القطب الشمالي... ساحة المعركة المقبلة بين روسيا والغرب

توسع خطوط الاشتباك يوما بعد يوم

أ ف ب
أ ف ب
قطعة حربية بحرية دنماركية في غرينلاند، 8 مارس

القطب الشمالي... ساحة المعركة المقبلة بين روسيا والغرب

بعد أيام على نشر تقارير أفادت ببناء روسيا قواعد، وتوسيع حضورها العسكري قرب الحدود الفنلندية، استدعت وزارة الخارجية الفنلندية السفير الروسي للاشتباه في أن طائرتين عسكريتين روسيتين انتهكتا المجال الجوي قبالة سواحل بورفو الواقعة جنوبي البلاد على بُعد نحو 50 كيلومترا من العاصمة هلسنكي عصر الجمعة الماضي.

وفي مؤشر إضافي إلى زيادة التوتر بين روسيا و"حلف شمال الأطلسي" (الناتو)، نشرت صحيفة "تلغراف" البريطانية تقريرا تضمن صورا جديدة من الأقمار الاصطناعية لأرتال من خيام القوات الجديدة، وقواعد عسكرية موسعة، ومطارات مُجدّدة، قبالة الجناح الشمالي الشرقي لحلف "الناتو". وتزداد مؤشرات الصدام مع رفع عدد الجيش الروسي، وزيادة إنتاج الأسلحة، وتطوير البنية التحتية اللوجستية على طول حدود روسيا مع النرويج وفنلندا ودول البلطيق، وتوقيع فنلندا والسويد والدنمارك اتفاقات دفاعية تسمح للقوات الأميركية بنشر أفراد ومعدات على أراضيها، والتطوير المشترك للبنى العسكرية بين البلدان الاسكندنافية، وإنشاء غرف إدارة مشتركة للعمليات في حال نشوب أي حرب مع روسيا.

وتسلط هذه الأنباء الضوء على جانب من التوتر الذي شاب علاقة روسيا مع جيرانها في منطقتي بحر البلطيق والقطب الشمالي بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، وربما وجهة المعارك المستقبلية بعد أن انتهاء الحرب في أوكرانيا.

وأججت تصريحات وإجراءات روسيا وبلدان البلطيق والدول الاسكندنافية مخاوف من معارك أكبر للهيمنة العسكرية والاقتصادية على المنطقتين الحيويتين وإمكانية الانزلاق نحو حرب عالمية ثالثة، خاصة في ظل عسكرة بحر البلطيق والقطب الشمالي المتزايدة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها في "الناتو"، وروسيا من جهة أخرى، واهتمام الصين المتزايد بتشغيل الممر القطبي الشمالي والمنافسة على الثروات الطبيعية الهائلة التي يسمح ذوبان الجليد الأزلي باستغلالها.

وشكّل انضمام فنلندا والسويد إلى حلف "الناتو" أخطر نتيجة جيوسياسية للحرب الروسية على أوكرانيا، فبدلا من إعادة الحلف إلى حدود 1997، ومنع تمدده، كما طالبت روسيا، زادت خطوط الاشتباك بين الطرفين بأكثر من 1300 كيلومتر وامتد الصراع إلى القطب الشمالي، وباتت روسيا محاصرة في بحر البلطيق.

وتزداد المخاوف من اللجوء إلى السلاح النووي لحسم أي صراع مستقبلي في المنطقة، ومنذ إعلان فنلندا والسويد توجههما نحو الانضمام إلى حلف "الناتو" في 2022، كرر المسؤولون تلويحهم بالقوة ومن ضمنها الضربة النووية في حال تهديد مصالح موسكو. وفي 29 أبريل/نيسان الماضي قال نائب رئيس مجلس الأمن الروسي والرئيس السابق ديمتري مدفيديف في تصريحات لوكالة "تاس" إن الدول الأعضاء الجديدة في حلف شمال الأطلسي أصبحت أهدافا محتملة للهجمات الروسية. وخلص مدفيديف إلى أن "وضع الدول المحايدة منحها تفضيلات دولية معينة لأسباب جيوسياسية، والآن أصبحت جزءا من كتلة معادية لنا. ما يعني أنها تصبح تلقائيا هدفا لقواتنا المسلحة، بما في ذلك الرد المحتمل وبالمكون النووي أيضا".

