التعليم في المغرب... دوامة بين السياسة والتربية

أ.ف.ب
أ.ف.ب
حرم جامعة الأخوين بإفران، المغرب في 29 يناير 2009

التعليم في المغرب... دوامة بين السياسة والتربية

شهد المغرب خلال الأسابيع الأخيرة من شهر مايو/أيار 2025، انفجار فضيحة مدوية، أثارت ولا تزال الرأي العام، واستقبلت باهتمام واسع من طرف منظمات المجتمع المدني، وبالأخص منها العاملة في مجال مكافحة الفساد، فغطت بذلك على ما دونها من أحداث وقضايا وانشغالات يومية للمواطنين، مثل الارتفاع المهول في أسعار المواد الاستهلاكية، وتداعيات إلغاء شعيرة عيد الأضحى لهذا العام، بسبب النقص الكبير في قطيع الأغنام، نتيجة الجفاف. ناهيك عن موضوع صراعات الأحزاب الوطنية التي يتبادل قادتها الاتهامات، حد إلقاء الشتائم، في حملة انتخابية محمومة سابقة لأوانها.

الفضيحة المدوية والخطيرة، هي تلك التي تعرف اليوم بـ"قضية الإتجار في الشهادات" الجامعية. وقد اندلعت إثر توقيف أستاذ جامعي، يشتبه في قيامه بمنح شهادات الماجستير والدكتوراه في القانون، مقابل رشوة بآلاف الدولارات.

حدث هذا في أكبر مؤسسة جامعية في المغرب من حيث عدد الطلاب، وهي جامعة ابن زهر بمدينة أغادير (562 كيلومترا جنوب العاصمة الرباط).

بهذا الصدد تردد الأخبار تورط عدد من المسؤولين الكبار، بينهم محامون ومسؤولون في أجهزة الشرطة والقضاء، رُفِع ضدهم الاتهام بالاستفادة من خدمات الأستاذ المعني، الذي يقال إنه نجح في إنشاء شبكة واسعة من المحسوبية، قائمة على الاحتيال والتزوير.

كان طبيعيا أن ينضم الكثير من الأساتذة إلى إدانة "الإتجار في الشهادات الجامعية"، من منطلق الدفاع عن هيئة التدريس وعن سمعة الجامعة المغربية ومصداقيتها، والتنديد بـ"المحسوبية في منح شهادات الماجستير".

بالموازاة، أسهمت الفضيحة في تأجيج نقاش قوي حول حوكمة النظام الجامعي المغربي، خاصة وأن فضائح أخرى سبقت في السنتين الأخيرتين، أبرزها ما يسمى في الإعلام المحلي بـ"النقاط مقابل الجنس"، وهي فضيحة غير مسبوقة هزت الوسط الجامعي في المغرب، واكتسبت زخما مع الكشف في وسائل التواصل الاجتماعي والصحافة، عن سلسلة من حالات التحرش ضد الطالبات في بعض المؤسسات الجامعية، وصلت إلى ملاحقة بعض الأساتذة أمام المحاكم.

بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، وانتشار وسم (هاشتاغ) #MeTooUniv تجرأ الطلاب على الحديث، وتفاعلوا بقوة

امتدت الفضيحة إلى جامعات أخرى في مختلف جهات المغرب، مثل: جامعات وجدة، وطنجة، والقنيطرة، وسطات...

غير أنه بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، وانتشار وسم (هاشتاغ) #MeTooUniv تجرأ الطلاب على الحديث عن هذا الأمر، وتفاعلوا معه بقوة من أجل فضحه بكل صراحة.

نقاش حول إيقاعات راقصة

في خضم هذه التفاعلات المثيرة، ظهرت مذكرة وزارية غير مسبوقة، صادرة عن وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، الحقيبة الوزارية التي أسندت خلال التعديل الحكومي في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إلى السيد محمد سعد برادة المحسوب على حزب رئيس الحكومة، ("حزب التجمع الوطني للأحرار").

