الإرث الاقتصادي للبابا فرنسيس... تكريس النزعة الاجتماعية للكنيسة

المرجعية الكاثوليكية مستمرة في نهجها نحو اقتصاد إنساني

سارة تيمز
سارة تيمز

الإرث الاقتصادي للبابا فرنسيس... تكريس النزعة الاجتماعية للكنيسة

كان البابا فرنسيس، الذي وافته المنية عن عمر يناهز 88 عاما، أول بابا يأتي من أميركا اللاتينية، التي مرت بأزمات اقتصادية واجتماعية. منذ بداية حبريته، عبّر عن نقده لـ"الرأسمالية المفترسة" و"تجاوزات العولمة" و"الاقتصاد القاتل" مؤكدا بذلك تباينا واضحا عن أسلوب أسلافه في التعامل مع القضايا الاقتصادية.

يعزى الأمر الى نشأته في الأرجنتين حيث عايش عن كثب آثار الأزمات الاقتصادية الحادة على المجتمع، فيما ألقت تلك الأزمات بظلالها الكئيبة على أجيال من الأطفال. فقد تلمس بأم العين منذ الصغر ما يحدث عندما تخدم الأنظمة الاقتصادية المصالح الخاصة، من تفكك للمجتمعات وتفشّ للفقر والجريمة وإدمان الممنوعات. وقد نقل هذه الرؤى الى الساحة العالمية بعد تنصيبه بابا، فأصبح صوته من أشد الأصوات اقتدارا في العالم بتحدي البنى المالية والاقتصادية التي تحرم في نظره مليارات البشر من العدالة والكرامة.

"تقديس المال يغلق القلوب عن صوت الله"

وقد رجع البابا في انتقاداته للنظام الاقتصادي إلى الأساس، فذكر أن الأزمة المالية التي يعيشها العالم ترجع في أصلها إلى أزمة أنثروبولوجية عميقة تتمثل في إنكار أولوية الإنسان بخلق أصنام جديدة. فقد وجدت عبادة العجل الذهبي القديم نسخة مستحدثة في "تقديس المال" وفي "ديكتاتورية الاقتصاد" بدون أي هدف إنساني حقيقي، بل اختزال الاخير في أحد احتياجاته فقط وهو الاستهلاك والبحث المريض عن الملذات السطحية، فتنغلق الحياة الداخلية على مصالحها الخاصة، ولا يبقى هناك مكان للآخرين، خاصة الفقراء. كما أكد أن هذا التوجه يغلق القلوب عن سماع صوت الله ويفقد الإنسان فرح محبته، والحماسة لعمل الخير.

انتقد التحليل الذي يرى أن كل نمو اقتصادي مدعوم بـ"السوق الحرة" يُنتج في حد ذاته مزيدا من العدالة والشمول الاجتماعي في العالم. فهذا الرأي لم تؤكده الوقائع قط

ففي رأي البابا فرنسيس أن "المال يجب أن يخدم لا أن يحكم"، وأن الخطأ هو في العلاقة التي أُقيمت معه، حيث تم قبول سيطرته على المجتمعات. وقد ندد طوال حبريته بالرأسمالية التي يعتبرها مدمرة وغير أخلاقية. ودعا إلى إعادة الكرامة الإنسانية إلى الاقتصاد ولفت إلى أن الأسواق غير المقيدة بالقواعد والأنظمة المناسبة ستنتج ظلما وستتحول من مصدر لخلق الثروة إلى قوة عاتية لتركيز المداخيل والارباح، مما يؤدي إلى تفشي الظلم على نطاق كوكب الأرض بالكامل.

واستأنس إلى تمييز الاقتصادي النمساوي جوزيف شومبيتر بين الرأسمالية واقتصاد السوق. فالرأسمالية تعتمد على قدرة رأس المال على اتخاذ جميع القرارات الرئيسة المتعلقة بتوجيه الإنتاج بهدف تعظيم الربح، بينما اقتصاد السوق هو آلية لمواجهة العرض والطلب في لعبة تبادل. والنتيجة أن سعر السوق لن يكون عادلا إذا كان هناك فارق كبير في القوة بين المتعاملين، وسيصبح الهدف الحقيقي هو التراكم اللامتناهي للمال دون مراعاة احتياجات الإنسان الحقيقية.  

