سلطنة عُمان تعيد صياغة نموذجها الاقتصادي والتنموي بهدوء

مستقبل مشرق ينتظر السياحة وقطاعات اللوجستية والنقل والتصنيع والطاقة المتجددة

لينا جرادات
لينا جرادات

سلطنة عُمان تعيد صياغة نموذجها الاقتصادي والتنموي بهدوء

تمضي سلطنة عمان قدما في التوسع خارج نطاق الهيدروكربونات، والحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي، وبناء نموذج متنوع للنمو. لم تعد "الاستثناء الهادئ" في الخليج، بل الدولة التي تضع بهدوء معيارا جديدا للتنمية الاقتصادية المستدامة في المنطقة.

وأشاد البنك الدولي بمسيرة الضبط المالي في عمان بوصفه نموذجا للإصلاح الاقتصادي في تقرير "المستجدات الاقتصادية لدول الخليج" الصادر في يونيو/حزيران 2025. فقد شهد الاقتصاد العماني نموا مطردا على خلفية النمو القوي في القطاعات غير الهيدروكربونية، والإصلاحات الهيكلية، والاستثمار الموجه استراتيجيا.

في السنوات الخمس المنصرمة، نجحت سلطنة عمان في تحقيق تقليص كبير في الإنفاق العام، بخفضه بنحو 16في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، كما تمكنت من خفض الدين العام من أكثر من 68 في المئة في سنة 2020 إلى نحو 35 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في سنة 2024، وحققت فائضا في الموازنة مقداره 7.5 في المئة في سنة 2022. وارتفع نمو إجمالي الناتج المحلي الحقيقي إلى 1.7 في سنة 2024 مقارنة بـ 1.2 في سنة 2023، ومن المقرر أن يتسارع إلى 2.4 في المئة في سنة 2025 و3.7 في المئة في سنة 2026.

ولا يزال التضخم منخفضا بالمعايير الإقليمية، إذ ارتفع 0.3 نقطة مئوية على أساس سنوي بين شهري يناير/كانون الثاني وأبريل/نيسان 2025 ليصل إلى 0.6 في المئة. ويستمر استقرار الأسعار في دعم القوة الشرائية والثقة في الاستثمار.

كان الاقتصاد العماني في السابق عرضة لدورات التراجع والازدهار في سوق النفط العالمية. وقد فرضت فترات التراجع ضغوطا اقتصادية كبيرة

من المؤشرات المشجعة، الارتفاع الكبير في الصادرات غير الهيدروكربونية، التي تشكل الآن نحو ثلث الصادرات الإجمالية، بعد أن كانت 12 في المئة فحسب في أوائل سنة 2010، حيث تتصدر المواد الكيميائية، والمعادن الأساسية (خاصة الألمنيوم)، والبلاستيك، والمنتجات المعدنية. وقد مهدت الإصلاحات الهيكلية لتحسين تحصيل الضرائب، وخفض الدعم، وخلق اقتصاد أكثر مرونة وموجه نحو القطاع الخاص، الطريق لنمو أكثر استدامة وتنوعا.

الى أين يتجه الاقتصاد العُماني؟

كان الاقتصاد العماني في السابق عرضة لدورات التراجع والازدهار في سوق النفط العالمية. وقد فرضت فترات التراجع ضغوطا اقتصادية كبيرة، في حين كانت فترات الصعود تؤدي إلى تأجيل الإصلاحات الحيوية في كثير من الأحيان. ونتيجة لذلك، شهدت البلاد فترات من الركود الاقتصادي والاعتماد على الدعم الاقتصادي المشروط من شركائها.

كشفت صدمتا جائحة "كوفيد-19" وتدهور أسعار النفط عن هشاشة الاقتصاد العماني. فقد انكمش الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 2.8 في المئة، في حين ارتفع العجز المالي إلى 19.3 في المئة من إجمالي الناتج المحلي. وتبين أن استجابة مسقط – أي اعتماد إجراءات تقشفية للحفاظ على قدرة الدولة على الوصول إلى أسواق الاقتراض الدولية – كانت حاسمة، لا سيما أن قيمة الديون المستحقة بلغت 11 مليار دولار في سنتي 2021-2022. لكن بارتفاع الدين من 15 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2015 إلى 80 في المئة في عام 2020، أصبحت الحاجة الملحة إلى تسريع التنويع الاقتصادي أوضح من أي وقت مضى.

