الحداد ليس فقط شعورا بالحزن، بل وعي حاد بالفقد والغياب والنقص. إنه اعتراف بالخسارة عبر اللغة أو الصمت، عبر الجسد أو الطقس، بما يعيد الى الغائب حقه في الحضور الرمزي والإنساني. وهو في حالات الظلم، يتحول من شعور إلى موقف ويمتد من كونه تجربة شعورية بألم خاص إلى ممارسة جماعية تتبنى سياسة.
تتنوع صور الحداد كممارسة جماعية وفردية بين طقوس مادية وجسدية وثقافية. فلبس السواد، وتعليق الصور، والبكاء، وعدم الاحتفال، وزيارة القبور، كلها ممارسات تختلف باختلاف الثقافات لكنها تشترك جميعها بأنها تنقل الحزن من داخل الجسد إلى الفضاء العام. وهنا لا يكون الحداد انغلاقا، بل يطول كل ما حولنا وينفتح عليه، فندرك هشاشة الوجود، ونصبح كائنات تنظر إلى الحياة من مكان مكسور وهش. وهو ما يولد وعيا جديدا بأن لا شيء يؤخذ كأمر مسلم به.
البحث موقف أخلاقي
ورغم أن هذه الممارسات تبدو خارج العالم الأكاديمي، إلا أن الحاجة إلى الحداد تطل برأسها أيضا داخل هذا العالم. تميل الأكاديميا إلى العقلانية الصارمة وإلى نزع العاطفة من البحث غالبا... فلا يُعترف مثلا بالحزن على موضوع معين كجزء من منهج البحث. وهنا تجبرنا الأكاديميا على ألا نكتب عن الفقد من داخله.
تجد الأكاديميا في الحداد انحيازا للعاطفة، وللذات، وللذاكرة، وعليه تقوم الجامعات والمؤسسات الأكاديمية برفضه من منطلق كونها تسعى إلى الموضوعية. مع ذلك حين تكون الموضوعية هي تقصي الحقيقة وكل مصادر المعرفة حولها دون انحياز أو تهميش، يصير البحث موقفا أخلاقيا وتصبح الأكاديميا في ممارسة الحداد فعل قول.