"اقتصاد السوق الحرة لا ينتج العدالة"

في رسالته الإرشادية "فرح الإنجيل" التي أصدرها باكرا بعد تنصيبه في 26 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2013، وجه البابا فرنسيس نقدا لاذعا لما أسماه "اقتصاد الإقصاء وعدم المساواة"، مؤكدا انه "اقتصاد قاتل"، وانتقد التحليل الذي يرى أن كل نمو اقتصادي مدعوم بـ"السوق الحرة" يُنتج في حد ذاته مزيدا من العدالة والشمول الاجتماعي في العالم. فهذا الرأي لم تؤكده الوقائع قط، ويعبر عن ثقة فجة وساذجة في صلاح أصحاب السلطة الاقتصادية وفي الآليات المقدسة للنظام الاقتصادي المهيمن.

فبينما تزداد ثروات قلة من الناس بشكل كبير، تبتعد رفاهية الغالبية عن هذه القلة. تدعم هذا الخلل أيديولوجيات تدعي العلمية، تدافع عن الاستقلال المطلق للأسواق والمضاربة المالية، متجاهلة دور الدولة في حماية المصلحة العامة. وينشأ عن ذلك نوع من الاستبداد الخفي، يفرض قوانينه وقواعده بشكل أحادي ومن دون رحمة.

أ.ف.ب.
البابا فرنسيس، في الفاتيكان 26 أكتوبر 2025

ويرى البابا فرنسيس أنه لم يعد في الإمكان الوثوق بالقوى العمياء واليد الخفية للسوق، حيث تعطى الأولوية للربح على حساب مصالح الناس وتُقدَّم الأنانية على حساب التعاون. فالنمو المنصف يتطلب أكثر من مجرد النمو الاقتصادي، فهو يحتاج إلى قرارات وبرامج وآليات موجهة تحديدا نحو توزيع أفضل للدخل، وخلق فرص عمل، ودعم شامل للفقراء يتجاوز مجرد المساعدة.

يعتقد البابا فرنسيس أن الاقتصاد لا يمكنه الاستمرار في اتباع سياسات شعبوية في سوق العمل، مثل تقليص فرص العمل أو تسريح العمال من أجل زيادة الأرباح. كما يرى أن الحدود يجب أن تظل مفتوحة امام المهاجرين

يعتقد البابا فرنسيس أن الاقتصاد لا يمكنه الاستمرار في اتباع سياسات شعبوية، مثل تقليص فرص العمل أو تسريح العمال من أجل زيادة الأرباح. كما يرى أن الحدود يجب أن تظل مفتوحة امام المهاجرين، مخالفا بذلك سياسات الولايات المتحدة وعددا من الأحزاب الاوروبية. وقد اعتبر قضية المهاجرين تحديا خاصا بالنسبة اليه، نظرا لأن الكنيسة التي يرعاها هي "كنيسة بلا حدود" تعمل كأم للجميع. لذلك حث البلدان، بدلا من الخوف من تدمير الهوية المحلية، على الانفتاح القادر على خلق توليفات ثقافية جديدة تجعل من التكامل عاملا داعما للتنمية.  

"يجب أن تكون حياة البشر أولوية على أرباح الشركات"

أشار البابا إلى أن عمل رجال الأعمال يمكن أن يكون عملا نبيلا إذا كان موجها نحو خدمة الصالح العام، من خلال زيادة خيرات العالم وجعلها في متناول الجميع. في هذا السياق، انتقد البابا الاحتكارات، خصوصا في مجال الملكية الفكرية، التي تعيق الوصول إلى التكنولوجيات المنقذة للحياة، كما حصل أثناء جائحة كوفيد-19.

أ.ف.ب.
حشود تجتمع لوداع البابا فرنسيس، بنما، 26 أبريل 2025

ومن هنا يُفهم تدخله شخصيا لحث الرئيس الأميركي السابق جو بايدن على دعم التنازل عن حقوق الملكية الفكرية الخاصة باللقاحات، لتسهيل إنتاجها والحصول عليها. كانت رسالته واضحة: يجب أن تكون حياة البشر أولوية على أرباح الشركات.

"النظر إلى العالم عبر عيون أفقر الناس"

دعا البابا فرنسيس إلى النظر إلى العالم من خلال عيون أفقر الناس، كما فعلت الحركة الفرنسيسكانية والبنوك التضامنية الأولى، "مونتي دي بيتا"، في العصور الوسطى. ودعا الى هذا الامر خلال مأدبة غداء أقيمت لمئات الفقراء والمشردين والمهاجرين والعاطلين عن العمل في مناسبة اليوم العالمي للفقراء في الفاتيكان يوم الأحد في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2023.