صراع عالمي معقد

عادة ما تُطرح التهديدات المحتملة التي تواجهها دول الشمال الأوروبي من زاوية التأثيرات المباشرة للحرب الأوكرانية على دول الجوار ودول منطقة بحر البلطيق، ارتباطا مع النزعة العسكرية الروسية التي توظفها موسكو في خدمة أجنداتها الجيوسياسية من أجل استعادة دور روسيا كدولة كبرى على المسرح الدولي في عالم متعدد الأقطاب.

بيد أن نظرة أعمق تكشف أن منطقة القطب الشمالي تعد منطقة للصراع التالي بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي، على خلفية تنامي الأهمية الجيوستراتيجية والاقتصادية لهذه المنطقة. وكشف إصرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب الاستحواذ على غرينلاند أكبر جزيرة في العالم، أن الحسابات الأميركية تنطلق من أن أهمية السيطرة على القطب الشمالي بثرواته وممراته البحرية وموقعه الفريد أكبر بكثير من مراعاة الحلفاء.

وباتت منطقة القطب الشمالي مركز اهتمام للدول الكبرى، حيث أدى ارتفاع درجات الحرارة، جراء تغيرات المناخ والاحتباس الحراري، إلى توافر طريق بحري جديد على مدار العام نتيجة انحسار الجليد. ويعدّ هذا الطريق الجديد هو الأسرع والأقصر بين آسيا وأوروبا. كما تعدّ منطقة القطب الشمالي مثالية للرحلات نحو الفضاء واستقبال إشارات الأقمار الصناعية، وهو أمر مهم للتحكم الاستراتيجي عالميا.

شكّل انضمام فنلندا والسويد إلى حلف "الناتو" أخطر نتيجة جيوسياسية للحرب الروسية على أوكرانيا

وتكمن أهمية منطقة القطب الشمالي اقتصاديا وتجاريا باحتوائها على ثروات تقدرها دراسات بنحو 13 و30 في المئة على التوالي من مخزونات النفط والغاز عالميا، إضافة إلى المعادن النادرة الضرورية في صناعات الفضاء والطيران والبطاريات الكهربائية وغيرها. وتشكل المساحات الواسعة فرصة لإنتاج الطاقة المتجددة. وتسنح فرص أكبر بكثير، وأقل تكلفة، لاستثمار الموارد الطبيعية والمهمة التي تزخر بها المنطقة ما يجعلها ذات أهمية خاصة للازدهار الاقتصادي بالنسبة للسويد وفنلندا والنرويج، التي تقع أجزاؤها الشمالية في المنطقة القطبية.

وفي الوقت ذاته تبرز لدى البلدان الثلاثة مخاوف مستقبلية من تحول بحر البلطيق والممرات القطبية إلى محور للصراع بين المشاريع الجيوسياسية للرئيسين بوتين وترمب وسط احتمالين كلاهما مرّ. الأول: تقاسم النفوذ بين القوتين العظميين أو حرب مدمرة بينهما على أراضيها، قد لا تقتصر على المناطق الشمالية فقط وقد تطاول جميع أراضي البلدان الثلاثة التي غدت حلقة وصل بين القطب الشمالي بأهميته الاستراتيجية والقارة الأوروبية.

وعارضت روسيا انضمام السويد وفنلندا إلى عضوية حلف "الناتو" خشية تعرضها للحصار، إذا قررت دول "الناتو" توسيع وجودها العسكري في منطقة القطب الشمالي. فساحل روسيا الشمالي سيصبح مكشوفا، وستتراجع قدرتها على التحكم في ممرات الشحن القطبية.

وتغطي المنطقة القطبية الشمالية التابعة لروسيا أكثر من نصف مساحة روسيا، وتؤمن 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. ويتعامل الكرملين مع المنطقة كجزء من الهوية القومية الروسية، ومسألة أمن قومي، قبل أن تكون مسألة إقليمية أو دولية. وتؤكد الوثائق الاستراتيجية الروسية أن ردع حلف "الناتو" مبدأ ثابت لسياسة روسيا في القطب الشمالي. وبعد سنوات طويلة من الإهمال، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، عملت روسيا في العقدين الأخيرين على إعادة بناء وتحديث بنيتها العسكرية القطبية الاستراتيجية وتشغيلها، وزيادة قدرات الجيش الروسي.

أ.ب
مؤتمر صحفي مشترك بمناسبة الاجتماع الصيفي لرؤساء وزراء دول الشمال الأوروبي، في بايميو، فنلندا، 26 مايو

ويلعب أسطول الشمال دورا مهماً في المحافظة على أمن روسيا، وتبحر سفنه بانتظام، وبشكل ملحوظ، عبر المحيط المتجمد الشمالي، وتتدرب على مواجهة الغواصات الغربية.

