أحمد يماني لـ"المجلة": المجايلة ضرب من الوهم

بعد حصوله على "جائزة سركون بولص" للشعر والترجمة

أحمد يماني

أحمد يماني لـ"المجلة": المجايلة ضرب من الوهم

حصل الشاعر المصري المقيم في إسبانيا على "جائزة سركون بولص للشعر وترجمته" لعام 2024. ولد يماني في القاهرة عام 1970 وتخرج في قسم اللغة العربية، كلية الآداب، جامعة القاهرة عام 1992. انتقل إلى العيش في إسبانيا سنة 2001، وحصل على الدكتوراه من جامعة كومبلوتنسي مدريد عام 2014 وعمل فيها أستاذا مشاركا بين عامي 2018 - 2019. حظيت تجربته الشعرية باحتفاء نقدي وترجمت قصائده إلى العديد من اللغات، نشر عددا من الترجمات من الإسبانية إلى العربية لشعراء وكتاب من إسبانيا وأميركا اللاتينية، من بينهم روبين داريو، ثيسار باييخو، خوسيه آنخل بالنتي، أدولفو بيوي كاساريس، ميغيل كاسادو، روثيندو تييو، آنخل جيندا، أجوستين بوراس، روبرتو بولانيو، لويس ألبرتو دي كوينكا. صدرت له منذ 1995 مجموعات شعرية عدة كان آخرها "الوداع في مثلث صغير" (2021)، كما صدرت له أخيرا مجموعة مختارات شعرية عن "مرفأ للثقافة والنشر". هنا حوار "المجلة" معه.

ماذا يعني لك الفوز بجائزة سركون بولص؟

أهمية الجائزة تأتي من اسم صاحبها ومن القائمين عليها ومن الفائزين بها من قبل، كما أنه لا يتم التقدم إليها، ومن ثم هي جائزة عزيزة على قلبي كونها تحمل اسم سركون بولص الشاعر الذي وهب حياته مخلصا للشعر، كتابة وترجمة، دون أن يستهويه شيء إلا الشعر، وظل سركون في ذلك البحث الدائم عن الشعر، كما هو عنوان قصيدة الشاعر البرازيلي كارلوس دروموند دي أندرادي التي ترجمها سركون. حتى النشر لم يكن يشغله، فقد نشر ديوانه الأول "الوصول إلى مدينة أين" بعد أن تجاوز الأربعين من عمره.

تنتمي إلى جيل التسعينات في قصيدة النثر العربية، الجيل الأقرب من تجربة سركون بولص ومجايليه، هل تعتبر هؤلاء آباء شعريين لك؟

في بداية التسعينات كانت هناك صعوبات جمة في الوصول إلى الدواوين الشعرية العربية، وكنا نتبادل الكتب المتاحة في ما بيننا. عرفنا بداية قصائد سركون في "الكرمل"، تلك المجلة صاحبة المكانة الكبيرة لدينا.

لست ممن يعتقدون أن الشعراء يكتبون قصيدة واحدة طوال حياتهم بتنويعات مختلفة، بل أظن أن كل مجموعة شعرية وكل حقبة تاريخية لها تجلياتها المختلفة

أعتقد أن ما جذبنا إلى شعر سركون، بالإضافة إلى شعريته الكبيرة، كان ذلك الانفتاح على العالم ومزج القديم بالجديد، لغة ومكانا، بمعنى الحركة داخل اللغة وداخل العالم، والعديد من قصائد سركون قصائد تفعيلية لكنها مختلفة عن شعر التفعيلة ذات إيقاع خاص بها، هو ولا شك إيقاع الشاعر المتفرد نفسه. أعتقد أن هذا الجيل أراد نقل القصيدة العربية إلى آفاق أخرى على تماس بما يكتب في العالم خارج حدود العربية، مستفيدا من تجربة جيل الحداثة العربي الأول السابق عليه، ومما اطلع عليه في لغات أخرى، فمعظم أبناء الجيل الثاني للحداثة كان يتوفر على معرفة بلغة أجنبية وربما أكثر، ومن تواصل مباشر مع شعراء وحركات شعرية خارج العالم الناطق بالعربية. ربما أكثر ما تعلمناه من ذلك الجيل يتعلق بخصوصية التجربة الحياتية والشعرية على السواء.

