فاروق الشرع: بشار الاسد تفوَّق على هولاكو... وكانت لديه "ميول سيكوباتية"

نائب الرئيس السوري السابق في الجزء الثاني من "الرواية المفقودة"

أ.ف.ب
أ.ف.ب
نائب الرئيس السوري فاروق الشرع في اجتماع الحوار الوطني في دمشق، سوريا في 10 يوليو 2011

فاروق الشرع: بشار الاسد تفوَّق على هولاكو... وكانت لديه "ميول سيكوباتية"

"إن ما جرى في سوريا فاق فعليا ما خلفته جحافل هولاكو من قتل ودمار في بلاد الشام... وكان هولاكو أكثر رحمة من هذا العصر الحديث". بهذه العبارة، يصف نائب الرئيس السوري السابق فاروق الشرع عهد بشار الأسد، في الجزء الثاني من مذكراته التي صدرت مؤخرا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

لم يكن مقررا لهذه المذكرات أن ترى النور لكونه مقيما في دمشق، ولم يغادرها، إلا أن تسارع الأحداث في سوريا وسقوط النظام في 8 ديسمبر/كانون الأول جعل صاحبها يوافق على نشرها، وقد انتهى من كتابتها في عام 2019. تأتي هذه المذكرات بعد عشر سنوات على صدور جزئها الأول بعنوان "الرواية المفقودة"، والتي انتهى الشرع من كتابتها في عام 2010، قبل أشهر من اندلاع الثورة السورية. وبينما كان الجزء الأول من مذكراته مخصصا لمرحلة الطفولة والشباب وسنوات عمله الطويلة مع حافظ الأسد، يُكمل الجزء الثاني ما تبقى من "الرواية المفقودة"، عن عهد بشار الأسد الذي خدم فيه فاروق الشرع وزيرا للخارجية من 2000 ولغاية عام 2005، ثم نائبا لرئيس الجمهورية حتى عام 2014. وهي أول مذكرات لمسؤول سوري تصدر منذ سقوط النظام، وستليها قريبا مذكرات نائب الرئيس عبد الحليم خدام الذي انشق عن الأسد في الساعات الأخيرة من عام 2005، وتوفي في منفاه الباريسي سنة 2020.

يبدأ الشرع مذكراته بالحديث عن بشار منذ عودته من بريطانيا بعد وفاة أخيه باسل في 21 يناير/كانون الثاني 1994، حيث بدأت عملية التحضير لوراثة أبيه وتكليفه بمهمات سياسية محددة، وتحديدا في لبنان، مع تدرجه في الجيش حتى وصل رتبة "عقيد". يقول إن تعطش بشار للسلطة ظهر عليه باكرا: "كان يقيس درجة الولاء له بمدى قبول الضباط الأعلى رتبة عسكرية منه السير إلى جانبه أو خلفه، وليس أمامه بأي حال من الأحوال حتى لو كان جنرالا. اشتكى إليّ مرة اللواء إبراهيم صافي، قائد إحدى أبرز الفرق العسكرية، بأن بشار كان يتخطاه ويمشي أمامه حين يزور لبنان". وعندما توفي حافظ الأسد في 10 يونيو/حزيران 2000، جرت ترقيته من "عقيد" إلى رتبة "فريق"، متجاوزا رتب العميد واللواء والعماد.

"ربيع دمشق"

كان الشرع قد تعرف على بشار، بطلب من الأخير، قبل وفاة أبيه، وفي أعقاب المؤتمر القطري التاسع لحزب "البعث" الحاكم سنة 2000، طلب إليه الأمين القطري المساعد عبد الله الأحمر أن يلقي كلمة تكون بمنزلة البيعة لبشار. ولكن الشرع رفض ذلك، وعلق في مذكراته: "ارتجلت كلمة تحدثت فيها عن مناقب الرئيس الراحل لأنني لم أجد ما يسوغ الإشادة ببشار، فلا سجل له يعد مثل سجل والده في الحزب، أو في الدولة أو الجيش". ويبدو أن الرئيس الجديد انتبه لهذا التفصيل ولم يغفره، فقد سيطرت عليه نقمة عارمة على الشرع استمرت حتى آخر يوم له في الحكم، وكانت تظهر في كل مفصل وكل حدث، صغيرا كان أم كبيرا.

