غزة... "اختبار الأمن" مقابل الغذاء

"مركبات جدعون"... و"مؤسسة غزة الإنسانية"

أ.ف.ب
أ.ف.ب
أطفال على دراجتهم الهوائية فوق الأنقاض في ساحة مدرسة تابعة للأونروا، والتي تعرضت لقصف مباشر خلال غارات جوية إسرائيلية على مخيم النصيرات للاجئين وسط قطاع غزة في 19 مايو

غزة... "اختبار الأمن" مقابل الغذاء

بعد أيام من تصعيد الجيش الإسرائيلي، لعمليات القصف المكثف وارتكاب عشرات المجازر التي تسببت بمسح عدد من العائلات في قطاع غزة من السجل المدني بعد سحق جميع أفرادها، أعلن الجيش عن البدء في عمليات عسكرية برية في مختلف مناطق القطاع، والتي تأتي في إطار المراحل التحضيرية الأولى للعملية البرية الموسعة التي هدد بشنها قادة الجيش ووزراء الحكومة الإسرائيلية، والتي تحمل اسم "مركبات جدعون".

ويأتي الإعلان الإسرائيلي بالتزامن مع تبلور خطة أميركية لإنشاء ما يعرف باسم "مؤسسة غزة الإنسانية" تتضمن الطلب من السكان على التوجه إلى المناطق الجنوبية ولمسافات طويلة للحصول على الغذاء، وإخضاعهم إلى فحص أمني.

وفي 13 مايو/أيار الماضي، استهدف الجيش الإسرائيلي بتسع قنابل ثقيلة ساحات ومحيط مستشفى غزة الأوروبي جنوب شرقي مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، معلنا عن استهدافه غرفة قيادة تحت الأرض يوجد بداخلها عدد من كبار قادة "كتائب القسام"– الجناح العسكري لحركة "حماس"، ليفصح عدد من قادة الجيش في تصريحات منفصلة عن استهداف القيادي البارز في الكتائب محمد السنوار، وهو شقيق رئيس المكتب السياسي لـ"حماس" سابقا وأبرز المتهمين بالتخطيط وتنفيذ عملية اقتحام المستوطنات الإسرائيلي في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

وعقب عملية الاغتيال- التي لم يتمكن الجيش من تأكيدها حتى نشر المقال- كثف الجيش من عمليات القصف المدفعي والجوي على مناطق شمال ووسط وجنوب القطاع وعلى مدار الساعة في غارات إسرائيلية متتالية، لتعلن وزارة الصحة بغزة، عن مقتل أكثر من 500 فلسطيني، منهم قرابة 150 لم تتمكن طواقم الإنقاذ الخدماتية من انتشالهم من تحت الأنقاض، فيما توسعت عمليات القصف لتشمل محاصرة مستشفيات بطائرات مُسيرة وتوغل آليات عسكرية في عدد من المناطق الشرقية والشمالية للقطاع، في إطار التجهيز والإعداد لبدء العملية البرية الموسعة "مراكب جدعون"، إن لم يتم التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار بين "حماس" وإسرائيل ضمن مساعي الوسطاء- مصر وقطر والولايات المتحدة الأميركية- في التوصل للاتفاق.

فرضت إسرائيل إغلاقا على المعابر منذ بداية مارس/آذار الماضي، ولأكثر من عشرة أسابيع متتالية ما فاقم حالة الجوع وانتشار الحالات المرضية بسبب سوء التغذية

وبسبب التأجيل الإسرائيلي المتكرر لتوسعة العمليات البرية في غزة، نتيجة للانتقادات الأميركية والدولية ورفضهم للقرار الإسرائيلي القاضي بإغلاق المعابر مع القطاع ومنع دخول شاحنات المساعدات الإغاثية بهدف تجويع السكان الغزيين والضغط عليهم، حيث فرضت إسرائيل إغلاقا على المعابر منذ بداية مارس الماضي، ولأكثر من عشرة أسابيع متتالية ما فاقم حالة الجوع وانتشار الحالات المرضية بسبب سوء التغذية، كان قد أعلن سفير الولايات المتحدة الأميركية في إسرائيل مايك هاكابي، عن آلية مدعومة من بلاده لتوزيع المساعدات على سكان القطاع، والتي من المفترض أن تبدأ إدخال المواد الغذائية وتوزيعها على السكان قبل نهاية مايو/أيار الحالي.