أ.ف.ب.
سياح يتجولون في قوارب صغير، في محافظة ظفار جنوب عمان، 21 يوليو 2022

كشفت جائحة كوفيد-19 وانهيار أسعار النفط عن هشاشة الاقتصاد العُماني في مواجهة الصدمات، حيث سجل الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي انكماشا بنسبة 2.8 في المئة، بينما قفز العجز المالي إلى 19.3في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وقد شكلت الاستجابة العُمانية، القائمة على إجراءات تقشفية تهدف إلى الحفاظ على قدرة الدولة في الوصول إلى أسواق الاقتراض الدولية، خطوة حاسمة، لا سيما في ظل استحقاقات ديون بلغت 11 مليار دولار خلال عامي 2021 و2022.

تندرج تنمية رأس المال البشري في صميم "رؤية 2040". ويربط نظام جديد لتحديث الأجور الآن الرواتب بالمهارات المعتمدة والحوافز القائمة على الأداء

يبدو أن عمان تجاوزت التبعيات الهيكلية المرتبطة بالنمو القائم على النفط والغاز تحت قيادة السلطان هيثم بن طارق آل سعيد. وتحدد أجندة "رؤية عمان 2040" التي وضعتها إدارته – وهي مستوحاة جزئيا من "رؤية السعودية 2030" - مسارا طويل الأجل للتنويع الاقتصادي والاستدامة. فالإصلاحات واسعة النطاق وتشمل السياسة المالية، وترشيد الدعم، وتنمية رأس المال البشري.

الإصلاح المالي وتنمية القطاع الخاص

أصبحت السياسة المالية ركيزة أساسية لتحقيق "رؤية 2040". فقد شرعت الحكومة في تطبيق ضرائب انتقائية في سنة 2019 وضريبة القيمة المضافة في سنة 2021 - وهو أمر لم يكن من الممكن تصوره قبل عشر سنوات فحسب. ومع أن إيرادات الضرائب لا تزال متواضعة، إذ بلغت 4.5 في المئة فقط من إجمالي الناتج المحلي في سنة 2023، فإن هناك مجالا لتحقيق مزيد من الإيرادات بتوسيع قاعدة ضريبة القيمة المضافة – من طريق تقليل الإعفاءات (باستثناء المواد الغذائية الأساسية)، وإعادة النظر في معدل ضريبة القيمة المضافة بمرور الوقت. وفي يونيو/حزيران 2025، أصبحت عمان أول دولة خليجية تفرض ضريبة دخل شخصية بنسبة 5 في المئة على الأفراد الذين يزيد دخلهم السنوي على 109,000 دولار سنويا - مما يؤثر على نحو 1 في المئة من السكان - على أن تصبح الضريبة نافذة في سنة 2028 في إطار برنامجها المالي المتوسط الأجل.

Shutterstock

تندرج تنمية رأس المال البشري في صميم "رؤية 2040". ويربط نظام جديد لتحديث الأجور الآن الرواتب بالمهارات المعتمدة والحوافز القائمة على الأداء، في حين تساعد المنصة الرقمية "توطين" في توظيف أكثر من 850,000 عماني في سوق العمل. ففي سنة 2023 وحدها، انضم أكثر من 13,000 شاب عماني إلى القطاع الخاص، وأعيد تدريب أكثر من 9,000 في القطاعات التي تشهد طلبا مرتفعا. وتُستكمل هذه المبادرات ببرامج لتطوير المهارات في منتصف الحياة المهنية وسياسة الشراكة في المهارات، التي تربط التدريب بأهداف التعمين مباشرة.

نمو القطاعات غير المعتمدة على النفط

تستفيد عمان أيضا من مواردها الطبيعية وموقعها الجغرافي الإستراتيجي في بناء قطاعات اقتصادية قوية غير نفطية، تشمل الخدمات اللوجستية والنقل والتصنيع والطاقة المتجددة والسياحة. وقد ساهمت الخدمات اللوجستية والنقل بنحو 4.4 مليارات دولار (6.1 في المئة من إجمالي الناتج المحلي) بين شهري يناير/كانون الثاني ونهاية سبتمبر/أيلول 2024. وتجتذب المراكز الاقتصادية مثل الدقم وصحار وصلالة وخزائن استثمارات أجنبية واسعة. فقد استقطبت المنطقة الاقتصادية الخاصة في الدقم وحدها 16.4 مليار دولار في سنة 2024 من مستثمرين كويتيين وصينيين وآخرين دوليين، شملت الهيدروجين الأخضر والخدمات اللوجستية.