أ.ف.ب
طلاب طب مغاربة يشاركون في مظاهرة ضد قرار الحكومة بتقليص مدة دراسة الطب من سبع إلى ست سنوات، في الرباط، 16 يوليو 2024

قضت المذكرة الوزارية، الموجهة إلى مدراء الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين بجهات المملكة الاثنتي عشرة، بإدراج مادة "الهيب هوب" و"البريكينغ" ضمن برامج تكوين أساتذة التربية البدنية.

وهو ما أثار جدلا واسعا وانتقادات حادة، في صفوف أسرة التعليم، والمتعلمين وعائلاتهم بالأساس.

استندت الوزارة في قرارها على أهمية وفائدة إدماج هذه الفنون الحركية في منظومة التربية البدنية، لأن من شأنها "تعزيز التوازن النفسي والاجتماعي للتلاميذ، والمساعدة على تفريغ التوترات والانفعالات السلبية لديهم". خصوصا وقد تم الاعتراف بـ"الهيب هوب" و"البريكينغ" في الأولمبياد الأخير (باريس 2024)، وجرى تصنيفهما ضمن رياضات الألعاب الأولمبية، التي يتحاور فيها الفن مع الرياضة.

وحسب مضمون المذكرة الوزارية المعنية، "يأتي هذا التوجه في سياق استراتيجية شاملة للوزارة ترمي إلى تنويع العروض الرياضية داخل المؤسسات التعليمية، وربط الناشئة بتعابير فنية ورياضية تعكس نبض العصر، في أفق إعداد جيل متوازن، مبدع، ومنفتح على ثقافات التعبير الجسدي الحديثة".

أما المعارضون للمبادرة، ممن لجأت أغلبيتهم إلى استعمال منصات التواصل الاجتماعي، فقد انتقدوها باستغراب واضح، وباستنكار لاذعٍ وسخطٍ شديد، لا يخلو من سخرية أحيانا، ورأوا في تنفيذها ضربا من العبث، وانحرافا عن الأهداف التربوية والأخلاقية، وتعارضا مع القيم الثقافية للمجتمع المغربي، لا ينسجم مع هوية المدرسة المغربية. بل إنه- بحسب رأيهم دائما- موضوع يتجاوز مسألة تحديث البرامج الرياضية والأنشطة الموازية بالمؤسسات التعليمية، ويتعدى حدود اكتساب الرشاقة والانفتاح باسم مواكبة التطورات العالمية في مجال الرياضة والتربية البدنية.

توضح النتائج أن حوكمة التعليم بعيدة عن التوفيق والاكتمال، ومسألة عسيرة، ومثيرة أكثر للتساؤل حول فعالية نظام الحوكمة في مجال التعليم، باعتباره قطاعا محركا للتنمية

وبلغ الغضب بأحد معارضي المبادرة، إصدار حكم قيمة قاسٍ في حق الأطر التي تتولى اليوم مسؤولية وزارة التربية الوطنية، بوصفهم بـ"المنفصلين والبعيدين عن واقع المجتمع والشعب المغربي".

أما أحد النشطاء الإسلاميين من حزب "العدالة والتنمية"، فصرح بأنه في الوقت الذي يتطلب أن تسود فيه "الجدية والعلم والذكاء والأخلاق في المدرسة المغربية، نفاجأ بمثل هذه المواضيع غير الملائمة للهوية الثقافية والوطنية"، بدل الحديث- وفق تصريحه- حول أولويات إصلاح التعليم. متمنيا أن يكون موضوع تدريس رقصات "الهيب هوب" مجرد خبر زائف.

أزمة التعليم في المغرب

يحدث هذا في خضم أزمة عميقة يعيشها التعليم العمومي في المغرب، في وقت يعاني فيه من عيوب هيكلية تطال الجودة والهدر المدرسي وتراجع مستويات التحصيل، وعنف التلاميذ ضد المدرسين، آخرها الاعتداء بالسلاح الأبيض (ساطور) الذي قام به طالب يبلغ 21 عاما من عمره، ضد الأستاذة هاجر ليعكار، مُدَرِّسَة اللغة الفرنسية بمعهد التكوين المهني في مدينة أرفود (جهة "درعة تافيلالت" بالجنوب)، أودى بها إلى الموت، في شهر أبريل/نيسان الماضي.

