ما الذي يجعل شخصية روائية تنبض بالحياة، فيخيل إلى القارئ أنها تعيش خارج صفحات الكتاب؟ الأرجح أنه سؤال يتعذر الجواب عنه، إذ لا وصفة سحرية يمكن اتباعها، ولا قواعد ثابتة تفضي، في كل مرة، إلى النتيجة المرجوة. فالشخصيات التي نكاد نراها تتحرك أمام أعيننا وتتنفس، قد تختلف جذريا في تكوينها وسماتها: آنا كارينينا، المرسومة بدقة وواقعية بالغتين، نفسيا واجتماعيا، جوزيف ك.، بطل "المحاكمة" لكافكا، الذي لا نعرف عنه سوى انهماكه في محاكمته، فيكاد يفتقر إلى أي خصال تميزه، ودون كيخوته، الأقرب إلى كاريكاتور منه إلى "شخص حقيقي"... ثلاث شخصيات نخالها كائنات من لحم ودم، لأسباب قد تكون متناقضة، وربما يستحيل تحديدها.
أما افتقار شخصية إلى الحياة في رواية معينة، فغالبا ما يكون تفسيره أسهل. فقد تكون الشخصية، مثلا، تجسيدا لفكرة عامة ومجردة أكثر منها كائنا فريدا يشعر القارئ بأنه ينبض بتفاصيل الحياة المعقدة. تلك هي حال مي في رواية "غيبة مي" للكاتبة اللبنانية نجوى بركات (دار الآداب، 2025).
العيش البطيء وانطفاء الرغبة
مي – وهي راوية الفصل الأول من الرواية – تجسيد لتصورات شائعة عن الشيخوخة (قد يكون معظمها صحيحا) وليست فردا بلغ سن الشيخوخة. إنها في الرابعة والثمانين من عمرها وتعيش وحيدة في شقتها البيروتية في الطابق التاسع. أيامها تمضي ببطء شديد، كل منها نسخة عن الذي سبقه. تكاد حياتها تختزل في وظائفها الجسدية: تناول الطعام، النوم، التبول، والتغوط. وفي ما عدا ذلك، ثمة الاستيقاظ صباحا وإعداد القهوة، الخروج إلى الشرفة لري النباتات وتأمل الشوارع والبنايات، الانتقال من غرفة إلى أخرى، الجلوس على الكنبة، واستحضار شذرات من الماضي.
تقتصر علاقات مي الاجتماعية على شخصين يعتنيان بها: يوسف، البواب السوري الذي يشتري لها حاجياتها ويتفقد أحوالها يوميا، وشاميلي، عاملة المنزل السري لانكية التي تزورها كل يوم سبت، فتحممها وتنظف شقتها وتعد لها طعاما يكفي لأسبوع كامل.