وجاء إعلان هاكابي في مؤتمر عُقد بالسفارة الأميركية في القدس، الجمعة 9 مايو الماضي، تنفيذا لرؤية رئيس الولايات المتحدة الأميركية دونالد ترمب، وعمله على توزيع الغذاء للسكان في غزة، بشكل آمن من خلال مؤسسة غزة الإنسانية، والتي سيتم إنشاؤها مع شركاء دوليين وأصحاب خبرة في العمل الإنساني الإغاثي، فيما ستتولى مؤسسات أمنية ضمان سلامة العاملين خلال توزيع الطرود الغذائية، وبعيدا عن أي دور للجيش الإسرائيلي.

وعلى ما يبدو فإن "حماس"، لم تتفق مع تصريحات هاكابي الأخيرة، حيث رفضت في بيانها، اتهامها بالتحكم في المساعدات، واصفة تصريحاته بأنها "تُجافي الحقيقة، وتمثل ترديدا لأكاذيب صهيونية فضحتها كافة المنظمات والوكالات الأممية التي عملت في قطاع غزة"، والتي يستخدمها "لتسويغ الانخراط في خطط التهجير والإخضاع الإسرائيلية عبر سياسة التجويع".

ومنذ بداية مارس الماضي، وعقب انتهاء المرحلة الأولى من اتفاق وقف النار وعملية تبادل الأسرى، الذي بدأ تطبيقها في الثلث الأخير من يناير/كانون الثاني الماضي، أعلنت إسرائيل عن إغلاقها للمعابر مع قطاع غزة ومنع دخول الشاحنات التي تحمل مساعدات إغاثية غذائية وطبية ومحروقات، حيث يقدر عدد الشاحنات التي تنتظر السماح لها بالدخول من الجانب المصري، قرابة 39 ألف شاحنة بحسب ما أعلن المكتب الإعلامي الحكومي بغزة.

رويترز
فلسطينيون يحملون أمتعتهم أثناء فرارهم من منازلهم بعد أن أصدر الجيش الإسرائيلي أوامر بالإخلاء من شرق خان يونس، في جنوب قطاع غزة، 19 مايو

وعقب انهيار العملية التفاوضية، وتهرب إسرائيل من الدخول في تنفيذ المرحلة الثانية للاتفاق، استأنفت عملياتها العسكرية في 18 مارس الماضي، ووسعت من توغلاتها البرية في شمال وجنوب ووسط القطاع، مُعلنة عن سيطرتها على مدينة رفح جنوبا بالكامل، وحصارها من كافة الاتجاهات، وهو ما ساهم في تعميق الأزمة الإنسانية وعملية التجويع التي ساهمت بفقد بعض المواد الغذائية الأساسية من الأسواق، وإغلاق المخابز، وانتشار حالة سوء التغذية لدى فئة الأطفال بشكل خاص.

"مؤسسة غزة الإنسانية"

ونتيجة لما وصلت إليه الأزمة الإنسانية في غزة، وعقب التصريحات الأخيرة للسفير الأميركي هاكابي، صدرت خطة الولايات المتحدة الأميركية، والمكونة من 14 صفحة، تشرح ضمنها آلية عمل "مؤسسة غزة الإنسانية"، ونشأتها وأهداف عملها. ويرتكز عمل المؤسسة في مرحلتها الأولى على إنشاء 4 مراكز لتوزيع طرود غذائية وصحية وطبية على السكان بشكل مباشر، حيث سيعمل كل مركز توزيع على خدمة 300 ألف من السكان، بمجموع مليون و200 ألف غزي، أي نصف تعداد السكان فقط، بحيث تكون تكلفة الوجبة الواحدة 1.3 دولار.

ورفضت الأمم المتحدة ومنظمات إغاثة رئيسة عاملة في غزة، الخطة الأميركية-الإسرائيلية، والتي يرى مراقبون أنها ستسهل التهجير القسري للفلسطينيين وستفشل في تلبية احتياجات السكان. وقال "مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية" (أوتشا) في بيان له: "يبدو أن هذه الآلية غير مجدية عمليا، ولا تتوافق مع المبادئ الإنسانية، وستخلق مخاطر جسيمة لانعدام الأمن، في الوقت الذي تفشل فيه في الوفاء بالتزامات إسرائيل بموجب القانون الدولي".

