تشهد الولايات المتحدة في الوقت الراهن أزمة غير مسبوقة تهدد مستقبل البحث العلمي في البلاد، مع تجميد التمويل الفيديرالي لعدد من أعرق الجامعات. فقد طالت هذه الحملة مؤسسات أكاديمية ذات سمعة عالمية مثل "هارفارد" و"كولومبيا" و"نورث وسترن"، حيث جُمدت مليارات الدولارات من التمويل المخصص للأبحاث، في خطوة مثيرة للجدل من إدارة الرئيس دونالد ترمب. تأتي هذه الإجراءات وسط أجواء سياسية وثقافية مشحونة، إذ تبرر الإدارة قرارها بضرورة التصدي لما تصفه بتنامي معاداة السامية والنشاط المتطرف في الحرم الجامعي، بينما ترى الجامعات أن ما يجري ليس سوى محاولة لفرض الرقابة السياسية والإخلال بمبدأ استقلالية المؤسسات الأكاديمية.
وقد أثار هذا التجميد موجة قلق متصاعدة في الأوساط العلمية، ليس فقط بسبب الخطر المباشر الذي يمثله على عشرات المشاريع البحثية الحيوية، بل لما قد يترتب عليه من إبطاء لتقدم البحث العلمي الأميركي ككل. فالدولة التي لطالما قادت العالم في ميادين الابتكار والمعرفة، تجد نفسها الآن أمام معضلة تهدد بتقويض مكانتها العلمية، وربما تعطيل شراكاتها الدولية التي طالما اعتُبرت ركيزة في النظام البحثي العالمي.
جامعة "هارفارد"، التي تُعدّ رمزا أكاديميا عالميا منذ نشأتها قبل نحو أربعة قرون، تجد نفسها الآن في صلب هذه العاصفة. فقد برز متخرجوها في كل ميدان تقريبا، من السياسة إلى الأدب، ومن العلوم إلى ريادة الأعمال.
وتحتل "هارفارد" المرتبة الأولى بين جامعات العالم من حيث عدد متخرجيها الذين أصبحوا رؤساء للولايات المتحدة (8)، والمليارديرات (188)، والحاصلين على جائزة نوبل (162)، وجائزة "بوليتزر" (48)، وميدالية "فيلدز" (7)، وطلاب "مارشال" (252)، وطلاب "رودس" (369). كما يضم متخرجوها 9 فائزين بجائزة "تورينغ"، و10 فائزين بجوائز الأوسكار، و108 حاصلين على ميداليات أولمبية، منها 46 ميدالية ذهبية.
لكن الأزمة لا تتوقف عند تجميد التمويل، بل تمتد لتطال التبادل الطالبي والبعد الدولي للتعليم العالي الأميركي. فقد أصدرت إدارة ترمب قرارا إضافيا يمنع جامعة "هارفارد" من تسجيل طلاب أجانب، في خطوة قد تكون لها تبعات مالية وأكاديمية جسيمة، ليس فقط على "هارفارد"، بل على مئات الجامعات الأميركية التي تعتمد على هؤلاء الطلاب كمصدر مهم للدخل والتنوع الأكاديمي. إنه تطور ينذر بإغلاق أبواب العلم أمام نخبة من العقول القادمة من مختلف أنحاء العالم، ويطرح تساؤلات مقلقة حول المسار الذي تسلكه السياسة التعليمية الأميركية في هذه المرحلة المفصلية.
فهل أصبحت الجامعات الأميركية، التي لطالما كانت منارات للعلم وحرية الفكر، رهائن لحسابات سياسية ضيقة؟ وهل يشكل هذا التحول بداية تراجع طويل الأمد في مكانة التعليم العالي الأميركي على الساحة العالمية؟ وكيف يمكن أن تؤثر فيها "الترمبية" التي تُعرف بكونها توجها سياسيا يرتبط بإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ويقوم على الشعبوية، والتركيز على السيادة الوطنية، وإعادة تشكيل دور الدولة في مواجهة المؤسسات التقليدية، مع اعتماد أسلوب مباشر في اتخاذ القرار واستخدام النفوذ التنفيذي لتحقيق أهداف سياسية.
اتهامات بمعاداة السامية
تتبنى إدارة الرئيس دونالد ترمب حاليا موقفا تصعيديا حيال ما تصفه بمناخ جامعي معادٍ لليهود، وذلك في أعقاب الأحداث التي رافقت الحرب المستمرة على غزة منذ أواخر عام 2023. فبعد موجة من الاحتجاجات الطالبية الداعية إلى وقف الحرب في عدد من الجامعات الكبرى التي رأت فيها الإدارة الفيديرالية معاداة السامية، أطلق البيت الأبيض حملة تهدف إلى "ضبط الأوضاع" في الحرم الجامعي.
لذا شُكّلت في يناير/كانون الثاني 2025 فرقة عمل مشتركة لمكافحة معاداة السامية، تضم مسؤولين من وزارتي التعليم والصحة، إضافة إلى وكالات اتحادية أخرى. وقد وجهت هذه الفرقة رسائل إلى 60 مؤسسة تعليمية، تنبهها إلى احتمال فتح تحقيقات في انتهاكات تتعلق بالباب السادس من قانون الحقوق المدنية لعام 1964 (Title VI)، الذي يُعنى بحظر التمييز، لا سيما في ما يخص معاداة السامية. كما لوحت الرسائل صراحة بأن عدم امتثال الجامعات لالتزاماتها القانونية قد يؤدي إلى تجميد التمويل الفيديرالي المخصص لها.