يقول الشرع إن السبب الرئيس وراء كل ذلك أنه كان يعارضه الرأي في كثير من الأمور، ولعل أولها قرار الأسد إيقاف المنتديات الفكرية والثقافية التي ازدهرت في بداية عهده، وعرفت بـ "ربيع دمشق". تناولت هذه المنتديات أمورا جريئة وحساسة، فقرر الأسد إغلاقها واعتقال القائمين عليها، ومنهم طبعا نائب دمشق الصناعي المعروف رياض سيف.

كان بشار يقيس درجة الولاء له بمدى قبول الضباط الأعلى رتبة عسكرية منه السير إلى جانبه أو خلفه، وليس أمامه بأي حال من الأحوال حتى لو كان جنرالا

يضيف: "أبديت استغرابي للرئيس مباشرة بسبب صدور أمر باعتقال هذا الرجل، الذي لم يفعل شيئا يستحق المحاسبة عليه سوى استضافته من كان يتردد على بيته بمعرفة السلطة وأجهزة الأمن. فأجابني الرئيس: ليس المهم ما قاله الحاضرون في الغرف المكشوفة للجميع، بل ما كانوا يقولونه في الغرف المغلقة أو على موبايلاتهم. يجب أن يعلموا أن كل كلمة مسجلة. وتعمد الأسد، نتيجة إصراري معرفة سبب الاعتقال الحقيقي، أن يبلغني بأنهم كانوا يتحدثون بلغة طائفية".

التمديد للرئيس إميل لحود

يكمل الشرع في حديثه عن "ربيع دمشق"، ولو بشكل عابر، يخص بالذكر إيقاف صحيفة "الدومري" التي كان يصدرها الرسام العالمي علي فرزات، قبل أن ينتقل إلى أمور إقليمية مثل مبادرة السلام العربية أثناء القمة العربية في بيروت سنة 2002، وسقوط النظام العراقي عام 2003، وصولا إلى التمديد للرئيس اللبناني إميل لحود عام 2004. كان الأسد مصمما على هذا التمديد، مع أن الشرع وكثيرين غيره نصحوه بالعدول عن هذا القرار، لأنه مستفز للفرنسيين والأميركيين والسعوديين، ناهيك عن معارضة طيف واسع من اللبنانيين له، ومنهم حلفاء سوريا مثل رئيس مجلس النواب نبيه بري، ورئيس الحكومة رفيق الحريري. قدم الشرع للرئيس قائمة أسماء بديلة عن العماد لحود، منها النواب نسيب لحود، أو جان عبيد، أو حتى سليمان فرنجية، زعيم تيار المردة الذي عاد مرشحا للرئاسة اللبنانية قبل أشهر بتزكية من "حزب الله"، ولكنه انسحب من السباق الرئاسي لصالح الرئيس الحالي جوزيف عون.

أ.ف.ب
بشار الأسد يجلس وفاروق الشرع خلال اجتماع في مجلس النواب بدمشق مع البرلمانيين العرب، في 9 نوفمبر2008

طرحت على الرئيس الأسد اسم سليمان فرنجية رئيسا بديلا للجمهورية، قائلا له إنه صديق شخصي لكم ومحبته لسوريا مشهود لها. فأجاب: ذلك صحيح، ولكن ما زال عمره صغيرا. لاحظ استغرابي لأنه أدرك التقارب بينهما في العمر، فقال: قصدت من الناحية السياسية.

لم أجد ما يسوغ الإشادة ببشار، فلا سجل له يعد مثل سجل والده في الحزب، أو في الدولة أو الجيش

لم يكن بشار الأسد يقبل النصيحة من أحد، شأنه شأن أبيه، ويتذكر الشرع ما حدث معه عام 1998، يوم رشح بشار العماد إميل لحود للرئاسة في المرة الأولى، وأقنع أباه بتبني هذا الترشيح، خلفا للرئيس إلياس هراوي. سافر إلى باريس يومها مع عبد الحليم خدام واجتمعا بالرئيس جاك شيراك في قصر الإليزيه، الذي سلمهما ورقة صغيرة عليها أسماء أشخاص كان يراهم مناسبين لرئاسة لبنان، وكان اسم إميل لحود في المقدمة. عادا معا إلى دمشق واجتمعا مع الرئيس رفيق الحريري في دار عبد الحليم خدام، المعارض لإميل لحود من اللحظة الأولى. سألهم الحريري: "ألم تجدوا غير لحود رئيسا؟". أجابه الشرع: "الرئيس شيراك صديقك وضع اسمه في رأس القائمة، فعلق الحريري بالقول: "أنا الذي طلبت إلى الرئيس شيراك أن يضع اسمه في رأس القائمة، لأني كنت متيقنا أن الرئيس حافظ الأسد لن يختاره لهذا السبب".

