الهولندية غيردا بليس والبحث عن أساليب مبتكرة لسرد القصص

روايتها "نحن الضوء" تروي العالم من خلال الأشياء والصوت الجماعي

غيردا بليس

الهولندية غيردا بليس والبحث عن أساليب مبتكرة لسرد القصص

تمزج الكاتبة والفنانة الهولندية غيردا بليس المولودة عام 1985، بين النص البصري والسرد الأدبي. برز اسمها من خلال روايتها "نحن الضوء" الحاصلة على جائزة الاتحاد الأوروبي للأدب لعام 2021 كما ترشحت ضمن القائمة القصيرة لجائزة دبلن الدولية 2025، ولها أيضا مجموعة قصصية بعنوان "لم نفكر في الموت" وديوان شعري بعنوان "أضواء سائبة". تستكشف من خلال أعمالها الوعي الجمعي والهويات المتعددة والتجربة الإنسانية في لحظاتها الأكثر هشاشة وغرابة. في هذا الحوار، تتحدث غيردا بليس عن مصادر إلهامها، وأسئلتها الكبرى، وأثر الفن البصري على طريقة بنائها للنصوص.

حظيت روايتك "نحن الضوء" بإشادة واسعة بسبب أسلوبها السردي الفريد، ولا سيما طبيعة الرواة فيها، ما الذي دفعك إلى اختيار هذا البناء؟

كانت نقطة الانطلاق للرواية خبر صحافي عن جماعة صغيرة تتكون من أربعة أشخاص قرروا أن يعيشوا كـ"تنفسيين"، أي أن يتغذوا على الهواء والضوء بدلا من الطعام. أصبحت قصتهم حديث الصحافة الوطنية عندما توفى أحدهم بسبب سوء التغذية. رأيت في هذه القصة مادة خصبة لعمل روائي، وكنت أريد أن أستكشف كيف يمكن أن تصل مجموعة من الناس إلى سلوك جماعي متطرف بهذه الطريقة.

منذ البداية، عرفت أنني أريد أن أروي القصة من وجهات نظر متعددة. بدأت بكتابة الفصل الأول من منظور الطبيب الذي طلب منه تحديد سبب الوفاة، لكنني شعرت أن صوته لا يضيف الكثير من العمق. في تلك اللحظة، تذكرت أغنية كنت ألفتها لتغنيها الجماعة في الرواية "نحن الضوء، نحن الحب، نحن الأصوات من حولنا". وراودتني فكرة: ماذا لو كان الضوء يتكلم؟ ماذا سيقول؟ وإذا كان في إمكان الضوء أن يتكلم، فأي صوت يمكن أن أعطيه له؟ هكذا ظهرت أمامي مجموعة من الرواة غير التقليديين: الليل، الشك، رائحة البرتقال وغيرها من أشياء.

هكذا ظهرت أمامي مجموعة من الرواة غير التقليديين: الليل، الشك، رائحة البرتقال وغيرها من أشياء

قررت أن أروي كل فصل من فصول الرواية الخمسة والعشرين بصوت مختلف، وكل صوت يقدم زاوية جديدة لفهم الديناميكيات التي دفعت هذه الجماعة إلى نمط حياة غير تقليدي أدى في النهاية إلى الموت.

قوة الأفكار

تحفز الرواية على التفكير في المثالية والتلاعب والعيش الجماعي. ما الذي ألهمك لكتابة عمل عن جماعة تحاول النجاة بالضوء والحب فقط؟ وكيف بنيت العمق النفسي للشخصيات؟

لطالما فتنت بأولئك الذين يتصرفون على نحو يتعارض تماما مع احتياجاتهم أو مصالحهم، والامتناع عن الأكل هو أحد أقوى هذه الأمثلة. أن تحاول التغلب على حقيقة فيزيائية بديهية مثل الحاجة إلى الطعام، هو محاولة لهزيمة الواقع.

غلاف رواية "نحن الضوء"

أردت أن أفهم كيف يمكن لأشخاص أن يقتنعوا بشيء بهذه القوة، ولماذا يتمسكون به حتى عندما يؤدي إلى وفاة أحدهم. ولأجل بناء الشخصيات، أجريت بحثا معمقا عن الجماعة الحقيقية التي استلهمت منها القصة. في تلك الفترة، كانت لديهم مدونة مفصلة عن أسلوب حياتهم. كما استعنت بخبرتي الشخصية: سبق لي العيش ضمن مجموعات لأكثر من عشر سنوات، وكنت جزءا من حركة بوذية. وخلال هذه التجارب، رأيت عن قرب آليات السلطة، وكيف يمكن الناس — بمن فيهم أنا — أن يمارسوا التلاعب بعضهم على بعض عبر خطاب لطيف عن الجماعة والمثل العليا.

 القصة تروى عبر أصوات عدة كما ذكر، كيف ساعد ذلك في فهم مصير إليزابيث؟

كل راو يقدم نافذة مختلفة عن القصة، فمعرفته ونظرته وشخصيته تحدد كيف يرى ما حدث، وهو ما منحني القدرة على تناول الحكاية من زوايا متعددة، وموازنة الأحكام المختلفة التي قد نصدرها في حق الشخصيات.

