قبل أسابيع كانت هناك حملة كبيرة على منصات التواصل الاجتماعي، كتب فيها عدد كبير من اليمنيين متضامنين مع شخص تبرأت منه قبيلته في بيان لها، بسبب أنه تزوج ابنة "مزيّن". وهنا بدأ الكثير من الجدل، من هم "المزاينة"؟ ولماذا ما زال المجتمع اليمني متمسكاً بهذه التفرقة الطبقية.
ينقسم المجتمع اليمني، لا سيما في شمال البلاد، إلى طبقات اجتماعية راسخة تعود جذورها إلى فترة حكم الأئمة. في قمة الهرم توجد طبقة السادة أو الهاشميين، تليها طبقة القضاة، وهم من يشغلون مناصب في القضاء، ويُطلق على الواحد منهم أيضًا لقب "الحاكم". تأتي بعدهم طبقة القبائل، التي تضم أيضًا المزارعين، وتنقسم بدورها إلى مراتب بحسب مكانة القبيلة. ثم هناك فئة العمال الذين يزاولون المهن اليدوية، تليهم فئة "المزاينة"، وهم في الغالب من يعملون في مهنة الحلاقة. ويمتدّ هذا التصنيف ليشمل الجزّارين وأصحاب بعض المهن التي يعتبرها المجتمع وضيعة. أما في أسفل السلم الاجتماعي، فتأتي طبقة "الأخدام"، وهو تصنيف عنصري يُطلق على أصحاب البشرة السوداء.
وتعاني الفئتان الأخيرتان من العنصرية، ويتمّ إقصاؤهما، ولا يصاهرون بقية الطبقات. فمن يتزوج من ابنة "مزين" أو الفتاة التي تتزوج من "مزين" أو من شخص في عائلته "مزين"، فهذا يعني أن بنات وفتيات العائلة سيصيبهن ما يشبه اللعنة، ولن يتزوجهن أحد، وستخرج العائلة من الطبقة التي كانت فيها، وستصبح محتقرة.
هذا ما حدث لهذا الشخص الذي قرر الزواج من ابنة "مزيّن"، هذا القرار الذي لن يضرّه هو فقط ولكنه سيؤذي عائلته أيضا. وإن كان لديه أخوات فإنهن إما سيعشن من دون زواج، وإما عليهنّ أن يتزوجن من الفئة نفسها، وهنا ستقاطع القبيلة كل عائلته وليس هو فقط.
عندما تعاطف الكثيرون مع الشخص الذي قرّر الزواج من ابنة "مزيّن"، انتقدهم آخرون وقالوا إنهم منافقون يريدون فقط الحصول على "لايكات" في وسائل التواصل، لأنهم لا يمكن أن يقبلوا أن تتزوّج ابنتهم أو ابنهم من عائلة "مزاينة". ولكن هل هذا صحيح؟ ألا يوجد أمل في أن تتغير هذه التصنيفات؟ هل المتضامنون فعلًا منافقون؟
بحسب الكاتب علي المقري فإن هناك الكثير الذي تغيّر عبر السنوات وبسبب الظروف التي مرّت بها اليمن والانفتاح الذي تسبّبت به الفضائيات من قبلُ. فمثلًا: نظرة المجتمع للفنانين تغيرت كثيراً، وأصبح الفنان شخصًا مشهورًا ومحبوبًا بعكس ما كان عليه سابقًا. حيث كان من المستنكر الزواج من فنان أو "مزمّر"، ولكن اليوم هذه الفكرة تغيّرت إلى حد كبير باستثناء من يعتبرون الفن حرامًا.
سفر اليمنيين خارج بلدهم وممارستهم لجميع المهن، وعدم حكمهم على بعضهم يدلّ على أن الناس يتبنون التقسيمات العنصرية خوفًا– فقط- من الأحكام المجتمعية المهترئة داخل البلد
يقول المقري إن مهنة "المقهاية" (الشخص الذي يعمل في مقهى) كانت أيضا من المهن التي تصنف صاحبها بأنه من فئة "المزاينة". ولكن المقاهي تغيّرت اليوم وأصبح امتلاك مطعم أو مقهى أو حتى من يعمل كنادل في الغرب شيئًا ليس محصورًا على طبقة معينة وإنما بالعكس أصبح دليل نجاح وقصة كفاح.
ساهمت الحرب وسفر الكثير من اليمنيين في المزيد من التغيير حيث أصبحنا نرى ابنة وزيرة أو حفيد رئيس أو ابن قبيلة كبيرة يعملون في مهن الحلاقة أو في المطاعم، ولم يحتقر أحد عائلتهم ولا قوطعوا. ولكن هذا ينطبق على من يعيشون خارج اليمن. أما في الجانب الآخر ممّن يعيشون في اليمن، فما يزالون يحاولون جاهدين الخروج من هذه التصنيفات خاصة مَن يعيشون في مناطق سيطرة الحوثيين، فهم يواجهون حربًا أخرى تريد أن تعيدهم للوراء لزمن السيّد والمَسُود. فهل سينجح الحوثيون في ذلك؟ أم إن الانفتاح على العالم، الذي لم يتوفر في زمن الإمامة، ولكنه متوفرٌ اليوم، سيكون العائق لمحاولات الحوثيين الرجعية؟
المقري تحدّث في روايته "طعم أسود رائحة سوداء" عن قصة حب بين فتاة من فئة "المزاينة" بشاب من فئة "الأخدام"، وصوّر هروبهما إلى العشش التي يعيش فيها "الأخدام" المكان الوحيد الذي يستطيعون أن يعيشوا فيه بحرية بعيدًا عن التصنيفات القاسية للمجتمع.
سفر اليمنيين خارج بلدهم وممارستهم لجميع المهن، وعدم حكمهم على بعضهم يدلّ على أن الناس يتبنون هذه التقسيمات العنصرية خوفًا– فقط- من الأحكام المجتمعية المهترئة داخل البلد، ولكنهم في قرارة نفسهم لا يقتنعون بها، وإن جاءت الفرصة وسافروا إلى الخارج، فلن يفكروا بهذه التفرقات، وسيصبح عالمهم حرًّا ومتجانسًا مثل ما كانت عشش "الأخدام" في قصة علي المقري.