انتخاب البابا ليو سيبقي على الجسور التاريخية بين المغرب والفاتيكان

برقية العاهل المغربي محمد السادس، تهنئة مثلت أول اتصال رسمي بين المغرب والبابا الجديد

 أ ف ب
أ ف ب
ملك المغرب محمد السادس والبابا فرنسيس في الرباط اثناء زيارة الاخير الى المغرب في 30 مارس 2-19

انتخاب البابا ليو سيبقي على الجسور التاريخية بين المغرب والفاتيكان

لا شك، أنه خلال الأعوام الأخيرة قد انتصب بإلحاح، داخل كواليس الفاتيكان، السؤال المتعلق بخلافة البابا فرانسيس، خاصة بعد معاناته من المرض، ثم إثر تلويحه بفرضية استقالته، وقد صرح قبل عامين، بأنه "إذا لم تعد لدي القوة للحكم فسوف أستقيل".

لكن بعد وفاته يوم 21 أبريل/نيسان، انتقل السؤال من الغرف السرية للفاتيكان ليتصدر المشهد وليصبح شأنا عاما، لا يخص فقط المسيحيين، بل يهم العالم بأكمله، لما يمثله رئيس دولة الفاتيكان كقوة أخلاقية كبرى، ولِما يلعبه من أدوار دبلوماسية مؤثرة على الساحة الدولية، وإن وصفت بـ"دبلوماسية الظل"، أو ما يطلق عليه "دبلوماسية الصمت"، على اعتبار أن الفاتيكان أصغر دولة مستقلة في العالم، لا تمتلك جيشا ولا مصالح اقتصادية. ومع ذلك، فإن لديها اهتمامات تتوافق مع وجهات نظرها الخاصة حول ما يجري في العالم، وتمتلك هيكلا دبلوماسيا يراقب الصراعات الدولية، ويتابع القضايا والأفكار التي من شأنها المساهمة في إحداث التغيير وتشكيل مستقبل أفضل للبشرية. لذلك غالبا ما يُدعى البابا ليكون وسيطا للسلام.

وسبق انتخاب البابا الجديد ليون الرابع عشر التداول حول مسألة الخلافة البابوية، بصيغ متعددة ومن زوايا وأبعاد مختلفة. وبالموازاة طرح التساؤل حول الفرص المتاحة لتسمية الحبر الأعظم الجديد من خارج المتوقع والمعتاد. وهو ما تحقق مع تسنم الكاردينال الأميركي روبرت بريفوست سدة البابوية. فمنذ مئات السنين انفرد أحبار أوروبا بالتعاقب على رئاسة الكنيسة الكاثوليكية، والحالة الفريدة في التاريخ المعاصر كانت من أميركا اللاتينية، وهي المتعلقة بالبابا الأخير، البابا فرانسيس، المتحدر من الأرجنتين قبل أن يجري اختيار البابا الجديد.

وبمجرد الإعلان عن اسم البابا الجديد، روبرت فرانسيس بريفوست، الذي اتخذ له لقب "ليون الرابع عشر"، انهالت برقيات التهاني والتبريكات من مختلف أصقاع الأرض على الفاتيكان. ومن بينها برقية العاهل المغربي محمد السادس، تهنئة مثلت أول اتصال رسمي بين المغرب والبابا الجديد بمناسبة اعتلائه الكرسي البابوي.

رحيل البابا فرانسيس أحيا في المغرب ذكرى أول زيارة تاريخية قام بها بابا الفاتيكان لبلد مسلم. عندما استقبل ملك المغرب الحسن الثاني البابا يوحنا بولس الثاني يوم 19 أغسطس 1985

وأشارت البرقية إلى أن "المملكة المغربية والكرسي البابوي يرتبطان بروابط عريقة قائمة على التقدير المتبادل والتفاهم الودي، وعلى التزامهما الفاعل لفائدة السلام والعيش المشترك". وأن "المملكة المغربية، أرض التعايش الأخوي بين الديانات التوحيدية، ما فتئت تواصل جهودها في سبيل تعزيز روح التضامن والوئام بين الشعوب والحضارات". 
وفي هذا الصدد أكد العاهل المغربي حرصه الشخصي والراسخ على أن تستمر الروابط المتميزة بين المملكة المغربية والكرسي البابوي، "في ظل عهدكم، على روح الأخوة والصداقة والتفاهم نفسها، آملا أن يتواصل تعزيزها من أجل دعم الحوار الدائم بين المسلمين والمسيحيين على أساس القيم الإنسانية الكونية والتعاليم المشتركة بين الديانات السماوية". 