الصوت الشعري

منذ مجموعتك الشعرية الأولى في 1995، "شوارع الأبيض والأسود"، بدأت بتكوين صوتك الشعري الخاص، إلى أين وصلت في هذه الرحلة، وهل الصوت الشعري هو الصوت الأول أم أنه دائما في طور التكوين؟

بدأت كتابة الشعر في منتصف الثمانينات تقريبا، تعلمت بنفسي عروض الشعر وكتبت قصائد عمودية، وانتقلت بعدها إلى شعر التفعيلة، ثم بدأت بكتابة الشعر غير الموزون، سواء أكان قصيدة نثر أم شعرا حرا غير موزون. لست ممن يعتقدون أن الشعراء يكتبون قصيدة واحدة طوال حياتهم بتنويعات مختلفة، بل أظن أن كل مجموعة شعرية وكل حقبة تاريخية لها تجلياتها المختلفة.

من غلف شعر أحمد يماني

كتبت قصائد ديواني الأول بين الثانية والعشرين والرابعة والعشرين من عمري ونشرناه في القاهرة في طبعة خاصة مشتركة بيني وبين صديقي الشاعر والكاتب ياسر عبد اللطيف حيث نشر كل منا ديوانه الأول في يناير/ كانون الثاني من عام 1995. ديواني الأخير نشرته في الخمسين من عمري، وبينهما ربع قرن. لا بد أن هذه السنوات وهذه الأماكن المختلفة التي عشت فيها قد فعلت فعلها الخاص في الشعر وفي الحياة. ليست هناك طبيعة إنسانية ثابتة، فالتغير يطال كل شيء، ومن ثم ليست هناك طبيعة شعرية واحدة.

شاركت مع مجايليك في ما يشبه البيانات الشعرية عبر مجلات ومنشورات، ما الذي بقي اليوم من ذلك الجيل؟

كانت بدايات التسعينات في مصر مشتعلة بالحوار والسجال، وكان الشعر في قلب الكلام. لا أعتقد أنه كانت لدينا بيانات شعرية، كانت هناك مجلات مستقلة عديدة بدأت بمجلة "الكتابة الأخرى" التي حررها الصديق الشاعر هشام قشطة، وكانت لها افتتاحياتها بالتأكيد، لكن لم يتعلق الأمر ببيانات شعرية، على غرار ما نعرف من بيانات عربية وغربية.

المكان الجديد هو عملك أنت، محاورتك الشخصية، قد تكون هذه هي اللحظات الأولى للهجرة، تعقبها لحظات أخرى تأخذ مسارات متعددة

ربما كان لدى البعض منا عدة نظرية أقوى، لكن عموما لم يكن البيان الشعري هو الأساس، بل الشعر نفسه الذي كان يراود الجميع في أشكال مختلفة. ما يبقى من أي جيل في أي مكان وزمان، مجموعة من الأفراد تبحث عن شعريتها الخاصة، أيا ما كان تحققها، مما يحيل فكرة المجايلة نفسها إلى نوع من الوهم، إذا فهمنا المجايلة باعتبارها شبها وتشبها، لأن لا أحد يود أن يكون شبيها بالآخر سواء كان أبا أو زميلا، حتى مع وجود الظرف التاريخي الذي يظل الجميع.

في إسبانيا

جعلت اسبانيا موطنك الثاني بعد مصر منذ أكثر من عشرين عاما، ماذا يعني لك هذا البلد؟ وهل ممكن الجمع بين هويتين ثقافيتين؟

إن قدرا ما هو من حملني إلى إسبانيا فلم أكن أفكر في الذهاب إليها. جئت إلى هنا لأسباب عائلية، فلم آت إلى إسبانيا مهاجرا أو دارسا على سبيل المثل، لكنني صرت مهاجرا ودارسا بعد ذلك، وصارت إسبانيا اختيارا شخصيا محببا إلى قلبي للغاية، وهو بلد أعطاني الكثير منذ اللحظة الأولى حتى الآن.