العلاقة مع الحريري حتى مقتله عام 2005

وعن رفيق الحريري، يحكي الشرع كيف قابله للمرة الأولى في شقة متواضعة مستأجرة من الدولة السورية عام 1986، بعد عامين على تعيينه وزيرا للخارجية. كان أول تعليق له بعد أن تفقد الصالون والأثاث البسيط: "هذا لا يليق بوزير خارجية سوريا". كتب الشرع معلقا: "وكأنه يلمح إلى أنه سيساهم في تغيير السكن أو في إعادة تأثيث المنزل، ولقد سمعت لاحقا أنه كان يقدم ذلك لعدد من المسؤولين السوريين الكبار. لم يقتنع كثيرا بمدى ارتياحي لهذا المكان، وبالطبع تجاهلت تلميحاته بتقديم المساعدة".

يثني الشرع كثيرا على الحريري، وعلى حنكته وإنسانيته، وكيف استثمر كثيرا في تعليم اللبنانيين، وعن كرمه أيضا بعدما دخل الشرع مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت لإجراء عمل جراحي عام 1999. عرض عليه الحريري أن تكون مدة النقاهة في باريس على حسابه، ولكن الشرع اعتذر وفضل أن تكون في دمشق، وقد بقي على علاقة ودية معه، يزوره كلما حل في بيروت أو جاء الحريري إلى دمشق، حتى اغتياله في 14 فبراير/شباط 2005.

كان الشرع يومها يقيم مأدبة غداء في مطعم النبلاء في أرض معرض دمشق الدولي، بمناسبة انتهاء عمل ميغيل موراتينوس المبعوث الخاص لعملية السلام. أدخل مساعده قصاصة ورقية كتب عليها أن انفجارا ضخما قد وقع في بيروت، وأنه ربما استهدف موكب رفيق الحريري. "اتصلت بالرئيس بشار من الهاتف المحمول، ونحن نهم بمغادرة المطعم، لأستفسر منه إن كان سيرسل أحدا إلى بيروت أو يرسل تعزية. تساءل بشار: هل تكون البرقية بروتوكولية أم سياسية؟ أكدت له أن تكون سياسية لأن المستهدف من هذا الاغتيال هو سوريا ولبنان". لم يمضِ  إلا وقت قصير، وبدأت الاتهامات توجه إلى النظام الأمني السوري في لبنان، وإلى بشار الأسد شخصيا، فقررت سوريا الرسمية تجاهل الحدث بشكل كامل، وفي أثناء التشييع، تفاجأ الشرع برؤية نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام بين المشيعين، لكونه صديقا مقربا من الحريري. اتصل بالأسد مستفسرا إن كان قد أوفده إلى بيروت فنفى الأخير علمه بسفره، ورفض تكليفه بتقديم واجب العزاء باسم سوريا ورئيسها.

تتالت الأحداث مع تدويل قضية رفيق الحريري، واتهام الأسد بقتله، وطرد الجيش السوري من لبنان تطبيقا للقرار 1559، ثم جاء المحقق الألماني ديتليف ميليس، وطلب التحقيق مع عدد من الشخصيات الأمنية السورية

تتالت الأحداث مع تدويل قضية رفيق الحريري، واتهام الأسد بقتله، وطرد الجيش السوري من لبنان تطبيقا للقرار 1559، ثم جاء المحقق الألماني ديتليف ميليس، وطلب التحقيق مع عدد من الشخصيات الأمنية السورية، منها رئيس فرع الأمن الداخلي اللواء بهجت سليمان، والعميد رستم غزالة، واللواء غازي كنعان، رجل سوريا الاستخباراتي الأول في لبنان لعقود طويلة، الذي كان في حينها قد أصبح وزيرا للداخلية، وانتحر بعد استجوابه في 11 أكتوبر/تشرين الأول 2005. كان كنعان قد اتهم بمقتل الحريري، رغم الصداقة العميقة بينهما، وقد جاءه الشرع للحديث في هذه المسألة قبل وفاته، بتكليف من بشار الأسد. أصر كنعان أن يقابل الشرع في مكان خارج وزارة الداخلية– تحسبا أن يكون مكتبه مراقبا وأحاديثه مسجلة- وعاد الشرع بعدها ليبلغ الأسد عما دار بينهما، وسأله لاحقا إن كان موت غازي كنعان فعلا انتحارا، أم إنه قتل. وهنا يكشف الشرع تفصيلا صغيرا ويقول: "رفع الرئيس سماعة الهاتف فورا، وتحدث إلى مدير مكتبه أبو سليم دعبول قائلا: يجلس بجانبي أبو مضر. طلب الرئيس منه قراءة رسالة غازي كنعان التي أرسلها إليه قبل وفاته. قرأ أبو سليم نص الرسالة، بعد أن ضغط الرئيس على زر الهاتف لأستمع إلى الصوت مباشرة. كانت رسالة يرجو كنعان الرئيس فيها بأن يرعى عائلته وأولاده من بعده، وتخللها الكثير والتقدير للرئيس". 