ليس من المستغرب أن يرفع التصنيف الائتماني السيادي لسلطنة عمان إلى BBB- في سبتمبر 2024 ويعاد تأكيده في أبريل2025 – وذلك مؤشر الى ثقة المستثمرين في أجندة الإصلاح العمانية

بلغت صادرات الصناعات التحويلية 4.2 مليارات دولار في الربع الأول من سنة 2025، بزيادة 8.6 في المئة على أساس سنوي، مدعومة بقوانين الملكية المحررة، وإجراءات الترخيص المبسطة من خلال منصة "استثمر بسهولة" (وهي بوابة رقمية من محطة واحدة لتسهيل الأعمال أطلقتها وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار العمانية في سنة 2020) وتعزيز الأطر القانونية. وفي سنة 2019، أدخلت الحكومة تشريعات مهمة لتعزيز بيئة الأعمال – تشمل قوانين جديدة في شأن الشراكات بين القطاعين العام والخاص، واستثمار رأس المال الأجنبي، والخصخصة، والإفلاس، وحوكمة الشركات.

التحول إلى الطاقة الخضراء

شهدت سعة الطاقة المتجددة نموا كبيرا. وفي يناير/كانون الثاني 2025، افتتحت عمان أكبر مشروع للطاقة الشمسية - محطتا منح 1 ومنح 2 – على مساحة 14.5 مليون متر مربع بقدرة إنتاجية تبلغ 1 غيغاواط. ويضم المشروع أكثر من مليوني لوح شمسي ثنائي الوجه و1800 روبوت تنظيف آلي. وسيرفع ذلك حصة الطاقة المتجددة في مزيج الطاقة من 6.6 في المئة إلى 11 في المئة ويقلص الانبعاثات بنحو 1.4 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون سنويا. وتستهدف عمان توليد 30 في المئة من الكهرباء من الطاقة المتجددة في حلول سنة 2030.

رويترز
سياح يستمتعون بطبيعة مدينة صلالة، عمان 3 أغسطس 2024

يعكس إطلاق "صندوق المستقبل العماني" وتأسيس شركة هيدروجين عمان (هيدروم) توجه السلطنة نحو الاستثمار في قطاعات المستقبل. فقد وقعت "هيدروم"، التابعة لشركة "تنمية طاقة عمان"، في سنة 2023، عقودا تزيد قيمتها على 51 مليار دولار لتنفيذ مشاريع لإنتاج الهيدروجين مع مطورين من بلجيكا، وهولندا، والمملكة المتحدة، واليابان، وسنغافورة، وألمانيا، والهند، والكويت، ودولة الإمارات العربية المتحدة. وستنفذ المشاريع على مدى سبع سنوات وتولد مجتمعة ما يصل إلى 15 غيغاواط من الكهرباء، مما يساعد عمان في تحقيق هدفها بأن تصبح مركزا إقليميا رائدا في مجال الهيدروجين الأخضر.

السياحة ركيزة للنمو

تبرز السياحة بوصفها ركيزة أساسية للنمو الاقتصادي. وتسعى سلطنة عمان إلى ترسيخ مكانتها وجهة سياحية مستدامة وراقية من خلال حملات عالمية مثل "اكتشف عمان" والمشاركة في معارض مثل "سوق السفر العالمي"  في لندن. وتركز الإستراتيجيا السياحية على التجارب الغامرة والمراعية للبيئة – من المخيمات الصحراوية الفاخرة إلى الجولات التراثية – مدعومة بأكثر من 150 نزلا بيئيا مرخصا لها وحوافز حكومية.ونتيجة لذلك، نمت الإيرادات السياحية خمسة أضعاف بين 2005 و2023 لتصل إلى 2.5 مليار دولار. وفي غضون ذلك، تجاوزت أعداد الزوار مستويات ما قبل الجائحة لتصل إلى أكثر من 4 ملايين زائر. ومن المتوقع أن يساهم القطاع بـ 8.6 مليارات دولار أو 7.6 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في سنة 2025.

تشكل هذه الإصلاحات مجتمعة تحولا إستراتيجيا، لا في السياسات فحسب، وإنما في طريقة التفكير أيضا

لذا ليس من المستغرب أن يرفع التصنيف الائتماني السيادي لسلطنة عمان إلى BBB- في سبتمبر/أيلول 2024 ويعاد تأكيده في أبريل/نيسان 2025 – وذلك مؤشر الى ثقة المستثمرين في أجندة الإصلاح العمانية. ويتواصل نمو تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، لا سيما في القطاعات غير النفطية، بارتفاعها بنسبة 17.6 في المئة على مدى السنوات الخمس الماضية لتصل إلى 69.4 مليار دولار في حلول الربع الثالث من سنة 2024.

تشكل هذه الإصلاحات مجتمعة تحولا إستراتيجيا – لا في السياسات فحسب، وإنما في طريقة التفكير أيضا. فسلطنة عمان لا تكتفي بالاستجابة للضغوط الاقتصادية، بل تعيد تعريف نموذجها التنموي. ومع أن الطريق قدما سيكون مليئا بالتحديات، فإن السلطنة تشير إلى أن رحلتها بعيدا من الاعتماد على النفط قد انطلقت بالفعل.

font change

مقالات ذات صلة