على سبيل المثل، وجدت صعوبة في التعاطف مع شخصية ميلودي، الشخصية الأكثر هيمنة في الجماعة، وهي أيضا شقيقة إليزابيث الصغرى. فقررت أن أروي أحد الفصول من وجهة نظر جواربها الصوفية، التي تحبها كثيرا. هذا ساعدني في فهم دوافعها، ولماذا تنكر أن نمط حياتهم هو ما تسبب في وفاة شقيقتها.

القصص التي تهمني تروى غالبا من خلال تعدد الأصوات والعلاقات التي تربط الكائنات بعضها ببعض

فضلا عن ذلك، ثمة اللعب والمتعة. كان من الممتع تخيل ما الذي تعرفه "رائحة البرتقال"، أو كيف يمكن أن "يتحدث" الخرف. القصة في جوهرها ثقيلة، وسردها بهذه الطريقة أتاح لي أن أدخل شيئا من الخفة والمرح.

الوعي الجماعي

نجد في أعمالك حضورا قويا لموضوع الوعي الجماعي، كيف تطور ذلك؟

أحد الخيوط المشتركة بين هذه الأعمال هو استخدام الضمير الجمعي "نحن". بدأت التجريب به في مجموعتي القصصية، ثم كتبت قصيدة طويلة بهذا الأسلوب في ديوان "أضواء سائبة"، وأخيرا بنيت رواية "نحن الضوء" كاملة من خلال هذا الصوت الجماعي. نشأت في هولندا، وسط تراث أدبي يعلي السرد بضمير المفرد، لكني أعتقد أنني تحررت أخيرا من فكرة أن الأدب يجب أن يتمحور حول معاناة فرد واحد. هذا ممكن، بالطبع، لكن القصص التي تهمني تروى غالبا من خلال تعدد الأصوات والعلاقات التي تربط الكائنات بعضها ببعض.

Bartjan de Bruijn
غيردا بليس

درست الفنون الجميلة، واشتغلت على السرد من خلال وسائط بصرية. كيف يؤثر هذا الجانب الفني في كتاباتك الأدبية؟ وهل ترين أن هناك تقاطعات بين الممارسة البصرية والكتابية؟

أعمل حاليا على روايتي الثانية، وأستطيع القول إنني "أرى" رواياتي قبل أن أكتبها. هناك صورة بصرية وزمانية ومكانية تتشكل في ذهني لما أريد أن أكتبه. روايتي المقبلة تدور حول حادثة تحطم طائرة شحن في حي بييلمر بأمستردام عام 1992، وهو حي يسكنه عدد كبير من المهاجرين. الطائرة سقطت بحركة حلزونية، وتخيلت كيف أن مكان الاصطدام كان يقترب أكثر فأكثر من زاوية رؤية الطيارين. من هذه الفكرة صممت أعمالا بصرية تتضمن عناصر تنمو أو تنكمش بشكل كبير، وهذا المفهوم نفسه أصبح جزءا من بنية الرواية: كل فصل يقترب من لحظة التحطم يكون أطول من الذي قبله، وبعد التحطم، تبدأ الفصول في التقاصر تدريجيا. هكذا، يغذي عملي البصري كتابتي، وتؤدي الكتابة بدورها إلى أفكار جديدة للترجمة البصرية.

لغات أخرى

ترجمت أعمالك إلى لغات عدة. كيف ترين أثر الترجمة في استقبال كتاباتك؟

لقاء أشخاص قرأوا أعمالي بلغات أخرى هو دائما لحظة ساحرة. من الرائع أن تتجسد شخصياتي في خيال القراء، لكن أن تمر هذه الصور عبر عدسة لغة مختلفة، معجزة في حد ذاته. من المثير أيضا أن أرى كيف تؤثر الأطر الثقافية المختلفة في طريقة تلقي النص، والاستماع الى هذه القراءات يثري فهمي لما أكتبه على نحو لم أكن أتوقعه.

غلاف النسخة الانكليزية من رواية "نحن الضوء"

هل هناك كتاب أثروا في كتابتك؟

عندما بدأت بقراءة الأدب، تأثرت كثيرا بخوسيه ساراماغو وغبريال غارثيا ماركيز. أعجبتني قوتهما السردية، وجرأتهما في الحديث عن وقائع "مستحيلة" وكأنها جزء طبيعي من العالم.

لا يمكن تقليل دور الكتابة عن الآخرين، بشرا أكانوا أم غير بشر، في مساعدتنا على اكتشاف ما يجمعنا

هناك خفة في لغتهما، وهذا جذبني بشدة. أما في الشعر، فقد ألهمتني أسماء شابة من جيلي، مثل الشاعرة الهولندية ليكه مارسمن. كانت أصوات هؤلاء الكتاب هي طريقتهم الخاصة في مخاطبتي كقارئة، وهي ما حفزني في النهاية لأجد صوتي الخاص.

كيف تنظرين إلى دور الأدب في تشكيل الفهم الثقافي والتعاطف الإنساني؟

القراءة والكتابة هما طريقتي المفضلة لاختبار تجارب تختلف عن تجربتي الشخصية. حين أقرأ أو أكتب قصة، تصبح شخصياتها حاضرة في ذهني، وتظل معي لوقت طويل. لا يمكن تقليل دور الكتابة عن الآخرين، بشرا أكانوا أم غير بشر، في مساعدتنا على اكتشاف ما يجمعنا رغم كل الاختلافات الظاهرة بيننا.

font change