هذا فيما يتعلق بالرواية الرسمية حول مقتل كنعان، التي روج لها الأسد وأعوانه، أما رواية آصف شوكت، صهر الرئيس، فكانت "أكثر تفصيلية وتصويرية" بحسب تعبير الشرع، فهو يقول إنه كان على موعد مع كنعان في الساعة التاسعة من صباح يوم انتحاره "لكن كنعان جاء إلى وزارة الداخلية حوالي الساعة الثامنة، ثم غادر إلى بيته فورا، ومن هناك اتصل يقول إنه قد يتأخر قليلا عن الموعد. ربما أحضر كنعان معه المسدس الذي انتحر به برصاصاته لأنه لم يعد يحمل مسدسا منذ أن أصبح وزيرا".

أ.ف.ي
غازي كنعان، رئيس جهاز الأمن السوري في لبنان، عبد الحليم خدام، نائب الرئيس السوري، إلياس الهراوي، الرئيس اللبناني، وزير الخارجية السوري فاروق الشرع، رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، ووزير الخارجية اللبناني فارس بويز

اللقاء الموعود مع إيهود أولمرت

تطرق الشرح إلى مساعي رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان آنذاك في الوصول إلى اتفاق سلام بين سوريا وإسرائيل، والجمع بين الأسد ورئيس وزراء إسرائيل أيهود أولمرت. وقد وجد الفرصة السانحة في أثناء انعقاد قمة الاتحاد من أجل المتوسط في باريس منتصف شهر يوليو/تموز 2008، بحضور الأسد وأولمرت وعدد كبير من الرؤساء. يقول الشرع: "أخبرني الأسد بأن أية صيغة سلام يوافق عليها هو شخصيا سيسير الشعب السوري خلفه مؤيدا من دون تدقيق في بنود هذا الاتفاق".

وهذا طبعا ما يؤكد بأن بشار الأسد كان ينظر إلى الشعب السوري نظرة استخفاف وتعالٍ، وهو يعتقد أنه أفهم من الناس أو بأن هذا الشعب جاهل، لا يقرأ ولا يدقق في الأمور السياسية. لفت الشرع انتباه الأسد إلى أن والده لم يكن لديه التفكير بتجاهل "حتى رأي حاجب على باب مكتبه" ولكن بشار أجابه بأنه لو فعل ذلك، فلا يستبعد أن يطلق النار أحد الجنود المكلفين بحراسته. ويختم الشرع الحديث حول هذا الموضوع بالقول: "لكن لحسن الحظ أو لسوئه، لم يحدث ذلك اللقاء الموعود، ربما بسبب تمنع أولمرت وخشيته من المؤسستين الأمنية والعسكرية في إسرائيل".

في الفصل الأخير، يتطرق الشرع إلى أحداث  ما يعرف بـ "الربيع العربي" التي بدأت في تونس نهاية عام 2010 وانتقلت سريعا إلى مصر واليمن ومن ثم ليبيا، وصولا إلى سوريا في مارس/آذار 2011. وهنا يذكر بلقاء الأسد الشهير مع صحيفة "وول ستريت جورنال" في 31 يناير 2011، والتي يصف فيها كلام بشار ساخرا "بالنبوءة" عندما قال: "سوريا ليست كتونس أو مصر". يستغرب الشرع هذا التبرؤ من الرؤساء زين العابدين بن علي وحسني مبارك، معللا كره بشار للرئيس المصري لأنه كان يقول له: "يا ابني بشار"، لكونه أكبر من حافظ الأسد بسنتين: "لقد احتاج الأمر مني سنين لأدرك كم كان الأسد الشاب مزهوا بنفسه... وما مئات الصور والشعارات المنتشرة على كل عمود أو جدار- التي تضعه فوق كل اعتبار– إلا مثال بسيط على ذلك، فهو لم يأمر بإزالتها، كأنما أصبحت ديمومتها هي الهدف وليس مستقبل سوريا".