المسيحية في المغرب


يكاد سكان المغرب أن يكونوا جميعا مسلمين بنسبة مئة في المئة، لكن الدولة تروّج للبلد كواحة للتسامح الديني في منطقة مزقتها النزعات المتطرفة، ومنذ سنوات وفّرت الحكومة المغربية معهدا لتدريب الدعاة والمرشدين الدينيين المسلمين من أفريقيا وأوروبا (معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات)، يهدف إلى مكافحة التطرف الديني، من خلال "العمل على التعريف الصحيح بحقائق الدين الإسلامي الحنيف، والسهر على نشر تعاليمه السمحة وقيمه الراسخة" أو ما يوصف بـ"الإسلام المعتدل.
ناهيك عن أن دستور المغرب ينص في فصله الثالث على أن الإسلام هو دين الدولة، مع ضمان حرية الفكر والعبادة. "الدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية" مع التحذير من أن "ازدراء الأديان في المغرب جريمة يعاقب عليها القانون" بموجب الدستور.
لكن على أرض الواقع، الأمر مختلف. فلا يجوز للمرأة المسلمة الزواج من رجل غير مسلم إلا بعد اعتناقه الإسلام، كما لا يحق للمرأة المسيحية المتزوجة من رجل مسلم الحصول على الميراث، أو حضانة أطفالها في حالة الطلاق، أو في حالة وفاة زوجها.
وبالرغم من ذلك، فإن الكنائس ليست غائبة عن المشهد المغربي. بل إنه في السنوات الأخيرة صار أغلب رواد أماكن العبادة المسيحية في المغرب هم من الأفارقة المهاجرين، الذين يرتادونها بانتظام، محدثين بذلك ازدهارا غير مسبوق في تواصل كنائس الدار البيضاء والرباط ومراكش وطنجة وبقية المدن، مع المؤمنين من مجتمعات المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى، وإن كانت الغاية الواضحة هي تلقي الإحسان أكثر منها اعتقادات إيمانية محفزة. 
لذلك جاء عنوان تقرير نشر العام الماضي في صحيفة "لوموند" الفرنسية: "في المغرب، إحياء المسيحية بلهجات جنوب الصحراء الكبرى".

ذكرى من البابا في أرض المغرب


رحيل البابا فرانسيس أحيا في المغرب ذكرى أول زيارة تاريخية قام بها بابا الفاتيكان لبلد مسلم. عندما استقبل ملك المغرب الحسن الثاني البابا يوحنا بولس الثاني يوم 19 أغسطس/آب عام 1985.

أ ف ب

أمام 90 ألف شاب مغربي احتشدوا فوق مدرجات أكبر المنشآت الرياضية في البلاد، ("المجمع الرياضي محمد الخامس" بمدينة الدار البيضاء)، وجه البابا يوحنا بولس الثاني خطابا غير مسبوق أمام جمهور غير مسيحي "خطاب نسجت كلماته المغزولة بخيوط المحبة والوئام". متحدثا بلغة فرنسية بسيطة ومباشرة عن نبي الله إبراهيم الخليل، أبي الديانات التوحيدية الثلاث (الإسلام والمسيحية واليهودية)، وعن "الإيمان الوحيد بالإله الحي والرحيم، وعن المسؤولية الأخلاقية لكل فرد تجاه العالم".

لما أتى البابا فرانسيس إلى الرباط، حمل معه الرسالة نفسها التي أتى بها سلفه البابا يوحنا بولس الثاني، "رسالة التسامح والسلام والحوار بين الأديان"