ويتألف أسطول الشمال من 12 غواصة نووية استراتيجية تحمل ما يصل إلى 192 صاروخا باليستيا قادرا على حمل رؤوس نووية، و24 غواصة نووية مزودة بصواريخ كروز، و10 غواصات نووية لأغراض خاصة، بالإضافة إلى 12 غواصة نووية قيد الإنشاء أو قريبة من التشغيل. ويعمل الأسطول على حماية نشاطات روسيا الاقتصادية في المنطقة.

ويعد القطب الشمالي أيضا ساحة اختبار للأسلحة النووية الروسية الجديدة، مثل صاروخ بوريفيستنيك كروز والطوربيد بوسيدون، وتكمن أهمية المنطقة في أن روسيا تحتفظ فيها بنحو ثلثي مخزونها من الرؤوس النووية بما تمثله من القدرة على الردع النووي.

 وتدير شركة "روساتوم" الحكومية للطاقة النووية أسطولا مكونا من ثماني كاسحات جليد والذي يشكل محورا أساسيا لطريق البحر الشمالي، حيث تم نقل 36 مليون طن من البضائع في عام 2023، بعد أن كانت 4 ملايين فقط في 2014. ومن المتوقع أن تصل هذه الكمية إلى 270 مليون طن بحلول عام 2035، وهناك مخططات لتوسيع أسطول كاسحات الجليد النووية. ونظرا للأهمية المتزايدة اقتصاديا وعسكريا للقطب الشمالي زادت روسيا عدد المفاعلات النووية المدنية والعسكرية في المنطقة بنحو 30 في المئة، من 62 إلى 81 مفاعلا، مع مخططات لرفع العدد إلى 118 مفاعلا بحلول عام 2035.

نظرا للأهمية المتزايدة اقتصاديا وعسكريا للقطب الشمالي زادت روسيا عدد المفاعلات النووية المدنية والعسكرية في المنطقة بنحو 30 في المئة

وتمثل القدرات البحرية لحلف "الناتو" في الغرب تحديا أمنيا أكثر إلحاحا لروسيا، خاصة مع انضمام فنلندا والسويد إلى الحلف، ورفع النرويج بعض القيود التي فرضتها في وقت سابق على استخدام الحلف للساحل الشمالي النرويجي. وتنطلق روسيا من أنه من الصعوبة هزيمة "الناتو" في حرب بحرية تقليدية واسعة النطاق في المنطقة، ولكن يمكنها حرمان قوات "الناتو" من الوصول إلى القطب الشمالي الروسي مع الحفاظ على وصول آمن للبحرية الروسية إلى شمال المحيط الأطلسي، عبر توظيف طاقات أسطول الشمال الروسي وهو الأسطول الأكبر والأكثر تقدما والأكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية في البحرية الروسية، ولا تقتصر مهامه على منطقة القطب الشمالي وحدها، بل هي مهام عالمية بشكل واضح، فالأسطول، حسب الاستراتيجية العسكرية الروسية يجب أن يكون في وضع يمكنه من العمل في أي ركن بعيد من الكوكب لردع أي هجوم نووي.

وتعمل بعض أحدث أنواع غواصات الصواريخ الباليستية (من فئة بوري) والغواصات الهجومية النووية (من فئة ياسين) من قواعد القطب الشمالي، بالإضافة إلى الكثير من البوارج السطحية بما في ذلك حاملة الطائرات الوحيدة التي تمتلكها روسيا الآن (الأدميرال كوزنيتسوف).

وللدلالة على أهمية أسطول الشمال يجب الإشارة إلى أن اختيار منطقة القطب الشمالي لاستضافة الغواصات والسفن بالغة الأهمية ضمن قوة الردع الاستراتيجية الوطنية إجباريا إلى حد ما، فالبحر الأسود وبحر البلطيق شبه مغلقين ومن السهل سدّ المنافذ منهما، وهذا ما أثبتته التطورات بعد الحرب على أوكرانيا، كما أن حرية الوصول إلى المحيط الهادئ بالنسبة لروسيا مقيدة بالبنية التحتية العسكرية الأميركية في اليابان وكوريا الجنوبية وألاسكا.