أخبرني الأسد بأن أية صيغة سلام يوافق عليها هو شخصيا سيسير الشعب السوري خلفه مؤيدا من دون تدقيق في بنود هذا الاتفاق

عن الثورة السورية

يقول الشرع إنه طلب من الأسد مرارا أن يقوم بإصلاحات داخلية تكون جدية وجذرية، منها محاربة الفساد، وإطلاق سراح المعتقلين، وحرية الأحزاب، ورفع الأحكام العرفية، لكي تصل سوريا إلى ما يصفه بالدولة التعددية الديمقراطية. ثم جاءت حادثة اعتقال أطفال درعا– مسقط رأس فاروق الشرع–  الذين أودعوا في فرع فلسطين العسكري، المخصص للمشبوهين بالتخابر والعمالة، لأنهم كتبوا على جدران مدرستهم "جايك الدور (آتيك) يا دكتور"، وهي الحادثة الشهيرة التي أطلقت الثورة السورية. كانت شهادة الشرع في هذا الحدث على الشكل الآتي: "زعمت التعليقات أن أظافر بعض أطفال درعا اقتُلعت في أثناء التعذيب، لكن أخبرني اللواء هشام اختيار رئيس مكتب الأمن القومي، الذي قام بتسليم التلاميذ إلى أهلهم باليد، أنه لم يلحظ أن أحدا من الفتيان اقتلعت أظافره".

انفجرت المظاهرات العارمة والسلمية في طول البلاد وعرضها، مطالبة بالإصلاحات قبل أن يتحول مطلبها إلى "إسقاط النظام". في درعا حُطم تمثال حافظ الأسد، فدعا بشار فريقه الحزبي والسياسي إلى اجتماع، يصف الشرع أجواءه بالقول: "كان واضحا لي أن انزعاجه كان متمحورا حول ما أصاب صورته من تشويه في درعا بالدرجة الأولى، فقال بصوت متهدج: أنا لا يهمني سوى الاعتداء على تمثال الرئيس حافظ الأسد ولا تهمني صورتي الشخصية، ملتفتا إلى يمينه كأنه يوجه غضبه المكتوم نحو محمد سعيد بخيتان الأمين القطري المساعد لحزب البعث".

جاءت حادثة اعتقال أطفال درعا– مسقط رأس فاروق الشرع–  الذين أودعوا في فرع فلسطين العسكري، المخصص للمشبوهين بالتخابر والعمالة، لأنهم كتبوا على جدران مدرستهم "جايك الدور (آتيك) يا دكتور

فهم بخيتان الرسالة، وحاول تهدئة الأسد بقوله: "يا سيادة الرئيس، كل شيء سيعود كما كان، التمثال والصور". لم يتساءل الأسد عن سبب هذه الكثرة من الصور له ولأفراد الأسرة كافة، ولا عن هذا الكم الهائل من التماثيل، وإن كانت حقا مستفزة للناس ورمزا للطغيان والاستبداد والديكتاتورية. يبدو أنه كان يعدها أساسا في هيمنة النظام النفسية على المواطنين، ومع ذلك وعد الأسد بالقيام بالإصلاحات المطلوبة منه وبناء عليه قال الشرع كلمته الشهيرة أمام الإعلاميين يومها، بأن "السيد الرئيس" سيسمع الشعب ما يسره. ولكن الأسد لم يقل كلاما من هذا النوع بالمطلق، ومضى في روايته حول العصابات الإرهابية المسلحة، والمندسين، وحفنة الدولارات التي كانت تدفع للمتظاهرين، رافضا ولو لدقيقة واحدة، الاعتراف بأنه أخطأ، وأن هؤلاء المتظاهرين هم مواطنون سوريون، لهم كرامة وحقوق يضمنها الدستور.  

