الطفل الذي كان يقف في شرفة منزلهم بميدان عابدين- وسط القاهرة- عام 1950، لوح لي بكفه العريضة لأراه من شرفة شقته بالمعادي. الفارق بين المشهدين 75 عاما تقريبا، لكنه لم يتغير، لا يزال الرجل يصحو في السادسة صباحا على صوت الموسيقى.
جلسنا حول مكتبه الملاصق للشرفة، خلفنا على الحائط نسخ لوحات لهنري ماتيس، تجاورها شهادات تكريم وجوائز، أشار مبتسما بسبابته: "هذه صور أبي وأمي رحمهما الله، وهذه سحارة ارتاح عليها وقت القراءة وأخزن داخلها الكتب النادرة".
تحت لوح زجاج يغطي المكتب، ترتاح صور فوتوغرافية متناثرة ملونة وبالأبيض والأسود، مال برأسه مشيرا إلى إحداها: "هذا الطفل أنا، الابن الأوسط بين شقيقتين، ولدت عام 1943 أثناء الحرب العالمية الثانية، جدتي أم أبي، ابنة علي باشا فهمي، أحد قيادات الثورة العرابية نفي مع أحمد عرابي إلى جزيرة سيلان، سميت على اسم زوجها سعيد شيمي، كان الياور العسكري لعباس حلمي، لهذا السبب لم يشتر والدي لي أبدا، مسدسا أو بندقية مثل بقية الأطفال، خوفا من أن أتعلق بالعسكرية وألقى مصير أجدادي"، أدار ظهره لافتا انتباهي إلى صورة والديه: "أبي كان طبيب أسنان، التقى والدتي في عيادته وأحبها".
في الثامنة صباحا، يخرج صف العساكر من قصر عابدين بالموسيقى لأداء التمارين العسكرية بالميدان، يروي المصور السينمائي سعيد شيمي لـ"المجلة": "انبهرت بعسكري في مقدمة الصف، يسمك عصا تسمى الدبوس، يرميها الى أعلى ويلتقطها، كلما سألوني تحب تكون إيه لما تكبر؟، أقول لهم، الراجل صاحب العصا".
سعيد ومحمد خان
يمر والد سعيد شيمي على صديقه حسن تاجر الشاي ليصطحبه إلى السينما، يتذكر المصور السينمائي: "عيادة أبي ومكتب عمي حسن والد محمد خان كانا في المبنى نفسه 1 في ميدان العتبة، وكانا أحيانا يصحباننا معهما".
توقف نشاط حسن لاستيراد الشاي من الهند بعد سيطرة الدولة عليه، فحول مقر الشركة إلى ناد للطلبة الباكستانيين الذين يدرسون في جامعة الأزهر، يروي سعيد: "كنت أذهب أنا وميمي، دلع محمد خان في الطفولة، نلعب بلياردو وبنغ بونغ".
تعلق "ميمي" وسعيد شيمي بالسينما، وقلدا الكاوبوي والهنود الحمر، يقول: "كنت ألعب مع محمد خان ألعاب الحرب، ومع الوقت صرنا نقيم الأفلام، ونعطي الممثل أو المخرج درجات، لكني لن أنسى حريق القاهرة، كان عمري وقتها 9 سنوات، جاءنا الأستاذ في مدرستي التي كان مقرها قصر شمبليون في وسط البلد، وطلب منا العودة إلى منازلنا، تحركت بنا سيارة المدرسة إلى ميدان الإسماعيلية (التحرير حاليا)، رأيت التراموايات والمحلات والعمارات والسيارات محترقة، كان المشهد مرعبا، عندما وصلت منزلنا، سألت أبي عما يحدث، رد، الإنكليز عاملين فتنة، استغربت، لأني شاهدت مصريين يشعلون النار في الترامواي، وقتها لم أعرف أنهم أحرقوا السينمات. في الفجر، استيقظت فزعا على صوت قوي، كانت شقتنا في الدور الأول، فرأيت دبابة حولها جنود، بالقرب منها مدافع ودبابات موجهة الى قصر عابدين، كانت ثورة يوليو 1952".