وقال الناطق باسم "وكالة غوث وتشغيل اللاجئين" (الأونروا) عدنان أبو حسنة، لـ"المجلة"، إن الولايات المتحدة الأميركية، حاولت في وقت سابق من الحرب إنشاء ممر مائي وإنشاء منظمات بديلة أو لجان محلية لكنها لم تنجح في العمل وتوصيل المساعدات الإغاثية للسكان، مضيفا: "لا أحد يتخيل كيف يمكن العمل من خلال أربع نقاط توزيع غالبيتها ستكون في رفح جنوب القطاع، وكل نقطة تقدم خدمات لـ300 ألف نسمة، وهذا في ظل تغييب المنظومة الأممية وخاصة "الأونروا" التي لديها 13 ألف موظف في غزة ومئات المراكز والشاحنات والقدرة اللوجستية على تنفيذ عملية إغاثة كبرى".

رفضت الأمم المتحدة ومنظمات إغاثة رئيسة عاملة في غزة، ما الخطة الأميركية-الإسرائيلية، والتي ستسهل التهجير القسري للفلسطينيين وستفشل في تلبية احتياجات السكان

وانتقد ما تتضمنه الخطة الأميركية من إجبار السكان على التوجه إلى المناطق الجنوبية ولمسافات طويلة للحصول على الغذاء، وإخضاعهم إلى فحص أمني، قائلا: "سينتج عن العملية تهجير قسري داخلي إلى الجنوب، وبالتحديد إلى رفح التي استقبلت مليونا و700 ألف نسمة بداية الحرب وقبل العملية البرية الإسرائيلية، ومن يثبت أنه يصلح أمنيا لتناول أو أخذ وجبة طعام، سيحصل عليها، هذا ما يدور الحديث عنه".

وفي ظل الرفض الفلسطيني ومنظمات الأمم المتحدة الإنسانية، للخطة الأميركية، والترحيب والموافقة الإسرائيلية على تنفيذها، كما صرح وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر، رأى المحلل السياسي الفلسطيني عصمت منصور، أن الخطة الأميركية تتقاطع بشكل شبه كلي مع خطة الجيش الإسرائيلي في استمرار الحرب وتوسيع العمليات العسكرية البرية وامتدادها لأشهر مقبلة، بحيث تمدها بالأكسجين من خلال تخفيف الأزمة الإنسانية، وتجاهل المواقف الفلسطينية والأممية الرافضة والمعارضة.

رويترز
امرأة تحمل حقيبة على رأسها بينما يفر الفلسطينيون من منازلهم بعد أن أصدر الجيش الإسرائيلي أوامر بالإخلاء من شرق خان يونس، في جنوب قطاع غزة، 19 مايو

ويعتقد منصور في حديثه لـ"المجلة"، أن خطة تقديم المساعدات الغذائية التي طرحتها الولايات المتحدة الأميركية، تجاهلت المنظمات الدولية الإنسانية المخولة بالعمل الإغاثي الإنساني وخبراتها وإمكانياتها، والتي كان من الممكن أن تتولى هذا الدور "بشكل محايد وبعيدا عن لعب أي دور سياسي أو تعاون عسكري مع إسرائيل".

وعلى ما يبدو، أن الإعلان الإسرائيلي الأخير حول بدء عملية "مراكب جدعون"، جاء بعد التوصل لتفاهمات مع الإدارة الأميركية من شأنها تخفيف حدة الانتقادات الدولية لاستمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية مع اقتراب بدء عمل "مؤسسة غزة الإنسانية" وإدخال المساعدات الإغاثية للتخفيف من المجاعة وتزويد المستشفيات بالمستلزمات الطبية، بهدف إطالة أمد الحرب، خاصة في ظل عدم توصل جلسات التفاوض غير المباشرة بين "حماس" وإسرائيل لأي نتيجة إيجابية من شأنها إنهاء الحرب، أو وقفها لفترة محدودة.

font change