العنف الطائفي ضد الدروز... تحذير لا يمكن لسوريا تجاهله

على دمشق أن تتحرك بسرعة وبحزم

العنف الطائفي ضد الدروز... تحذير لا يمكن لسوريا تجاهله

استمع إلى المقال دقيقة

شهدت سوريا مؤخرا فصلا جديدا ومقلقا من فصول العنف، تمثل هذه المرة في بلدتي صحنايا وجرمانا، ذات الغالبية الدرزية في ريف دمشق. وقد فجّرت التوترات الطائفية مقطع صوتي منسوب إلى شيخ درزي، يتضمن إساءة للنبي محمد، مما أجّج مشاعر الغضب، وأثار موجة من الاحتقان.

ورغم احتواء الأزمة الفورية، فإن احتمالات تجدّد العنف الطائفي لا تزال مرتفعة بشكل خطير، في ظل غياب معالجة جذرية للأسباب الكامنة وراء هذه التوترات. ويزيد الوضع هشاشة افتقار السلطات الانتقالية، إلى آليات فعّالة لرصد الإنذارات المبكرة للعنف ذي الدوافع الطائفية، فضلا عن غياب ردود سريعة، تحول دون التصعيد وتحمي المدنيين من تداعياته.

وفي حال لم تبادر السلطة إلى سدّ هذه الثغرات من خلال اعتماد استراتيجيات شاملة للوقاية من النزاعات، وسنّ تشريعات صارمة، لمكافحة خطاب الكراهية والتحريض على العنف، إلى جانب تدابير أمنية قوية، فإن البلاد تُواجه خطر الانزلاق نحو مسار شديد الخطورة، ستكون عواقبه كارثية على سوريا، وعلى مستقبل انتقالها السياسي الهش.

تسجيل ملفق.. لكن العنف حقيقي

اندلعت التوترات للمرة الأولى خلال عطلة نهاية الأسبوع التى صادفت 25 أبريل/نيسان، عقب انتشار تسجيل صوتي على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يتضمن إساءات للنبي محمد. وسرعان ما تحولت ردود الفعل الغاضبة إلى أعمال عنف، حيث تعرّض طلاب دروز يقيمون في السكن الجامعي بمدينة حمص، لهجمات وضرب من قبل طلاب آخرين.

سارعت السلطات في دمشق إلى الإعلان عن اعتقال المتورطين في هذه الاعتداءات، معتقدة أن الأزمة باتت تحت السيطرة. غير أن الواقع كان مخالفا تماما، إذ لم يكن ما جرى سوى البداية. فخلال ساعات قليلة، امتد الغضب حتى طال بلدتي جرمانا وصحنايا في ريف دمشق، حيث شنّت مجموعات مسلحة مجهولة، هجمات على المنطقتين، لتندلع اشتباكات بينها وبين مقاتلين دروز محليين، وقوات الأمن التابعة للحكومة.

وعلى الرغم من أن كلّا من المتهمين والسلطات الانتقالية، أنكروا علنا صحة التسجيل، ووعدوا بمحاسبة المسؤولين عنه، فإن العنف استمر وامتد إلى مناطق أخرى في محافظة السويداء. ورغم غياب أرقام رسمية عن عدد الضحايا، تفيد تقارير محلية بمقتل عدد من المقاتلين الدروز، وأفراد من جهاز الأمن العام التابع لحكومة دمشق.

تُظهر هذه الحادثة مدى سهولة زعزعة استقرار مجتمعات بأكملها بفعل شرارة واحدة، وتفضح عمق التوترات الطائفية غير المعالَجة التي راكمتها سنوات الحرب، وأسهمت في تغذيتها حملات الشيطنة الممنهجة ودوامات الانتقام المتكررة

جمر تحت الرماد

رغم أن وتيرة العنف قد تراجعت بفضل تفاهمات عُقدت مع وجهاء المناطق ذات الغالبية الدرزية، فإن ما جرى يكشف عن مخاطر، تتجاوز بكثير أحداث الأسبوع الماضي. فالحقيقة المقلقة تكمن في أن تسجيلا صوتيا، يبدو أنه مفبرك، كان كفيلا بإشعال موجة عنف بهذه السرعة والدموية، ما يسلّط الضوء على مدى هشاشة الوضع الراهن في سوريا.

تُظهر هذه الحادثة مدى سهولة زعزعة استقرار مجتمعات بأكملها بفعل شرارة واحدة، وتفضح عمق التوترات الطائفية غير المعالَجة التي راكمتها سنوات الحرب، وأسهمت في تغذيتها حملات الشيطنة الممنهجة ودوامات الانتقام المتكررة. كما تشير إلى أن الانتهاكات الأخيرة التي استهدفت مجتمعات علوية، رغم اختلاف دوافعها المباشرة، نابعة من الجذر الطائفي نفسه الذي لا يزال يشعل فتيل عدم الاستقرار في البلاد.