في هذه المناسبة، أطلق البابا فرنسيس تعبيره الشهير "عولمة اللامبالاة " في عظة شهيرة له خلال قداس احتفل به في لامبيدوزا الإيطالية، وقد أشار إلى أن الناس أصبحوا معتادين على معاناة الآخرين، فلا تؤثر فيهم ولا تعنيهم، معتبرا أن ذلك يشكل فخا من الاعتياد على معاناة الآخرين والنظر إليها وكأنها لا تعنيهم وليست من شأنهم.

يرى البابا فرنسيس أن أبرز مظاهر فقدان النظام الاقتصادي الدولي بوصلته الأخلاقية، هو تراكم "الديون السيادية" حيث تتحمل الدول المدينة عبئا ثقيلا، وأشار إلى أن المسؤولية في ذلك تقع على عاتق حكومات البلدان المدينة والدائنة على حد سواء

يرى البابا أن صرخة الفقراء وصرخة الأرض مرتبطتان ارتباطا وثيقا.  فكما أن تلوث الببيئة بالانبعاثات الغازية يؤذي كوكبنا، فإن التفاوت الاجتماعي يُعد نوعا من التلوث الذي يضر بحياة البشر. لذلك، من الضروري أن نولي اهتماما متساويا للتحديات البيئية والاجتماعية، وألا نسمح للكوارث البيئية الجديدة بأن تغطي على معاناة الفقراء المستمرة.  

"تعلم من النباتات لبناء اقتصاد مستدام"

في منتدى "اقتصاد فرنسيس" الدولي الذي أُطلق في عام 2020 بهدف جمع خبراء الاقتصاد الشباب لإعادة التفكير في أسس النظام الاقتصادي، أشار البابا الى نموذج النباتات التي تتعاون مع بيئتها، حتى عندما تكون في حالة تنافس، فإنها تفعل ذلك لصالح النظام البيئي. ودعا الى التعلم من "لطف النباتات" وتطبيقه في الاقتصاد. وتابع، إذا تحدثنا عن التحول البيئي، ولكن بقينا في النموذج الاقتصادي للقرن العشرين الذي استنزف الموارد الطبيعية، فإن المناورات التي نتبعها ستكون دائما غير كافية، داعيا إلى اتخاذ قرارات جريئة للتخلي عن الوقود الأحفوري وتسريع تطوير مصادر الطاقة ذات التأثير الصفري أو الإيجابي، ومشددا على أهمية إصلاح الأضرار البيئية لتجنب تحميل الأجيال القادمة ثمنا باهظا.

رويترز
البابا الراحل فرنسيس خلال زيارته الضفة الغربية في فلسطين، 25 مايو 2014

لفت البابا إلى أن من أبرز مظاهر فقدان النظام الاقتصادي الدولي بوصلته الأخلاقية، هو تراكم "الديون السيادية" حيث تتحمل الدول المدينة عبئا ثقيلا، وأشار إلى أن المسؤولية في ذلك تقع على عاتق حكومات البلدان المدينة والدائنة على حد سواء، بالإضافة إلى المقرضين من القطاع الخاص، كما البنية المالية الدولية التي شجعت على تأخير عمليات إعادة الهيكلة اللازمة. ودعا البابا إلى اتخاذ خطوة شجاعة تتمثل في إعفاء شرائح كبيرة من الديون، ليس من باب الصدقة، بل بدافع الرغبة في ترسيخ العدالة والتضامن.

مواقف اقتصادية مثيرة للجدل

مواقف البابا الاقتصادية جعلته عرضة للانتقادات من وسائل الإعلام على ضفتي الاطلسي. فقد عنونت صحيفة "إنفستورز بيزنيس ديلي" الإلكترونية إحدى افتتاحياتها بالتالي "البابا فرنسيس مخطئ: السوق الحرة ليست طاغية"، متسائلة عما إذا كان يفضل في نهاية المطاف الديكتاتورية أو الأوليغارشية على السوق الحرة، مشيرة إلى نمو مؤشر التنمية الاقتصادية العالمية بنسبة 163 في المئة خلال الفترة 1999-2012. كما انتقدت صحيفة "فرانكفورتر ألجماينه تسايتونغ" البابا، قائلة إن "الكنيسة باتت تحتقر الأغنياء"، واعتبرت أن مواقفه وتصريحاته تعكس "أصله الأرجنتيني"، واتهمته وسائل إعلام أخرى بأنه "ماركسي خالص" و"اشتراكي جديد".  

