بعد أيام على نشر تقارير أفادت ببناء روسيا قواعد، وتوسيع حضورها العسكري قرب الحدود الفنلندية، استدعت وزارة الخارجية الفنلندية السفير الروسي للاشتباه في أن طائرتين عسكريتين روسيتين انتهكتا المجال الجوي قبالة سواحل بورفو الواقعة جنوبي البلاد على بُعد نحو 50 كيلومترا من العاصمة هلسنكي عصر الجمعة الماضي.
وفي مؤشر إضافي إلى زيادة التوتر بين روسيا و"حلف شمال الأطلسي" (الناتو)، نشرت صحيفة "تلغراف" البريطانية تقريرا تضمن صورا جديدة من الأقمار الاصطناعية لأرتال من خيام القوات الجديدة، وقواعد عسكرية موسعة، ومطارات مُجدّدة، قبالة الجناح الشمالي الشرقي لحلف "الناتو". وتزداد مؤشرات الصدام مع رفع عدد الجيش الروسي، وزيادة إنتاج الأسلحة، وتطوير البنية التحتية اللوجستية على طول حدود روسيا مع النرويج وفنلندا ودول البلطيق، وتوقيع فنلندا والسويد والدنمارك اتفاقات دفاعية تسمح للقوات الأميركية بنشر أفراد ومعدات على أراضيها، والتطوير المشترك للبنى العسكرية بين البلدان الاسكندنافية، وإنشاء غرف إدارة مشتركة للعمليات في حال نشوب أي حرب مع روسيا.
وتسلط هذه الأنباء الضوء على جانب من التوتر الذي شاب علاقة روسيا مع جيرانها في منطقتي بحر البلطيق والقطب الشمالي بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، وربما وجهة المعارك المستقبلية بعد أن انتهاء الحرب في أوكرانيا.
وأججت تصريحات وإجراءات روسيا وبلدان البلطيق والدول الاسكندنافية مخاوف من معارك أكبر للهيمنة العسكرية والاقتصادية على المنطقتين الحيويتين وإمكانية الانزلاق نحو حرب عالمية ثالثة، خاصة في ظل عسكرة بحر البلطيق والقطب الشمالي المتزايدة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها في "الناتو"، وروسيا من جهة أخرى، واهتمام الصين المتزايد بتشغيل الممر القطبي الشمالي والمنافسة على الثروات الطبيعية الهائلة التي يسمح ذوبان الجليد الأزلي باستغلالها.
وشكّل انضمام فنلندا والسويد إلى حلف "الناتو" أخطر نتيجة جيوسياسية للحرب الروسية على أوكرانيا، فبدلا من إعادة الحلف إلى حدود 1997، ومنع تمدده، كما طالبت روسيا، زادت خطوط الاشتباك بين الطرفين بأكثر من 1300 كيلومتر وامتد الصراع إلى القطب الشمالي، وباتت روسيا محاصرة في بحر البلطيق.
وتزداد المخاوف من اللجوء إلى السلاح النووي لحسم أي صراع مستقبلي في المنطقة، ومنذ إعلان فنلندا والسويد توجههما نحو الانضمام إلى حلف "الناتو" في 2022، كرر المسؤولون تلويحهم بالقوة ومن ضمنها الضربة النووية في حال تهديد مصالح موسكو. وفي 29 أبريل/نيسان الماضي قال نائب رئيس مجلس الأمن الروسي والرئيس السابق ديمتري مدفيديف في تصريحات لوكالة "تاس" إن الدول الأعضاء الجديدة في حلف شمال الأطلسي أصبحت أهدافا محتملة للهجمات الروسية. وخلص مدفيديف إلى أن "وضع الدول المحايدة منحها تفضيلات دولية معينة لأسباب جيوسياسية، والآن أصبحت جزءا من كتلة معادية لنا. ما يعني أنها تصبح تلقائيا هدفا لقواتنا المسلحة، بما في ذلك الرد المحتمل وبالمكون النووي أيضا".
صراع عالمي معقد
عادة ما تُطرح التهديدات المحتملة التي تواجهها دول الشمال الأوروبي من زاوية التأثيرات المباشرة للحرب الأوكرانية على دول الجوار ودول منطقة بحر البلطيق، ارتباطا مع النزعة العسكرية الروسية التي توظفها موسكو في خدمة أجنداتها الجيوسياسية من أجل استعادة دور روسيا كدولة كبرى على المسرح الدولي في عالم متعدد الأقطاب.
بيد أن نظرة أعمق تكشف أن منطقة القطب الشمالي تعد منطقة للصراع التالي بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي، على خلفية تنامي الأهمية الجيوستراتيجية والاقتصادية لهذه المنطقة. وكشف إصرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب الاستحواذ على غرينلاند أكبر جزيرة في العالم، أن الحسابات الأميركية تنطلق من أن أهمية السيطرة على القطب الشمالي بثرواته وممراته البحرية وموقعه الفريد أكبر بكثير من مراعاة الحلفاء.
وباتت منطقة القطب الشمالي مركز اهتمام للدول الكبرى، حيث أدى ارتفاع درجات الحرارة، جراء تغيرات المناخ والاحتباس الحراري، إلى توافر طريق بحري جديد على مدار العام نتيجة انحسار الجليد. ويعدّ هذا الطريق الجديد هو الأسرع والأقصر بين آسيا وأوروبا. كما تعدّ منطقة القطب الشمالي مثالية للرحلات نحو الفضاء واستقبال إشارات الأقمار الصناعية، وهو أمر مهم للتحكم الاستراتيجي عالميا.