هي معضلة معقدة يعاني من أوزارها المغرب منذ عقود تبدأ من تاريخ حصول البلد على الاستقلال ورفع قيود الحماية الاستعمارية الفرنسية (1956). حيث توضح النتائج أن حوكمة التعليم بعيدة عن التوفيق والاكتمال، ومسألة عسيرة، ومثيرة أكثر للتساؤل حول فعالية نظام الحوكمة في مجال التعليم، باعتباره قطاعا محركا للتنمية، يجب بالضرورة أن ينخرط في إطار المنفعة العامة والضرورية لتحقيق الذات الإنسانية والتنمية المستدامة، ولترجمة مُثُل وقيم المواطنة والسلام والتسامح.

على سبيل الإشارة، فإن الانتفاضات الجماهيرية والاحتجاجات الشعبية، خرجت من ساحات المدارس الثانوية ومدرجات الجامعة، وأخطرها الانتفاضة الدموية التي حصلت قبل مرور عقد على الاستقلال، وعاشتها مدينة الدار البيضاء يوم 23 مارس/آذار 1965، على أثر قرار صادر عن وزير التعليم.

ولا تزال نقابات قطاع التعليم من أنشط النقابات المهنية في المغرب، لا تفتأ عن تزويد وملء أجندة العام باعتراضاتها وبالإضرابات الوطنية احتجاجا على قرارات تخص "إصلاحات النظام التعليمي".

على الرغم من الإصلاحات التي شهدها القطاع خلال العقدين الماضيين، فلا يزال النظام التعليمي في المغرب يعاني من الضعف، ومن تداعيات وضع يستمر في التفاقم

وفي رأي النقابات، أنه على الرغم من الإصلاحات التي شهدها القطاع خلال العقدين الماضيين، فلا يزال النظام التعليمي في المغرب يعاني من الضعف، ومن تداعيات وضع يستمر في التفاقم، آثاره جلية على الطبقات الاجتماعية الأكثر حرمانا، من خلال إعادة إنتاج وتوسيع نطاق عدم المساواة في الفرص بين الشباب المغربي. وخلف هذه اللوحة القاتمة تلوح وجوه المراهقين من المناطق القروية، والأشخاص ذوي الإعاقة. وبالتالي عدم بناء السياسة التعليمية على استراتيجية تنموية.

صورة قاتمة

محمد بولعيش، المسؤول النقابي السابق في قطاع التعليم، تحدث لـ"المجلة"، منتقدا النهج المتبع في المنظومة التعليمية في المغرب منذ الاستقلال. واصفا قطاع التعليم المغربي بـ"حقل تجارب متوالية" تنتهي باستمرار بالفشل، وبتبديد الملايين المرصودة للنهوض بقطاع تنتفي فيه الرؤية الواضحة، التي من المفترض والواجب أن تحكم مساره في خدمة التنمية والتقدم، "بل كان الهاجس الأمني وتكريس التعليم كرافعة للتجهيل ونشر الفكر الغيبي والخنوع".

أ.ف.ب
جامعة فاس، المغرب في 13 مايو 2014

يوضح بولعيش أنه "منذ البداية كان قطاع التعليم دائما حقلا لصراع بين المعارضة والنظام، وأنه لا يزال محط تجاذب بين النظام وقوى اليسار بمختلف أصنافها وتنظيماتها الحزبية والنقابية، وقد حققت هذه القوى مكتسبات لا تنكر وقدمت تضحيات كبيرة، ولكن ميزان القوى ظل يميل في غير صالحها".