أحمد يماني

نحن هنا أمام هويات ثقافية متعددة في بلد واحد، فما بالك بمن يأتي من بلد آخر ولغة أخرى وثقافة ممتدة في التاريخ، بالمعنى العريض لكلمة ثقافة. ففي الواقع لدينا هويات متعددة يضيف بعضها الى بعض دون تناحر، إذا استعرنا هنا أمين معلوف. في الوقت نفسه نحن على وعي بعدم امتلاك هوية ثقافية أخرى بشكل كامل، لأن الأمر يتعلق بطعم الحياة، الأطعمة والأشربة، الموسيقى والأغاني والأماكن، لكن الهوية المكتسبة تتمتع بنوع من الحرية في اختيار ما تراه ضروريا من عناصر. المكان الجديد هو عملك أنت، محاورتك الشخصية، قد تكون هذه هي اللحظات الأولى للهجرة، تعقبها لحظات أخرى تأخذ مسارات متعددة. صديقتي الشاعرة الإسبانية أندريا إسبادا تمازحني بتعبير لطيف وتسميني "الإسباني الأكثر مصرية"، وهو تعبير على بساطته يلخص بعضا من تمازج الهويات هذا.

ما يهم الغرب في الحقيقة لا يتعلق بالأدب العربي باعتباره أدبا، ولكن باعتباره تلصصا على تلك المجتمعات الغامضة

أحببت إسبانيا دون أن أعرفها، ولكن ذلك الحب ترسخ عندما عشت فيها وعرفت تاريخها أكثر، وهو تاريخ يحوي الكثير من الألم، سواء أكان ذلك من ناحية ما عاناه الإسبان من غزوات خارجية أم ما قاموا هم به أنفسهم من تدمير للآخر وللذات، وهي مسارات تاريخية لا يمكن إلا أن نأخذها في الاعتبار حين نود الوصول إلى معرفة مكان حياتنا، وهو في هذا تاريخ لا يختلف كثيرا عن تاريخنا، هذا عدا التاريخ المشترك، الذي بقي حتى اليوم في تنويعاته المختلفة، بين القبول به ورفضه، من قبل جميع الأطراف.

جائزة سركون بولص

الشعر الأندلسي هو جزء مهم من تاريخ الشعر العربي والغربي، والشعر الإسباني كذلك هو جزء مهم من تاريخ الشعر العربي في عملية من التبادل العجيب.

مع الترجمة

تترجم الشعر الإسباني إلى العربية، ما الذي أضافته الترجمة إلى لغتك الشعرية؟

ترجمة الشعر بالنسبة إلي تشبه كتابة الشعر، أحيانا تأتي مندفعة وهادرة، وأحيانا لا بد من الصبر عليها، وفي كلتا الحالتين، هناك حالات أخرى كثيرة، لا بد من الاستمتاع بها. عندما يزيح المترجم أناه ليستقبل أنا شاعر آخر، وإن كانت الإزاحة الكاملة غير ممكنة، فإنه يقوم في الحقيقة بإضافة لغة أخرى إلى لغته، لكنها لغة واعية منتبهة، وليس من الغريب هنا أن يشعر المترجم الشاعر أن ما يترجمه إنما يشكل جزءا من إنتاجه الشعري الخاص. الترجمة جعلتني أكثر انتباها الى المفردة والتركيب النحوي للجملة وطرق القول المتعددة، إضافة إلى اتساع العوالم الشعرية التي تكاد تكون بعدد الشعراء أنفسهم. بالتأكيد، كل ذلك يتسلل إلى لغة الشاعر نفسه بوعي أو من دونه.

نحن والغرب

هناك تساؤل مشرع، لماذا نستقبل شعر الغرب بكثافة في حين ليس هناك ما يوازي ذلك في الترجمة العكسية، هل نحن المشكلة أم في الثقافة الغربية؟

 نحن لا نستقبل فقط شعر الغرب، لكن شعر العالم مما يتيحه لنا المترجمون والمترجمات، كذلك الإنتاج الأدبي في عمومه وليس الشعري فقط. مشكلة التلقي لشعرنا في الغرب، إذا أردنا هنا الاقتصار على الإنتاج الشعري، تخص الغرب نفسه الذي يربط بين تقدم المجتمعات وتقدم شعرها وأدبها، وبطبيعة الحال فإن النتاج الأدبي العربي عظيم في نماذجه الكبرى ومتقدم على الشرط الحضاري لمجتمعاتنا.