وتُبرز الحادثة أيضا أن الإيماءات الرمزية نحو الشمولية والوحدة، والمشاركة الشكلية للمجتمعات، لا يمكن أن تُثمر عن استقرار حقيقي، ما لم تُعالج الانقسامات العميقة والمتجذرة التي تعصف بالنسيج الاجتماعي السوري.

الوقت ينفد

رغم أهمية الاعتراف بجسامة التحديات وتضارب الأولويات التي تواجهها السلطات الانتقالية في سوريا، فإن معالجة التوترات الطائفية الكامنة تظل مهمة ملحّة لا تقبل التأجيل. غير أن هذه المسؤولية تتجاوز إمكانيات لجنة السلم الأهلي، التي شُكّلت مؤخرا وتضم ثلاثة أعضاء فقط، إذ تفتقر اللجنة إلى الخبرة والموارد اللازمة للتعامل مع أزمة بهذا الحجم والتعقيد.

ومن الحكمة أن تدرك السلطات الانتقالية، عاجلا لا آجلا، الحاجة إلى دعم خارجي فني ومؤسساتي لوضع استراتيجية شاملة وموثوقة لمجابهة هذه الأزمة متعددة الأبعاد.

وعلاوة على ضرورة صياغة استراتيجية متكاملة، تحتاج السلطات بشكل عاجل إلى دعم لإرساء آليات واضحة ومنهجية، لرصد خطاب الكراهية والتحريض الطائفي، وتحديد المسؤولين عنه ومحاسبتهم. كما يجب أن تُستكمَل هذه الجهود، بمنظومة إنذار مبكر قادرة على رصد المخاطر قبل أن تتفاقم إلى مستويات عنف، بما يمنح السلطات وقتا كافيا للتدخل والاحتواء.

الاحتواء وحده لا يكفي

إلى جانب الإصلاحات القانونية، يُعد تطوير بروتوكولات أمنية قوية واستباقية أمرا بالغ الأهمية لتمكين السلطات من الاستجابة السريعة للتهديدات الناشئة، وحماية المجتمعات المعرّضة للخطر. فالتدابير الوقائية الظاهرة والفعالة، ترسل رسالة حاسمة إلى الفئات المهددة مفادها أن الدولة جادة في ضمان أمنهم- وهي خطوة ضرورية للحد من الانتشار غير المنضبط للأسلحة، وإعادة بناء الثقة العامة بالمؤسسات الوطنية.

يجب أن يُحاسب كل من حرّض على العنف عبر الإنترنت، إلى جانب من نفّذوا الهجمات، وأن يواجهوا عواقب حقيقية

ولا بد أن تكون المساءلة ركيزة أساسية لهذا النهج. يجب أن يُحاسب كل من حرّض على العنف عبر الإنترنت، إلى جانب من نفّذوا الهجمات، وأن يواجهوا عواقب حقيقية. فهذا لا يعزز فقط ثقة الجمهور بالسلطات الانتقالية والتزامها بسيادة القانون، بل يبعث أيضا برسالة واضحة مفادها أن العنف والتحريض الطائفي لن يُسمح بهما بعد اليوم.

ثمن التقاعس

في غياب هذه الإجراءات، سيبقى مسار الانتقال الهش في سوريا عرضة للخطر، تنهشه الانقسامات الطائفية ذاتها، التي تستمر الدولة في تجاهلها. وقد يُسهم الاحتواء السريع لأحداث العنف في كبح التصعيد الفوري، لكنه يترك الجروح العميقة دون علاج، ما يفاقم من تآكل التماسك الاجتماعي، ويزيد منسوب الشك ويُمهّد لمواجهات قادمة ستكون بلا شك أكثر عنفا وزعزعة للاستقرار.

إن كانت دمشق تأمل فعلا في رأب هذه الانقسامات، ومنع موجات الاضطراب المقبلة، فعليها أن تتحرك بسرعة وبحزم. فالأمر لا يقتصر على ضمان التعايش، بل يشكل ركيزة أساسية لبقاء عملية الانتقال السياسي الهشة، ولإمكانية تحقيق تعاف مستدام وشامل. أما التقاعس، فسيؤدي لا محالة إلى دوامة مستمرة من العنف والتفكك، تُهدَر فيها فرص السلام الدائم واحدة تلو الأخرى.

font change