وفي اجتماع نادر عقد في بداية الأحداث بحضور رؤساء الأجهزة الأمنية وأعضاء القيادة القطرية لحزب "البعث"، تحدث الشرع عن التغيرات التي عصفت بأوروبا الشرقية في نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات، تزامنا مع انهيار المعسكر الشرقي في الحرب الباردة. ذكر على وجه التحديد رئيس رومانيا نيكولاي تشاوشيسكو، وكيف أعدم هو وزوجته في عام 1989، ثم تطرق إلى فساد الأجهزة الأمنية في سوريا وضلوعها في التهريب والإتاوات. أغضبت هذه الكلمات اللواء جميل حسن، مدير المخابرات الجوية، وبعدها بمدة عندما طلب إليه الشرح بواسطة مدير مكتبه إطلاق سراح بعض الموقوفين في درعا، أجابه جميل حسن: "قل لأبي مضر إننا مؤسسة غير فاسدة عكس ما ادعى، فلذلك نحن لا نقبل الواسطة من أحد".

مؤتمر الحوار الوطني

في شهر يوليو من عام 2011، شكل الأسد هيئة للحوار الوطني برئاسة فاروق الشرع، دعت 213 شخصا إلى جلسة مناقشة سياسية في مجمع صحارى على أطراف دمشق، حضر منهم 187 شخصا، واعتذر 26 مدعوا، بمن فيهم معارضون معروفون مثل الدكتور برهان غليون والدكتور سمير عيطة والدكتور هيثم المناع، الذي كان أخوه معتقلا في سجون النظام. كتب الشرع: "كنت أعرف مسبقا أن المعارضة في الخارج لن تغامر بالحضور للمشاركة في هذا المؤتمر لأن أسماءهم كانت لا تزال على قوائم الممنوعين من دخول سوريا. أرسلت تعميما إلى جميع سفاراتنا في الخارج لحل موضوع الممنوعين من العودة وإصدار جوازات سفر لهم". ولكن ذلك لم يحصل فاتصلت بالأسد مستوضحا أسباب عدم تنفيذ الجهات المعنية لهذا الأمر، فكان جوابه أن هناك أضابير بأسماء أكثر من 300 ألف مواطن لا يمكن تسويتها بالسرعة المطلوبة.

ويبدو أن الأسد لم يكن متحمسا للحوار الوطني، وبأنه قبل به مرغما للتحايل على المجتمع الدولي، بعد أن عزم أمره على الخيار العسكري لمواجهة المتظاهرين والمعارضة. ومع اقتراب موعد الجلسة الأولى من الحوار الوطني، تحولت حالة عدم الحماس لدى الأسد إلى شيء أقرب إلى العداء تجاه هذا المؤتمر. أولى تلك الإشارات بالنسبة للشرع كانت في رفض الأسد البث التلفزيوني المباشر لجلسات الحوار. تساءل عن مدى ضرورة ذلك، فأجابه الشرع: "توجد مصلحة وطنية وخاصة في هذه الظروف كي يطلع الرأي العام السوري على وجود حوار بين السوريين بموافقة الدولة نفسها".

يضيف الشرع: "لم يكن الرئيس مرتاحا لفكرة النقل التلفزيوني المباشر، لكن بعد مناقشة طويلة معه وافق مشروطا أن يكون البث لجلسة الافتتاح فقط". وقد انقطع البث بالفعل من بعدها، ولم يتصور الناس– بحسب ما قاله الشرع: أن "الرئيس هو الذي أمر بقطع الإرسال التلفزيوني، لأنه وحده يملك صلاحية الأمر بذلك".

أثير جدل كبير جدا حول المادة الثامنة من الدستور التي وضعها حافظ الأسد عام 1973، وبقيت قائمة حتى عام 2012، وهي تقول إن حزب "البعث" هو "القائد للدولة والمجتمع"