الزيارة الثانية لـ"الحبر الأعظم" إلى المغرب، حدثت في عهد الملك محمد السادس، واستغرقت يومين، 30 و31 مارس/آذار من سنة 2019، مستهدفة "تعزيز العلاقات المسيحية الإسلامية وإظهار التضامن مع مجتمع المهاجرين المتنامي في المغرب".
ولما أتى البابا فرانسيس إلى الرباط، حمل معه الرسالة نفسها التي أتى بها سلفه البابا يوحنا بولس الثاني، "رسالة التسامح والسلام والحوار بين الأديان"، من منطلق "بناء روابط بين التقاليد الدينية بروح السلام والأخوة والاحترام المتبادل".
ومرة أخرى، أمام الشباب المغربي، وجه البابا فرانسيس نداء من أجل أن يكونوا "بناة جسور وليسوا مشيدي جدران وحواجز. مؤكدا أن "الحرية الدينية، لا تقتصر على التسامح، بل تتضمن الاعتراف بالآخرين في إيمانهم وكرامتهم".
كان لافتا مدى انتقاء البابا فرانسيس لكلماته بكامل العناية، في الخطاب الذي ألقاه خلال مراسم الاستقبال الرسمي الذي خصصه له الملك، في باحة مسجد حسان في العاصمة الرباط، وقد دعا البابا المسيحيين المغاربة إلى عدم القيام بالتبشير، وهو أمر محظور في المغرب احتراما لغالبية السكان المسلمين.
كانت تلك الزيارة التاريخية "لحظة نعمة، تذكارية ونبوية، وقد ترك البابا فرانسيس، في تواضعه وثبات إيمانه، شهادة قوية، شهادة رجل سلام مقتنع بأن الأخوة ليست حلما، بل أفق ضروري". كما ورد على الموقع الرسمي للفاتيكان.

راهب كاثوليكي من مدينة فاس المغربية، من عائلة غنية مسلمة عريقة ومعروفة بورعها وبتمسكها بالدين الإسلامي، تعود جذورها إلى بلاد الشام

هكذا عزز المغرب مكانته كشريك مهم في دبلوماسية الفاتيكان، خصوصا وأن الحكومة المغربية لم تضطهد المسيحيين، وأماكن العبادة الكاثوليكية لا تزال نشطة في أكبر المدن المغربية، بل إن الملك محمد السادس، بالإضافة إلى زعامته السياسية، يحظى بلقب "أمير المؤمنين"، وقد أصبح لقبه الديني يشمل جميع المؤمنين من الديانات السماوية الثلاث، بوجود طائفة يهودية مغربية، وبوجود كاثوليكي أجنبي، وإن كان ضعيفا. وهناك كلام عن نحو ثمانية آلاف مغربي اعتنقوا المسيحية في العقدين الأخيرين، غير أنه لا يوجد أي مصدر موثوق للتحقق من هذا المعطى والرقم.

خلال عهد البابا فرانسيس، "الشخصية العالمية التي تمكنت من تجاوز الحدود الطائفية، وعُرفت بالتزامها التقريب بين الثقافات والحوار بين الأديان"، توطدت العلاقات بين الرباط والفاتيكان، خاصة عقب اعترافه بدولة فلسطين في عام 2015 وإداناته المتكررة للوضع في غزة"، كما صرح رئيس أساقفة الرباط الكاردينال الساليزياني (73 عاما). 

راهب مسيحي مغربي 


موضوع خلافة البابا على منصب الكرسي الرسولي، مع الاحتمالات البعيدة لوصول حبر من المنطقة العربية، أعادت إلى بعض الأذهان قصة ذلك المغربي الذي كان من الممكن أن يصبح قاب قوسين أو أدنى "نائب يسوع المسيح"، كما يلقب بابا الفاتيكان.
وهي قصة راهب كاثوليكي من مدينة فاس المغربية، من عائلة غنية مسلمة عريقة ومعروفة بورعها وبتمسكها بالدين الإسلامي، إذ تعود جذورها إلى بلاد الشام. لكن ابنها البكر قرر أن يترك الإسلام ليتبع المسيحية. مما أحدث صدمة عميقة وخلف تذمرا كبيرا لدى المسلمين المغاربة، حيث قاطعته أسرته، واعتبره والده متوفيا وأقام له مراسم عزاء، وطافت بشوارع مدينة فاس مظاهرة حاشدة وراء نعش فارغ يمثل جنازته الرمزية.
وحده شقيقه عمر من حافظ على التواصل معه، خاصة في بعض الأوقات الصعبة التي ستواجه الأخ المتنصر. 
هو محمد بن عبد الجليل، الذي سيصبح راهبا مسيحيا، وعرف باسم "الأب يوحنا بن عبد الجليل" أو "يوحنا محمد بن عبد الجليل".
من مواليد مدينة فاس يوم 17 أبريل سنة 1904، وكانت وفاته يوم 24 نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1979 في العاصمة الفرنسية باريس.
ومما ورد في مادة "محمد بن عبد الجليل"، في موسوعة "معلمة المغرب"، الجزء 17، أن "عائلة بن عبد الجليل عريقة في تقلد المناصب السامية داخل الجهاز المخزني المغربي. وكان والده يشغل منصب نائب باشا مدينة فاس". 
أما يوحنا محمد بن عبد الجليل فيقول في كتاب له بعنوان: "شاهد على القرآن والإنجيل"، إن أجداده جاءوا من الأندلس واستقروا بفاس قبل أربعة قرون. كان والده خليفة باشا مدينة فاس، وعمه وكيل الملك في المدينة، بينما كان أخوه عمر بن عبد الجليل من زعماء حزب "الاستقلال"، وصار بعد استقلال المغرب وزيرا للتربية الوطنية سنة 1958".

