"الحداد المعماري" منهجا لدراسة الحروب خارج الصرامة الأكاديمية

كيف ننتقل من رثاء الأشخاص إلى رثاء المباني؟

Lina Jaradat
Lina Jaradat

"الحداد المعماري" منهجا لدراسة الحروب خارج الصرامة الأكاديمية

الحداد ليس فقط شعورا بالحزن، بل وعي حاد بالفقد والغياب والنقص. إنه اعتراف بالخسارة عبر اللغة أو الصمت، عبر الجسد أو الطقس، بما يعيد الى الغائب حقه في الحضور الرمزي والإنساني. وهو في حالات الظلم، يتحول من شعور إلى موقف ويمتد من كونه تجربة شعورية بألم خاص إلى ممارسة جماعية تتبنى سياسة.

تتنوع صور الحداد كممارسة جماعية وفردية بين طقوس مادية وجسدية وثقافية. فلبس السواد، وتعليق الصور، والبكاء، وعدم الاحتفال، وزيارة القبور، كلها ممارسات تختلف باختلاف الثقافات لكنها تشترك جميعها بأنها تنقل الحزن من داخل الجسد إلى الفضاء العام. وهنا لا يكون الحداد انغلاقا، بل يطول كل ما حولنا وينفتح عليه، فندرك هشاشة الوجود، ونصبح كائنات تنظر إلى الحياة من مكان مكسور وهش. وهو ما يولد وعيا جديدا بأن لا شيء يؤخذ كأمر مسلم به.

البحث موقف أخلاقي

ورغم أن هذه الممارسات تبدو خارج العالم الأكاديمي، إلا أن الحاجة إلى الحداد تطل برأسها أيضا داخل هذا العالم. تميل الأكاديميا إلى العقلانية الصارمة وإلى نزع العاطفة من البحث غالبا... فلا يُعترف مثلا بالحزن على موضوع معين كجزء من منهج البحث. وهنا تجبرنا الأكاديميا على ألا نكتب عن الفقد من داخله.

تجد الأكاديميا في الحداد انحيازا للعاطفة، وللذات، وللذاكرة، وعليه تقوم الجامعات والمؤسسات الأكاديمية برفضه من منطلق كونها تسعى إلى الموضوعية. مع ذلك حين تكون الموضوعية هي تقصي الحقيقة وكل مصادر المعرفة حولها دون انحياز أو تهميش، يصير البحث موقفا أخلاقيا وتصبح الأكاديميا في ممارسة الحداد فعل قول.

تجد الأكاديميا في الحداد انحيازا للعاطفة، وللذات، وللذاكرة وعليه تقوم الجامعات والمؤسسات الأكاديمية برفضه من منطلق كونها تسعى إلى الموضوعية

لا تكتب من أجل الحقيقة فقط، ولكن أيضا من أجل من لم يستطيعوا قولها، كون تجاربهم وحيواتهم هي جزء من المعرفة الإنسانية الأشمل فإن غيابهم لا يجب أن يكون سببا في استبعاد إنتاجهم المعرفي وأثرهم.

الحداد وإنتاج المعرفة

غالبا ما تُنتج المعرفة من موقع سلطة وسيطرة ومراقبة، وأخيرا يُعاد النظر في أشكال انتاج المعرفة ليُنظر إلى الفئات المهمشة والمجتمعات الأصلية كمصادر أساسية لها. فظهرت نظريات ما بعد الاستعمار، والنظريات النسوية، ونظريات الديكولونيالية، والمعرفة الأصلانية وغيرها. غير أنه في فلسفة الحداد، يُعاد إنتاج المعرفة من موقع الخسارة والألم والاشتباك العاطفي. وهو ما يعد أخلاقيا في جوهره، كونه يعيد الاعتراف بما أنكر أو نُفي. من ناحية أخرى، فإن تبني فلسفة الحداد في المعرفة بكونها تُنتج من موقع خسارة يدفع بالدخول في مواجهة مع النسيان في محاولة للاحتفاظ بالغياب بوصفه جزءا من العالم. فحين نتحدث ونسرد حول من فقدناهم وخسرناهم، لا نمارس العزاء، بل نمارس إنتاجا مضادا للنسيان ونقوم بالأرشفة غير الرسمية.