وقد أثير يومها جدل كبير جدا حول المادة الثامنة من الدستور التي وضعها حافظ الأسد عام 1973، وبقيت قائمة حتى عام 2012، وهي تقول إن حزب "البعث" هو "القائد للدولة والمجتمع". السواد الأعظم من السوريين كانوا يريدون إلغاء هذه المادة، إلا أن الأسد كان متمسكا بها كل التمسك. يقول الشرع: "اتصل الرئيس بي حول هذا الموضوع وطلب مني بإصرار أن لا أقبل طرح المادة الثامنة (على طاولة الحوار الوطني). قلت له: لا أستطيع لأن اللقاء له صفة مؤتمر، وهو سيد نفسه مثل كل المؤتمرات." اتصل به نائب رئيس الجبهة الوطنية التقدمية وأحد أعضاء هيئة الحوار صفوان القدسي، وقال إن الرئيس أمره بأن لا يوافق على مناقشة المادة الثامنة مطلقا. وقد جاءت زيارة السفير الأميركي روبرت فورد إلى مدينة حماة غداة افتتاح المؤتمر لتعطي الأسد الذريعة الكافية لتدمير أي مخرجات كان من الممكن أن يقرها. أمر الأسد بإرسال الدبابات إلى حماة لتخويف المتظاهرين السلميين الذين استقبلوا السفير فورد، وقد أثنى الشرع على هذه المظاهرة ولكن الأسد أجابه بانزعاج شديد: "لقد استقبلوا السفير الأميركي بالزهور". سأله الشرع إن كان من يحمل الزهور من مئات الآلاف هم كلهم من حماة فأجابه الأسد: "ومن قال إنهم كانوا بمئات الآلاف؟ لم يتجاوز عددهم 80 ألفا". وهذه كلمة يجب التوقف عندها، إذ إن الأسد كان يقلل من عدد الثمانين ألف متظاهر، ويصفهم جميعا بأنهم عملاء للأميركان.

أ.ف.ب
فاروق الشرع، ووزير الخارجية وليد المعلم، والمستشارة السياسية للأسد، بثينة شعبان، ونائب وزير الخارجية فيصل المقداد، خلال استقبال رسمي في قصر الشعب الرئاسي بدمشق، في 24 يونيو2009

قرر الأسد التشويش على مؤتمر الحوار تمهيدا لإفشاله، وأرسل باصات محملة "بالشبيحة" (وهي عبارة محلية يستخدمها السوريون للتعبير عن زعران النظام) للتجمهر عند السفارتين الأميركية والفرنسية في صباح 11 يوليو، واعتقل 1600 شخص من حي الميدان الدمشقي، وأخيرا أوعز إلى شخصيات حزبية عدة بمهاجمة مؤتمر الحوار، ومنهم من كان حاضرا به ولم يعترض على مخرجاته، مثل رئيس اتحاد الفلاحين ورئيس اتحاد طلبة سوريا.

العزل والتقاعد

على الرغم من بقاء الشرع في منصبه حتى نهاية ولاية بشار الأسد الثانية عام 2014، إلا أنه قرر الاعتكاف وعدم الذهاب إلى المكتب أو ممارسة أي نشاط رسمي. ولعل آخر ما قام به هو المشاركة في تشييع المسؤولين السوريين الذين قضوا في تفجير "خلية الأزمة" في 18 يوليو 2012، وكان من ضمنهم وزير الدفاع العماد داود راجحة، واللواء هشام اختيار رئيس مكتب الأمن الوطني، والعماد آصف شوكت صهر آل الأسد.

يقول: "جرى بعدها إغلاق مكتبي وسرح معظم الكادر الوظيفي الذي كان يعمل معي بمن فيهم عمال النظافة، ونقل عدد قليل منهم إلى وزارات أخرى في الدولة. وبعدها وصلت رسائل لكل من كانت له علاقة بي ويعمل في الدولة بمنع زيارتي أو التواصل معي. من غير الموثق في الصحف الرسمية متى تركت منصبي ولم توضح القيادة التي كنت عضوا فيها إذا كنت قد قدمت استقالتي من الحزب أو أقلت منه. ترك الأمر لتكهنات وسائل الإعلام العربية والأجنبية، فتارة تعتبرني منشقا عن النظام، وتارة أخرى في إقامة جبرية أو خاضعا لحماية دولة كبرى".

كان الرئيس الغارق في حب الذات لا يستطيع سماع سوى كلمات المديح، وكانت لديه بعض الميول السيكوباتية، وهي حالة نفسية يفتقد أصحابها كليا للمشاعر، فلا خوف من العواقب، ولا شعور بالندم تجاه الخطأ

يقول فاروق الشرع: "كان الرئيس الغارق في حب الذات لا يستطيع سماع سوى كلمات المديح، وكانت لديه بعض الميول السيكوباتية، وهي حالة نفسية يفتقد أصحابها كليا للمشاعر، فلا خوف من العواقب، ولا شعور بالندم تجاه الخطأ، ولا تفاعل مع آلام الناس أو حتى هموم المحيطين به. قد تبدو هذه الصفات، أول وهلة، صلابة أو جسارة، لكنها جسارة تفتقد بشدة للحكمة".

font change