اختيار كرادلة الكنيسة البابا ليو الرابع عشر خلفا للبابا فرنسيس يحمل دلالة واضحة على التزام الكنيسة الخط الاجتماعي الذي أرسته تعاليم البابا السابق

حتى أن بعض الشخصيات الدينية لم تتقبل المواقف الاقتصادية للبابا فرنسيس. على سبيل المثل، وصف الكاهن الأميركي روبرت سيريكو، المؤسس المشارك لمعهد "أكتون" لدراسة الدين والحرية، وهو مركز أبحاث كاثوليكي ليبيرالي يهدف إلى "التوفيق بين الكنيسة الكاثوليكية واقتصاد السوق"، وصف تصريحات البابا الاقتصادية، "الاقتصاد القاتل" مشيرا إلى أن البابا يبالغ في نقده للسوق الحرة. فقد انتقد البابا ورسالته "فراتيلي توتي" (Fratelli tutti) (جميع الاخوة) معربا عن أسفه لعدم فهم الفاتيكان الكافي للتمويل والاقتصاد، ودعا البابا الى حوار صادق يشمل مؤيدي "السوق الحرة"، معتبرا أن مؤتمرات روما غالبا ما تستبعد هؤلاء. 

"الكنيسة ليست منحازة الى الماركسية بل تدعو الى العدالة"

أثار البابا فرنسيس جدلا واسعا بسبب انتقاده نظرية "التسرب إلى أسفل" التي يقوم عليها اقتصاد "السوق الحرة"، والتي تدعي أن الفوائد الاقتصادية التي يحصل عليها الأغنياء ستصل في النهاية إلى الفقراء، حيث يصور داعمو هذه السوق الامور فيها كالكأس التي تمتلئ فتفيض ويستفيد منها الفقراء. ولكن البابا رأى ان ما يحصل في الحقيقة هو أنه عندما تمتلئ الكأس فإنها تتمدد بسحر ساحر ولا يفيض منها إلا القليل للفقراء. وهو أقر في مقابلة مع صحيفة "لاستاميا" الإيطالية بأنه لا يتحدث من منظور تقني، بل وفقا للعقيدة الاجتماعية للكنيسة. وهذا لا يعني أنه منحاز الى الماركسية التي هي في نظره ايديولوجيا خاطئة تستند الى منطق الصراع الطبقي. واعترف بأن الكنيسة الكاثوليكية ليس لديها نموذج اقتصادي محدد، بل دور أخلاقي يهدف إلى رفع الوعي وتسليط الضوء على المشاكل الاجتماعية، وهو ما حوَّل دور الكنيسة من التركيز على عالم اللاهوت المحافظ الذي يسعى إلى طرد الأرواح الشريرة، الى لاهوت التحرير الذي يعمل على طرد الآلهة الزائفة ومواجهة الظلم الاجتماعي والاقتصادي.

أ.ف.ب.
البابا المنتخب ليو الرابع عشر، الكاردينال روبرت بريفوست من الولايات المتحدة، يلوح بيده من شرفة كاتدرائية القديس بطرس في الفاتيكان، 8 مايو 2025

في كتابه "حان وقت التغيير"، أشار البابا فرنسيس إلى إمكان تجاوز عيوب "السوق الحرة" من خلال تخصيص أموال أو موارد للفقراء. اقترح تقديم راتب شهري لهم، معتبرا أن ذلك يعترف بقيمة العمل التطوعي ويساعد الفئات الأضعف في رفض ظروف العمل القاسية وغير الإنسانية.

إرث اجتماعي مستمر مع البابا ليو

اختيار كرادلة الكنيسة البابا ليو الرابع عشر خلفا للبابا فرنسيس يحمل دلالة واضحة على التزام الكنيسة الخط الاجتماعي الذي أرسته تعاليم البابا السابق. فاختيار البابا الجديد لاسمه يشير إلى نيته في اتباع نهج البابا ليون الثالث عشر المعروف بدفاعه عن حقوق العمال في الحصول على أجر عادل وظروف عمل آمنة، ورفض تركيز الصناعة والتجارة في أيدي قلة من الناس تتمكن من إخضاع الطبقات العاملة لسيطرتهم.

عُرف أيضا البابا ليون الثالث عشر بأنه "بابا التعليم الاجتماعي"، مما يشير إلى أهمية قضايا العدالة الاجتماعية في تعاليمه. هذا التوجه يُلمح إلى أن موضوع الحفاظ على دور العمال وحقوقهم في عصر الذكاء الاصطناعي، وحماية البيئة، والمهاجرين، سيكون من اولويات البابا الجديد، تماما كما كان الحال مع البابا فرنسيس.

font change