في المؤتمر السابع للمجلس العربي للعلوم الاجتماعية الذي عقد في بيروت - لبنان بين 15-18 مايو/ أيار 2025 تحت عنوان "الدمار والخيال والمعرفة: منعطفات إقليمية وأصداء عالمية"، قُدم نموذج مثير للجدال حول عملية إنتاج المعرفة في ظل حرب إبادة قائمة وأيضا ممارسة الحداد بالتزامن.

وعلى الرغم من أن الكثير من الموضوعات البحثية والانتاجات المعرفية التي عرضت في هذا المؤتمر كانت حول قطاع غزة أو الدمار والإبادة التي تحدث هناك، إلا أنها كانت فعلا على حد وصف صديقتي آية مسمار "على مسافة"، على مسافة من الواقع وعلى مسافة من الباحث… وتساءلت عن أهمية الانغماس الحقيقي في واقع ما يحدث في الممارسة الأكاديمية، عن أهمية أن نكتب من موقع مجروح لا متعال. وأن نسمح للغائب في أن يصبح حاضرا في بحثنا لا بوصفه "موضوعا" بل شريكا في السرد، وعن أهمية أن تتحول المؤتمرات إلى فضاءات اعتراف لا فقط منصات لإنتاج المعرفة، وأن يغير الأكاديمي كمتكلم موقعه من مراقب إلى مصاب، ومن باحث إلى حامل للذكرى.

يُعاد إنتاج المعرفة من موقع الخسارة والألم والاشتباك العاطفي. وهو ما يعد أخلاقيا في جوهره، كونه يعيد الاعتراف بما أُنكر أو نُفي

وعليه، من المهم أن نعيد النظر في طرق التعليم، والمناهج، والمؤتمرات، وحتى طقوس النشر بطريقة لا تنفي الحداد ولا تأخذه من مسافة، بل تحتضنه. وأعتقد أنه ربما سيكون من الأجدى ممارسة الصمت كعتبة أساسية وخطوة أولى للحداد بتعليق اللغة الأكاديمية المهيمنة كونها تُحلل من مسافة وترتب الألم ضمن أطر معرفية موضوعية منزوعة العاطفة. فالصمت شكل قوي من أشكال الاعتراف العميق بالعجز أمام فظاعة لا يمكن التعبير عنها.

من يُعترف بأن غيابه يستحق الحزن؟

في كتابها "قوة الحداد والعنف"، تتساءل جوديت بتلر في أعقاب أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 وفي ذروة الترويج الأميركي للحرب على الإرهاب: لماذا حزن الأميركيون على موتاهم بشدة، لكنهم لم يستطيعوا الحزن على الآخرين (عراقيون وأفغان وفلسطينيون)؟ وهذا يطرح هذا سؤالا مهما: هل جميع الأرواح تعامل بالتساوي من حيث القيمة، خاصة في ظل تعرضها جميعا للشكل نفسه من العنف؟ أم أن هناك أرواحا يُحتفى بها وأخرى يُسمح بأن تُمحى دون أثر؟

Lina Jaradat

في قطاع غزة، يشارك الفلسطينيون العالم مشاعرهم ومخاوفهم وانتقادهم لفكرة أن يصبح موتهم عابرا ويصبح شهداؤهم مجرد أرقام. لقد أثارت تصريحات قادة "حماس" غضب فلسطينيين في قطاع غزة حول الشهداء بوصفهم "خسائر تكتيكية" أو بوصفهم للشهداء كـ"موارد يعاد إنتاجها" ليظهر كأن الدولة هنا (أو السلطة) هي التي تنتج سرديات تسبغ الشرعية على من يمكن الحزن عليه ومن يعتبر مجرد خسائر جانبية، وتستخدم الإعلام كأداة لتعزيز ذلك.

فالتغطية الاعلامية تلعب دورا كبيرا في تحديد من يُعترف به كضحية ومن لا، من يستحق الحزن عليه ومن لا، منطلقة من فكرة أنه إذا لم أرك وإذا لم يُعط وجهك حق الظهور فلن يسمح بالحزن عليك وبذلك يُلغى وجودك. تؤكد جوديت بتلر هذا السياق بقولها: "... إن لم تكن هناك صورة، فلا حزن. يختفي الجسد عن الأنظار، وفي غياب التمثيل، لا خسارة".