لا يتردد محدثنا في الضغط على زر كلماته، ليلتقط لنا صورة معتمة، تبعث على التشاؤم والتيئيس. ويقول بولعيش: "فقد قطاع التعليم مصداقيته، وانتشرت داخله وحواليه ممارسات انتهازية لا أخلاقية، تضرب في الصميم القيم الإيجابية التي هي مبرر وجود المدرسة العمومية، أبرزها توسع التعليم الخصوصي خارج أية مراقبة أو ضبط، استغلال التلميذات والطالبات جنسيا (وخاصة في الجامعات)، وبيع الدروس، والرشوة للتسجيل في الماستر أو الدكتوراه، وانتهاء ببيع الشهادات والدبلومات...".

ثم يختم بمرارة: "إن هذه الوضعية الرديئة التي يعيشها القطاع تجعل المدرسة وكذا الشهادات المغربية تفقد كل مصداقية محليا وخارجيا، وتجعل من الغش والرشوة وعدم الاستحقاق قيما لتحمل المسؤوليات وتدبير الشأن العام، وينتشر الجهل والتجهيل داخل مدرجات الجامعة، والأخطر من هذا وذاك تجعل المواطنين يفقدون الثقة في المدرسة العمومية بكل أسلاكها".

حسب المؤشرات والتصنيفات الدولية المختلفة يبقى المغرب بين آخر المراكز، وأمامه صعوبات جمَّة في معالجة التحديات المستمرة في نظامه التعليمي الوطني

مبادرة "المدارس الرائدة"

على النقيض من هذا الرأي، تقول مدرّسة اللغة الفرنسية، خديجة بنحمو، (أستاذة متقاعدة)، لـ"المجلة": "مهما حصل، لا يمكن للنقابات أن تقلل من أهمية الجهود الكبيرة التي بذلتها مختلف الحكومات المغربية المتعاقبة. واليوم نتابع تنفيذ برنامجٍ تنموي جديد، يُركّز على تحسين مخرجات التعليم، لا سيما في المناطق الريفية، ويهدف إلى معالجة تحديات الوصول إلى التعليم وجودته وملاءمته، مع التركيز على تعليم الطفولة المبكرة، عبر إطلاق البرنامج الوطني لتطوير التعليم ما قبل الابتدائي، وتدريب المعلمين، وتعزيز القيادة المدرسية. كما يتضمن البرنامج مبادرات لتحسين الثقافة الرقمية ودمج التكنولوجيا في ممارسات التدريس".

من جانبه يؤكد الوزير محمد سعد برادة أن وزارته تعكف حاليا على استكمال مهمة تنفيذ خارطة الطريق 2022-2026، الهادفة إلى إرساء نموذج جديد للمؤسسات التعليمية يرتكز على الجودة والتميز والابتكار. ويضيف أنه بحلول عام 2028 سيجري الالتزام بتحقيق توسيع برنامج "المدارس الرائدة"، وهو مبادرة رئيسة في الإصلاحات التعليمية في البلاد، شرع في تنفيذها السنة الماضية 2024، وتهدف إلى تحسين جودة التعليم والتعلم والإدارة والتنظيم، ارتكازا على معايير التميز والابتكار.

أسفل الترتيب وأحكام ليست بريئة

حسب المؤشرات والتصنيفات الدولية المختلفة يبقى المغرب بين آخر المراكز، وأمامه صعوبات جمَّة في معالجة التحديات المستمرة في نظامه التعليمي الوطني.

ففي تقرير التعليم العالمي لعام 2025، جاء المغرب في المرتبة 64 عالميا. وفي تصنيف دولي آخر احتل الطلاب المغاربة المرتبة 71 في محو الأمية الرياضية، والمرتبة 79 في فهم القراءة، والمرتبة 76 في محو الأمية العلمية.

كما يحتل المغرب أيضا المرتبة 154 من بين 218 دولة ومنطقة في طبعة 2024 من مؤشر التعليم العالمي.

وبالرغم من بعض التقدم الطفيف الحاصل، يبقى المغرب منذ سنوات عالقا في أسفل التصنيف العالمي، مع انخفاض نتائجه بشكل كبير عن المتوسط ​​الدولي. وبذلك يعاني من تحديات وعوائق في اللحاق بجيرانه في شمال أفريقيا والمنطقة العربية إجمالا.

font change