ومنذ سنوات، تستثمر روسيا الكثير في تعزيز وتحديث وجودها العسكري في منطقة القطب الشمالي، بما في ذلك إعادة فتح بعض المنشآت السوفياتية القديمة التي توقفت عن العمل في التسعينات وبناء منشآت جديدة، كما أعادت إحياء منطقة ليننغراد العسكرية في شمال غربي البلاد. ورغم كل هذه الجهود، لا يمكن الحديث عن نية روسية للمبادرة إلى هجوم في القطب الشمالي وبحر البلطيق فالقدرات الروسية التقليدية في المنطقة لا تكفي لقطع خطوط اتصالات حلف "الناتو" في شمال المحيط الأطلسي، ويظل تجنب سباق تسلح مدمر للذات في أقصى الشمال تحديا حاسما لكل من روسيا وخصومها الغربيين.

قاعدة غرينلاند للدفاع الصاروخي

وفي المقابل، تسعى الولايات المتحدة لزيادة دورها العسكري، وترى إدارة ترمب أن القاعدة الفضائية في غرينلاند للدفاع الصاروخي والمراقبة الفضائية، غير كافية، وأن السيطرة على الجزيرة بأكملها ستمكن واشنطن من الدفاع بشكل أفضل ضد التهديدات البحرية والجوية القادمة من المنطقة بالإضافة إلى الأخطار القادمة من الفضاء، إضافة إلى المنافع الاقتصادية، والسيطرة على المداخل الشمالية الغربية للممر القطبي الشمالي.

وتتمتع روسيا بوجود عسكري في القطب الشمالي أكبر بكثير من الولايات المتحدة وواصلت الاستثمار بكثافة في قدراتها الدفاعية في المنطقة رغم انشغالها في حرب أوكرانيا. ما أثار مخاوف عسكريين أميركيين. وفي جلسة استماع في مجلس الشيوخ في فبراير/شباط 2020، قال الجنرال الأميركي المتقاعد تيرنساوشوغنيسي، الذي شغل منصب قائد القيادة الشمالية الأميركية، إن البنية التحتية العسكرية الأميركية في القطب الشمالي ضعيفة، واصفا إياها بالحلقة الأضعف في الدفاع الداخلي. ورأى أنه إذا أرادت روسيا مهاجمة الولايات المتحدة، فمن المحتمل أن تفعل ذلك عبر القطب الشمالي.

رويترز
جندي من حرس الحدود الفنلندي يقف بجانب السياج العازل الجديد على الحدود الفنلندية الروسية، 21 مايو

وخلص إلى أنه "إذا كنت تريد أن تكون دولة قوية ترتاد الفضاء وأن تكون قادرا على إبراز القوة الفضائية من حيث أنظمة الأسلحة الفضائية الهجومية والدفاعية وأنواع أخرى من الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع (ISR)، فيجب أن يكون لديك بنية تحتية في الدائرة القطبية الشمالية- ناهيك عن الدائرة القطبية الجنوبية- للتواصل والتحكم بسلاسة في جميع أقمارك الاصطناعية".

روسيا تركز على النمو الاقتصادي في المنطقة التابعة لها في القطب الشمالي وعدم الانجرار إلى سباق تسلح يرهقها اقتصاديا، لكن ليس على حساب مصالحها الجيوسياسية الاستراتيجية

وتكشف التصريحات الرسمية أن روسيا تركز على النمو الاقتصادي في المنطقة التابعة لها في القطب الشمالي وعدم الانجرار إلى سباق تسلح يرهقها اقتصاديا، لكن ليس على حساب مصالحها الجيوسياسية الاستراتيجية، التي لا يمكن مقارنتها مع تداعيات اقتصادية سلبية محتملة، وهو ما يبرر زيادة الاستعداد عسكريا، ومخططات بسط سيطرة كاملة على مورمانسك وشبه جزيرة كولا لمنع أي تهديدات من البحر أو البر أو الجو. وهذه المنطقة هي في الأساس نرويجية ولكن أيضا تتبع أجزاء منها لفنلندا والسويد. ومن بين العوامل التي قد تدفع روسيا إلى شن هجوم على مناطق أقصى شمال السويد وفنلندا والنرويج، تبني الجيش الروسي مفهوما يسمى "الدفاع عن المعقل فوق شبه جزيرة كولا وما حولها". ويتضمن تطبيق هذا المفهوم قيام روسيا بإنشاء منطقة آمنة لحماية أسطولها الشمالي، الذي يحظى بأهمية استراتيجية في المواجهة مع دول "الناتو".

font change