في سنة 1936 سيتولى يوحنا محمد عبد الجليل مهمة التدريس في المعهد الكاثوليكي بباريس، وتكلف بتدريس الدين والفكر الإسلاميين واللغة العربية وآدابها، وقد استمر في أداء مهمته التدريسية حتى عام 1964

تلقى محمد بن عبد الجليل تعليمه الأولي في جامعة القرويين بمدينة فاس، حيث حفظ القرآن وهو لم يتجاوز سن التاسعة من عمره، وسيرافق والديه إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج، في الفترة بين سنتي 1913-1914. درس بن عبد الجليل في ثانوية فاس باللغتين العربية والفرنسية، قبل انتقاله إلى العاصمة الرباط لمتابعة دراسته في "ليسيه غورو"، حيث نال شهادة البكالوريا عام 1925. وخلال دراسته في الرباط أقام لمدة عام كامل بمدرسة تابعة للآباء الفرانسيسكان، تسمى باسم القسيس الكاثوليكي الفرنسي المشهور شارل دو فوك، بهذه المدرسة الداخلية تعرف التلميذ محمد بن عبد الجليل لأول مرة على مبادئ الديانة المسيحية. 
كان محمد من المتفوقين المتميزين في الدراسة، لذلك سيستفيد بعد حصوله على شهادة البكالوريا من منحة دراسية في فرنسا، بقرار وتدخل خاص من المقيم العام الفرنسي في المغرب، الذي لم يكن غير الماريشال هوبير ليوتي (1854-1934)، الذي استقبل محمد بن عبد الجليل شخصيا يوم 29 يوليو/تموز 1925. 
في سبتمبر/أيلول 1925 وصل بن عبد الجليل إلى باريس، وتسجل في "المدرسة الوطنية للغات الشرقية والدراسات العليا"، التابعة لجامعة السوربون العريقة بفرنسا. وحصل على الإجازة في اللغة العربية وآدابها، وفي الوقت نفسه انتسب إلى "المعهد الكاثوليكي" بباريس كأول طالب مسلم يتابع دراسته في كلية كنسية، حيث اهتم بشكل كبير بالفلسفة ودراسة الأديان. هكذا تأثر الطالب محمد عبد الجليل بأفكار الفيلسوفين جاك ماريتن وموريس بلونديل.
أما التأثير الأكبر فقد أخذه من يد المستشرق لوي ماسينيون، والذي يعتبر الأب الروحي لمحمد عبد الجليل ومرشده إلى المسيحية.
في عام 1928، اعتنق محمد بن عبد الجليل المسيحية بعد دراسة عميقة وعن قناعة، وتم تعميده من طرف الكنيسة الكاثوليكية في السنة نفسها.

"المجلة"
غلاف كتاب شاهد على القرآن والإنجيل ليوحنا محمد عبد الجليل

يقول الأب موريس بورمون عن مرحلة محمد بن عبد الجليل في المدرسة الكاثوليكية: "لقد دفعته رغبته في البحث عن الروحيات إلى قراءة الكتب التي تتحدث عن إله المسيحيين.. وهنا اكتشف المسيحية، وفي سنة 1927 انتقل إلى مرحلة التفكير والصلاة، وفي الخريف كانت مراسلته النهائية إلى لوي ماسينيون، والتي قرر فيها مصيره".
في سنة 1936 سيتولى يوحنا محمد عبد الجليل مهمة التدريس في المعهد الكاثوليكي بباريس، وتكلف بتدريس الدين والفكر الإسلاميين واللغة العربية وآدابها، وقد استمر في أداء مهمته التدريسية حتى عام 1964.
واعتبارا لإمكانياته التواصلية الكبيرة ولإتقانه لعدة لغات، العربية والفرنسية والألمانية والإسبانية والإنجليزية، عمل بعد إحالته على التقاعد من التدريس، كمستشار غير رسمي لبابا الفاتيكان في القضايا التي لها علاقة بالإسلام والمسلمين، وقد استقبله بابا الفتيكان بولس السادس يوم 14 مايو/أيار 1966.

