيد السياسة النقدية، فإن سعر الفائدة الرئيس منخفض للغاية عند 0.25 في المئة، وهو قريب من النطاق السلبي الذي لن يُحدث تأثيرا جوهريا في الأسواق.

.أ.ف.ب
رئيسة مجلس إدارة البنك الوطني السويسري SNB، خلال اجتماع للجمعية العامة للبنك، برن 25 أبريل 2025

 على الجانب الآخر، استفاد المستهلكون السويسريون من ارتفاع قيمة الفرنك الذي عزز قدراتهم الشرائية، كما حقق المستثمرون في الأصول المقومة بالفرنك أرباحا من ارتفاع قيمته، ومن ضمنهم أفراد وشركات اختاروا سويسرا كملاذ ضريبي بفضل بيئتها الضريبية الجاذبة والإعفاءات الضريبية المزدوجة والسرية المصرفية التي لا تزال تحافظ عليها رغم الالتزامات بالمعايير الدولية ومنها متطلبات مصلحة الضرائب الأميركية. وتحتل سويسرا موقعا متقدما في مؤشرات الملاذات الضريبية، إذ جاءت في المركز الرابع عالميا وفق تصنيف شبكة العدالة الضريبية في أكتوبر/ تشرين الأول 2024، خلف جزر فيرجن البريطانية وجزر كايمان، وبرمودا.

 بين الانضباط السويسري والتراخي الأميركي

يستفيد الفرنك السويسري أيضا من الإطار التنظيمي الصارم الذي يحكم العمل المصرفي في سويسرا والذي يُعد نموذجا يحتذى به عالميا. وعلى النقيض من ذلك، سعى الرئيس الأميركي دونالد ترمب بعد فوزه بالانتخابات إلى تخفيف القيود التنظيمية والرقابة المالية من خلال استبدال إدارات الهيئات التنظيمية باستثناء الاحتياطي الفيديرالي، وإغلاق مكتب الحماية المالية للمستهلك، مما أدى إلى ارتفاع أسهم المصارف الكبرى تفاؤلا بمناخ أعمال أقل قيودا. وقد دفعت هذه التوجهات إلى دعوات مماثلة في انكلترا والاتحاد الأوروبي لتخفيف القيود وسط مخاوف من تراجع القدرة التنافسية لأسواقهما.  أما في سويسرا، فتتجه الإصلاحات المصرفية نحو مزيد من التشدد، إذ تشمل وضع آلية واضحة لمساءلة المديرين التنفيذيين الكبار، إضافة إلى رفع نسبة الشق الأول من رأس المال الأساسي من مستواها الحالي البالغ نحو 14في المئة من الأصول المعرضة للأخطار بما يتماشى مع المعايير الدولية، وذلك بتكلفة تُقدر بنحو 25 مليار دولار.

ويبدو هذا التوجه مفهوما في ضوء تداعيات أزمة بنك "كريدي سويس" التي اندلعت قبل نحو عامين، وشكلت ضربة لسمعة القطاع المصرفي السويسري الذي طالما عُرف بتميزه وانضباطه المالي.

أثرياء أميركا يحولون أموالهم الى سويسرا

منذ انتخاب ترمب رئيسا للولايات المتحدة في كانون الثاني/يناير المنصرم وما تلا ذلك من تفاقم الاضطرابات في الأسواق بسبب شنه حربا تجارية شاملة  ظهر اهتمام لدى العديد من الأميركيين الأثرياء بتحويل أموالهم إلى سويسرا لتنويع أصولهم في الأسواق المالية خارج نطاق الدولار.

.أ.ف.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال إعلان "يوم التحرير" والتعريفات الجمركية في 2 أبريل/نيسان 2025، في البيت الأبيض

فعلى الرغم من انتهاء السرية المصرفية باعتماد "التبادل التلقائي للمعلومات المالية" بين سويسرا والولايات المتحدة بمقتضى قانون الامتثال الضريبي الأميركي "FATCA" وانهيار مصرف "كريدي سويس" عام 2023، لا يزال المركز المالي السويسري جاذبا للثروات بسبب الاستقرار السياسي الكبير الذي تتمتع به البلاد والتوقعات بأن يكون الفرنك السويسري بمثابة تحوط استثماري أفضل من الين، نظرا الى عدم اليقين المحيط بمسار رفع أسعار الفائدة من قبل بنك اليابان.

فالاقتصاد الياباني يواجه أيضا رياحا عاتية بسبب التعريفات الجمركية الأميركية، وخاصةً على السيارات ومكوناتها. وسيعني تباطؤ الاقتصاد أن بنك اليابان سيميل أكثر إلى إبقاء أسعار الفائدة مخفضة مما يُبقي الين ضعيفا، حسب تحليلات مات أورتون، رئيس حلول الاستشارات واستراتيجيا السوق في "ريموند جيمس لإدارة الاستثمارات".

ومرد تشجع التوجه الاميركي الى سويسرا أيضا، ريادة الاخيرة في الخدمات المالية، فوفقا لدراسة اجرتها شركة "ديلويت" للتدقيق المحاسبي في عام 2024، حلت سويسرا الأولى عالميا في إدارة الثروات مع حجم أصول دولي يبلغ 2.2 تريليون دولار، والأولى أيضا في  الخدمات المحاسبية.

إقرأ ايضا: كيف قلب ترمب اقتصاد العالم رأسا على عقب في 100 يوم؟

ان المخاوف التي تجتاح أثرياء أميركا حاليا، ليست بسبب فشل المصارف والمؤسسات المالية كما حصل عام 2008، بل الخشية من ملامح سلطة استبدادية يمينية بدأت تتكون ومن خطر افتعالها للازمات الاقتصادية، حيث ستستهدف فيها أصولهم ولا يستبعد ان تنتهي بتقييد حرية تصرفهم بهذه الأصول.

.أ.ف.ب

من هنا كان تفكير بعض هؤلاء الأثرياء ليس فقط في تحويل أموالهم الى سويسرا، بل أيضا الانتقال والاقامة في قرى وبلدات صغيرة فيها، حيث تقدم كانتونات هذه القرى اعفاءات ضريبية مميزة. وقد نشرت أخيرا صحيفة "نوي زورخر تزايتونغ" (NZZ) السويسرية اليومية لائحة بأسماء هذه البلدات وعدد أصحاب الملايين من الأميركيين الذين يعيشون في كل واحدة منها، فتبين أن عددهم فاق الألف مليونير في شهرين فقط.

font change