هل جميع الأرواح تعامل بالتساوي من حيث القيمة، أم أن هناك أرواحا يُحتفى بها وأخرى يُسمح بأن تُمحى دون أثر؟

تتجلى هذه السياسة بوضوح في قطاع غزة، حيث تتحول الجثث إلى أرقام، وتصبح ممارسة الحداد رفاهية. وفي مواجهة ذلك، بدأ الفلسطينيون من قطاع غزة بتحويل الحداد إلى فعل سياسي من خلال مشاركة صور ضحاياهم والسرديات حولهم ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي في محاولة لمقاومة فكرة الضحية/ الرقم، وكأن الحزن غير ممكن على أولئك من لم يُتح لهم حق الظهور المرئي أو السردي.

الحداد منهجا للمساءلة والتحقيق والنقد

حين نمارس الحداد، نبدأ بالتفكير بمن فقدنا ونمارس التساؤل حول من غاب، لماذا غاب، وماذا يعني غيابه؟ وما الذي يمنع حضوره، كيف يمكن أن نقرأه وكيف يمكن أن نعبر عنه؟ وهو ما يدفعنا غالبا وبشكل واع إلى النبش في كل ما حولنا، بحثا عن إجابات، فننبش الذاكرة باحثين عن مواقف ولحظات تربطنا بما فقدنا وبمن فقدنا. نبدأ بتقصي الأثر أو حتى التفكير بإحيائه وكيف نجعل منه مرئيا.

لا يقتصر الأمر في هذا الإطار على الفرد وإنما يمتد ليصبح نهجا جماعيا يصير الحداد خلاله قوة معرفية تجبر المؤسسات السياسية والأكاديمية والاجتماعية والاقتصادية على مواجهة أسئلة لم تكن مستعدة لها.

حين يصير الحداد قوة معرفية، فإنه بشكل لا مباشر يعمل على زعزعة التصورات المستقرة عن التاريخ والهوية والقيم والثوابت والأخلاق والتابوهات وهو ما يمكن أن يجعل منه أيضا فعلا سياسيا يدخل في مواجهة وتحد مع السلطة وأشكال الهيمنة على اختلاف سياقاتها. وقد يصير دافعا نحو إعادة ترتيب العالم والأشياء من حولنا.

يمكن التساؤل إن كان علينا التفكير بقطاع غزة باعتباره منطقة تحت الحداد المعماري وأن ننظر إلى المبنى بوصفه تمثيلا لحالة من الغياب والفقد؟

وهذا يعيدنا إلى سؤال العمارة والفضاء من حولنا: كيف تمارس العمارة الحداد وتتبناه؟

الحداد في العمارة

في هذا السياق، يمكن النظر إلى العمارة كجسد قابل للفقد. فالبيوت التي طاولها التدمير مثلا ليست مجرد أحجار أو ركام، إنها قصة حياة كاملة، أرواح وأصوات، وروائح، وذكريات، وتاريخ.

وعليه، حين نفكر بالحداد من منظور معماري، يصير الحداد استرجاعا لما لم يعد مرئيا ومحاولة لبناء الغائب. وبناء عليه، فإن مصطلح الحداد مرتبط بقوة بفكرة إعادة الإعمار، بل يمكن اعتباره ضرورة يجب تبنيها بدافع أخلاقي وإنساني. لأنه بمجرد أن يتم إعادة البناء بتجاوز عن ذاكرة الناس وحياتهم في هذا المبنى، فإننا نتعامل مع ما هو مرئي فقط ونتجاهل ما مات، نكثف فكرة المحو ونراكم عليها طبقات من الطمس.

إذن، هل يمكن أن يصير الحداد أداة تصميم ونهجا معماريا؟ بالنظر في الأدبيات والممارسات السابقة التي قد تكون تبنت ولو على نحو غير مباشر أنماطا تعزز إمكان هذه الفكرة، يبرز مفهوم "العمارة الجنائية" Forensic Architecture الذي ينظر إلى المبنى المدمر بوصفه جثة تحمل أثر الجريمة وتحقق في أسباب غيابها. ومن هنا يمكن التساؤل إن كان علينا التفكير بقطاع غزة باعتباره منطقة تحت الحداد المعماري وأن ننظر إلى المبنى بوصفه تمثيلا لحالة من الغياب والفقد؟ ليس لأجزائه وحسب، بل لأصحابه أيضا ومطارحهم التي باتت خالية برحيلهم.

هذه محض تساؤلات لكنها ستظل عالقة ولن تُجزى راحة الجواب قبل انتهاء هذه الحرب وقبل أن يصير هناك متنفس للحزن والعزاء.

font change