انحياز الراهب للمغرب وللقضية الفلسطينية


ولم يسجل على يوحنا محمد بن عبد الجليل أنه انتقد أو هاجم يوما الإسلام والمسلمين، بل إنه عمل طيلة مساره في التدريس وعبر مختلف الوسائل من محاضرات وندوات وكتابات على بناء ومد جسور الحوار والتفاهم بين معتنقي الديانتين الإسلامية والمسيحية. وحرص على الاحتفاظ بعلاقات ودية وقريبة مع عدد من السياسيين المغاربة، خاصة شقيقه الأصغر عمر، الذي يعد من أقطاب حزب "الاستقلال". وقد انحاز يوحنا محمد بن عبد الجليل أيضا إلى مطالب المغاربة آنذاك من أجل الإصلاح ثم الاستقلال، إذ كان أخوه عمر أحد الموقعين على "وثيقة الاستقلال" (1944).

ألف يوحنا محمد بن عبد الجليل عددا من الكتب باللغة الفرنسية، لم تنقل إلى اللغة العربية. بعضها حول أهمية إقامة الجسور بين الديانتين المسيحية والإسلام

من اللافت أيضا انحياز الأب يوحنا محمد إلى جانب الشعب الفلسطيني وقضيته، معبرا عن رفضه وتنديده الواضح والمبكر والعلني بقيام "دولة إسرائيل" خلال إحدى محاضراته في 24 نوفمبر 1948.
وفي أغسطس من سنة 1958، وعلى هامش الندوة المتوسطية بفلورنسا، التقى يوحنا محمد بولي العهد الأمير الحسن (الملك الحسن الثاني). 
وبعد انقطاع لأربعة عقود متواصلة، عاد محمد بن عبد الجليل في سنة 1961 إلى المغرب، وذلك عقب أزمة نفسية حادة ألمت به، جعلته يستنجد بعائلته وبأخيه عمر، الذي استقبله في مطار الدار البيضاء، يوم 28 أبريل/نيسان 1961. لكنه رجع بعد فترة قصيرة لم تستمر أكثر من أسبوعين. وعاد إلى فرنسا التي صار ينتمي إليها ويحمل جنسيتها، وكانت عودته بسبب استيائه من الأخبار الزائفة التي انتشرت وتناقلتها الصحافة المغربية، والتي تقول إن "الحاج محمد عبد الجليل" أعلن توبته ورجع إلى دينه الأصلي الإسلام، كما كتبت جريدة "الاستقلال" الناطقة باللغة الفرنسية. فيما زعمت صحيفة أخرى، أنه نظرا لثقافة محمد بن عبد الجليل الواسعة وتجربته العميقة فإن الملك سيقوم بتعيين "الحاج التائب" عضوا في الحكومة المغربية، وبالتحديد في منصب الوزير المكلف بشؤون التعليم.
وفي سنة 1964 تم تشخيص إصابة يوحنا محمد بن عبد الجليل بالسرطان في لسانه، وفي 24 نوفمبر 1979 وافته المنية في أحد المستشفيات بضواحي باريس. 
ألف يوحنا محمد بن عبد الجليل عددا من الكتب باللغة الفرنسية، لم تنقل إلى اللغة العربية. بعضها حول أهمية إقامة الجسور بين الديانتين المسيحية والإسلام.
أما لماذا احتفظ الراهب الفاسي المغربي باسمه الأول، الذي أطلقه عليه والداه أي (محمد)، ضمن اسمه الثلاثي المركب، فالإجابة ضمنها أحد كتبه (شاهد على القرآن والإنجيل)، الذي أوضح فيه مدى محبته وإعجابه برسول الإسلام.
ولعل غرابة الاسم تضاف إلى أسباب استبعاده عن القوائم المرشحة لمناصب أكبر في الفاتيكان.

font change