أحمد يماني

من غير المقبول ولا المعقول أن تحصل لغة كبيرة مثل اللغة العربية على جائزة نوبل واحدة، إسبانيا وحدها لديها خمس جوائز نوبل في الآداب، واللغة الإسبانية 11 جائزة، ناهيك عن العدد الكبير في اللغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية، وكلها لغات أوروبية. نجد هذا أيضا في الفن التشكيلي، فهناك مجموعات قليلة تتحكم في حركة الفن في العالم وتظهر من تريد وتتجاهل من لا تريد.

لدى الشعراء واجب أخلاقي يستحيل إلى واجب شعري تجاه الألم العام ومقاومة الشر الكامن في الطبيعة البشرية

ربما لو كانت لدينا مؤسسات عربية فاعلة تدعم ترجمة الأدب العربي بشكل ممنهج، لكان استقبال الآخر لنا أكثر فاعلية، وليس الآخر الغربي فقط، لكن ما لدينا الآن مجرد محاولات فردية يقوم بها مترجمون أفراد، من الصعب عليهم الإحاطة بمجمل العمل الأدبي في العالم العربي، لكنها لا تشكل في المجمل حضورا قويا لأدبنا في العالم، وأخص بالذكر العالم الهيسباني الذي أعرفه أكثر. وكما ذكرت المستعربة الإسبانية ميلاجروس نوين في حوار لي معها، فإن ما يهم الغرب في الحقيقة لا يتعلق بالأدب العربي باعتباره أدبا، ولكن باعتباره تلصصا على تلك المجتمعات الغامضة. إضافة إلى أن دور النشر الغربية لا تغامر، إلا في ما ندر، بنشر الكتاب ممن لم تتحصل أعمالهم على جوائز أو أن تكون قد نشرت في لغات أخرى. أعتقد أن من يقدر عمل الشعراء والكتاب هم الشعراء والكتاب الآخرون، بعيدا من التلقي العام، وقد رأيت كيف قدم الكاتب الباسكي المعروف برناردو أتشاجا قراءة أدبية عميقة وبالغة الروعة لرواية الأستاذ إبراهيم عبد المجيد "لا أحد ينام في الإسكندرية"، في ترجمتها إلى الإسبانية، وذلك في موقف نادر بعيدا عن تحويل الكاتب إلى سياسي أو عالم اجتماع، ويكون الأدب الهم الأخير لمن يحاورك.

في زمن الحروب والاضطرابات الكبرى كالذي نعيشه اليوم، ماذا يستطيع الشعر أن يفعل؟

يفتتح إرنست فيشر كتابه "ضرورة الفن" بعبارة جميلة لـ جان كوكتو: "الشعر ضرورة... وآه لو أعرف لماذا". الشعر بداهة عمل نخبوي لا يعرفه الجميع، بل لا يستمرئه الجميع، وليس علينا أن نحمله ما لا يحتمل، قد يساعدنا أحيانا في تفنيد الالم واحتماله، وقد يكون أيضا شهادة تاريخية. هناك عشرات الأسئلة التي لم يستطع العلم حلها حتى الآن، ولكن قد يحدث ذلك في أزمنة أخرى، كذلك الشعر لديه أسئلته الكبرى وليس مطلوبا منه حلها، بل مقاربتها. وعلى هذا فإن لدى الشعراء بالتأكيد واجبا أخلاقيا يستحيل إلى واجب شعري تجاه الألم العام ومقاومة الشر الكامن في الطبيعة البشرية والذي يتحول إلى وحشية نراها بأم أعيننا الآن، وكأن الحضارة الإنسانية لم تكن إلا طلاء باهتا لإخفاء هذه الوحشية إلى حين. الفن عموما لديه حرية الحركة في الأزمنة السحيقة لما قبل الحضارة، وهي حركة تساهم في فهم أعمق لمشكلات الوجود ومعضلة الشر. ربما نستسيغ الشعر أكثر بعد انتهاء الأحداث الكبرى، مثلما نقرأ على سبيل المثل المجموعات الشعرية المهمة عن الحرب الأهلية الإسبانية من قبيل "إسبانيا في القلب" لبابلو نيرودا و"إسبانيا، أبعدي هذه الكأس عني" لثيسار باييخو، هذا عدا العشرات من القصائد العظيمة لشعراء من طينة رافائيل ألبرتي وأنتونيو ماتشادو وميغيل إرناندث، ممن وضعوا الحروب الأليمة والشرط الإنساني نفسه موضع الفحص والمساءلة الدائمة.

font change

مقالات ذات صلة