بعد يومين من وقف إطلاق النار على الجبهة الهندية–الباكستانية، أُعيد تدشين تمثال ضخم للملك الهندي شيفاجي في منطقة سيدهودورغ في ولاية مهارشترا وسط البلاد.
التمثال الذي يبلغ ارتفاعه عشرة أمتار حل مكان آخر مشابه انهار في سبتمبر/أيلول الماضي وتعهدت السلطات يومها بإعادة نصبه في مكانه وبحالٍ يضمن استمراره "لمئة سنة".
وقد ورد اسم الملك الذي عاش وحكم في النصف الثاني من القرن السابع عشر، مرات عدة في مقابلات للمعلقين الهنود على شاشات التلفزة، في إشارة تحمل أكثر من مغزى. ويمثل شيفاجي موضوعا أثيرا عند الكتاب والمؤرخين الهنود المؤيدين لنظرية "الهندوتفا" التي ترمي إلى جعل البلاد دولة قومية–دينية هندوسية بقيادة حزب "بهاراتيا جناتا" وزعيمه رئيس الوزراء ناريندرا مودي.
وشخصية شيفاجي محورية في الرواية القومية الهندية السائدة منذ سنوات. فالملك الذي استلم السلطة صغيرا، تمكن من هزيمة ممالك كان يحكمها مسلمون، إضافة إلى صراع طويل مع الإمبراطور المغولي أورنغزيب الذي يعتبر الأكثر تشددا دينيا ومحافظة بين ملوك السلالة المغولية وقد تبنى تفسيرا متشددا للإسلام وشن الكثير من الحملات التي شهدت تدمير المعابد الهندوسية (وهذه قضية لا زالت حية في الهند حتى اليوم).
كما تصدى شيفاجي لعدد كبير من الأعداء في حقبة شديدة الاضطراب من التاريخ الهندي تداخل فيها ظهور الممالك المحلية وسقوطها وتمدد القوى الغربية الاستعمارية ونشاط "شركة الهند الشرقية" وتحولها إلى دولة بين الدول في شبه القارة الهندية.
الأهم أن شيفاجي هو المؤسس بالغ الاحترام بين الهندوس لإمبراطورية الماراثا التي شكل ظهورها بداية النهاية لإمبراطورية المغول المسلمة التي تعتبر في نظر كثير من المؤرخين، التجسيد الأقوى لحكم المسلمين في الهند منذ وصول محمد بن قاسم على رأس جيش أرسله الحجاج بن يوسف حاكم العراق الأموي، إلى السند التي كانت تشكل طرف الهند.
في المقابل، لفتت الانتباه تلاوة رئيس أركان الجيش الباكستاني الجنرال عاصم منير لآيات قرآنية أثناء الإيجاز الصحافي. حكي الكثير عن الخلفية الدينية للجنرال الحافظ للقرآن الكريم وتشبثه بالتعاليم الإسلامية وتشديده على أن باكستان والهند دولتان منفصلتان يفرقهما التاريخ والإيمان والتقاليد.
وركز الإعلام الباكستاني أثناء تغطيته للقتال، على القصف الهندي للمساجد في المناطق القريبة من الحدود وهي المناطق التي قالت نيودلهي إنها تضم معسكرات للمتطرفين المسؤولين عن هجوم باهلغام الإرهابي في القسم الهندي من كشمير في أبريل/نيسان الماضي.
الواضح من الخطاب الهندي والباكستاني الذي رافق الجولة الأخيرة من القتال، صعود المنحى القومي والديني عند الجانبين اللذين يمران بمرحلة انتقالية صعبة
الواضح من الخطاب الهندي والباكستاني الذي رافق الجولة الأخيرة من القتال، صعود المنحى القومي والديني عند الجانبين اللذين يمران بمرحلة انتقالية صعبة. الهند، أولا، تسير بخطى حثيثة للتخلص من الدولة العلمانية التي نشأت بعد التقسيم في 1947 والتي شدد عليها جواهر لال نهرو في كتابه "اكتشاف الهند"، حيث اعتبرها الممر الوحيد الذي ينقذ بلاده من السقوط في هاوية حروب أهلية لا نهاية لها. في حين، يرى أنصار "الهندوتفا" أن الصراع الإسلامي–الهندوسي المستمر منذ ألف عام قد انتهى بانتصار الهندوس ما يضمن حقهم باعتبار الهند دولة هندوسية.
نقاد "الهندوتفا" يرون أن النهج هذا تكرس في قانون الأحوال الشخصية الذي يقولون إنه حوّل المسلمين إلى مواطنين من الدرجة الثانية. والتخلص من العلمانية، قد يفوق في أهميته طي "بهاراتيا جاناتا" صفحة الاشتراكية واندفاعه إلى اقتصاد السوق والاندماج في عولمة ليبرالية شديدة التركيز على العلاقة مع الغرب.
باكستان، ثانيا، تعاني من تجاذب شديد في تحديد هويتها، بين ضرورة إحياء إرث الإمبراطوريات والممالك الإسلامية (ربما الأصح وصفها بـ"المسلمة" نظرا إلى عدم اعتماد أكثرها على الإسلام كعقيدة سلطة وحكم) في الهند من محمد بن قاسم وصولا إلى المغول (أو "الموغل" على ما يرد الاسم في الأدبيات المترجمة إلى اللغة الإنكليزية) واعتبار باكستان امتدادا لها، وبين بناء هوية حديثة يتطلب الوصول إليها إجراء إصلاحات جذرية في البنية القبلية والجهوية والإثنية للبلاد، وهو ما فشلت محاولات كثيرة على امتداد سبعين عاما في إنجازه.
التغيرات الجيوسياسية في العالم والتي تلقي ظلالها الثقيلة على الصراع الهندي–الباكستاني القابل للانفجار في أية لحظة، كالتحالف بين إسلام آباد وبكين، والتأييد الغربي لنيودلهي، تسير كلها جنبا إلى جنب مع تحولات عميقة في الهوية والثقافة والاجتماع في البلدين.