السياسة نصفها جد ونصفها لعب

مشاهد مسرحية من حرب إيران وإسرائيل

Brendan SMIALOWSKI / AFP
Brendan SMIALOWSKI / AFP
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يحضر بطولة المصارعة الجامعية في مركز ويلز فارغو في فيلادلفيا، 22 مارس 2025

السياسة نصفها جد ونصفها لعب

"القوة نصفها عنف، ونصفها الآخر مسرح وتمثيل" - باتريشيا كرون

عادة ما يقال بأن "التحليل السياسي" ليس في متناول أي كان. فللسياسة "أهلها" الذين يتقنون التحليلات، ويتمكنون من الاطلاع على الخفايا، وحدس النيات والوصول إلى "المصادر". ما حدث في الحرب الأخيرة بين إيران وإسرائيل، ربما أبرز عاملا لم نكن نأخذه في الحسبان، لعله هو الذي يعطي التحليلات صعوبتها، ويحيد بها عن المنطق وصرامته.

لقد بدا أن تلك الصعوبة لا تعود أساسا إلى تعقد الموضوع السياسي وتعدد العوامل المتحكمة فيه وتباين الآراء حوله فحسب، وإنما ترجع أيضا إلى كون السياسة "لعبة" غالبا ما تغيب عنا أطرافها، وغالبا ما نفتقد الخيوط المتحكمة فيها، وهي "لعبة" أقرب إلى المسرح والتمثيل منها إلى شكل آخر.

إتقان اللعبة

ربما لما كان من علاقة وطيدة للرئيس الأميركي الحالي دونالد ترمب برياضة "الكاتش" (الفوتبول الأميركي)، فقد يكون من المستحسن استحضار هذه اللعبة الرياضية لفهم ما جرى في الحرب الأخيرة بين إيران وإسرائيل، ومع ذلك لا بد من أن نأخذ في الاعتبار، هنا كذلك، الجانب المسرحي في هذه الرياضة. المعروف أن الساهرين على "مباريات" الكاتش يكتبون مسبقا سيناريوهات المباريات، و"يخططون" لما ستسفر عنه النتائج، بحيث يدخل المتباري، في الوقت ذاته، حلبة صراعٍ وخشبةَ مسرح. وفي طبيعة الحال، تظل المباراة بالنسبة إلى متتبعها ذات قيمة ما لم يشعر بوجهها المسرحي. فيكون على المتبارين أن يتقنوا تمثيل اللعبة، ويتناسوا أنهم على "خشبة مسرح" كي تبدو لعبة الكاتش رياضة خالصة.

كان رولان بارت عقد في كتابه "أسطوريات"، مقارنة طريفة بين رياضة الملاكمة ورياضة "الكاتش" ربما تفيدنا هنا في تسليط بعض الأضواء على اللعبة التي تستهوي الرئيس الأميركي، وأثر ذلك على تدخله في الحرب الأخيرة بين إيران وإسرائيل.

المعنى في رياضة "الكاتش" يُستمد من اللحظة، وليس من الدوام والاستمرار. مُشاهد "الكاتش" لا يَشغَل باله بعملية تكون ونشأة، وإنما يترقب الصورة اللحظية لتجلي بعض الانفعالات

استنتاجا للمقارنة بين اللعبتين، يستخلص السيميولوجي الفرنسي أن المعنى في رياضة "الكاتش" يُستمد من اللحظة، وليس من الدوام والاستمرار. مُشاهد "الكاتش" لا يَشغَل باله بعملية تكون ونشأة، وإنما يترقب الصورة اللحظية لتجلي بعض الانفعالات. تستدعي "الكاتش" إذن قراءة فورية لمعان تتراكم دونما حاجة لربطها في ما بينها، فلا يهم المشاهدَ هنا مآل المعركة الذي يمكن العقل أن يتتبعه. أما مباراة الملاكمة فهي تستدعي معرفة بالمآل وتبينا للغايات والمرامي وتنبؤا بالمستقبل. في عبارة أخرى، فإن "الكاتش" حصيلة مَشاهد لا يشكل أي منها دالة تتوقف على غيرها من المتغيرات: فكل لحظة تتطلب إحاطة كلية وانفعالا ينبثق في انعزاله وتفرده من غير أن يمتد ليتوج مآلا بأكمله. "في الكاتش تدرك اللحظة وليس الديمومة". إنه مشهد مبني على الانفصال والتقطع. تقطعه و"عدم انسجامه يحل محل النظام الذي يشوه الأشكال".

Brendan SMIALOWSKI / AFP
الرئيس ترامب يتحدث مع السيناتور الجمهوري ديف ماكورميك، وإلى جانبه إيلون ماسك وجيم جوردان، خلال بطولة المصارعة الجامعية في فيلادلفيا، 22 2025

المراهنة

أما مباراة الملاكمة فهي "حكاية" تروي حركة موصولة تصدر عن أصل لتمتد في الزمان كي تسير نحو غاية، بينما دلالات مباراة الكاتش، تقف عند اللحظي الذي لا يتخذ معناه من غاية الحركة ومسعاها، ولا تتوقف دلالته على كلية خارجية. لا يعني هذا مطلقا أن الأمر يقتصر على المقابلة بين الزماني واللحظي، بين الحركة والتوقف، بين التاريخ ونفيه، بقدر ما يعني تمييزا بين تاريخ وتاريخ: فـ"تاريخ" مباراة الملاكمة تاريخ توليدي تكويني لا يُدرِك المشاهد معناه إلا إن هو بَنَى حكاية تربط الأصل بالغاية كي ترى في اللحظة، ليس معنى في ذاته، بل حلقة في سلسلة مترابطة يتوالد فيها المعنى ولا يكتمل إلا عند معرفة المآل.

Brendan SMIALOWSKI / AFP
الرئيس ترمب يتحدث خلال مؤتمر صحافي في قمة قادة الناتو في لاهاي

لذا يعلق بارت: "في الملاكمة تقع المراهنة على نتيجة المعركة". أي أن الأمور تكون في الملاكمة بخواتمها، أما في الكاتش "فلا معنى للمراهنة على النتيجة" لسبب أساس، وهو أن المعنى لا يمثُل في حركة الأصل، ولا ينتظر المآل، وإنما يتجسد في غنى اللحظة. بيد أن هذا لا ينفي التراكم، ولا يستبعد التاريخ. لكنه ليس التاريخ التاريخاني، وهو ليس حركة حاضر ينطلق من أصل لينمو في اتصال وتأثير وتأثر حتى يبلغ النهاية والغاية والمعنى sens. ليس التاريخ هنا سريان المعنى ونموه وتطوره développement في مسلسل مستمر و"سيرورة" processus متواصلة، وإنما هو إعادة اعتبار الى كثافة اللحظة لكي تحتفظ بثرائها من غير أن تذوب في الديمومة القاهرة.

U.S. Department of Defense/Handout via REUTERS
رسم بياني يُظهر الجدول الزمني لعملية "مطرقة منتصف الليل"، ضربة أميركية على منشآت إيران النووية، صادر عن وزارة الدفاع الأميركية، واشنطن، 22 يونيو 2025

لعل هذا ما يفسر "لحظية" القرارات التي كان يتخذها عاشق "الكاتش"، والتي كانت تسمح له بأن ينفي بسرعة مذهلة ما كان قرره قبل ساعات. وعلى رغم ذلك، فلولا فلتات لسانه بين حين وآخر، هو الذي لا يظهر أنه يتقن اللعبة السياسية، مثلما لم يكن يتقن لعبة الكاتش، ونظرا لهول ما كانت تنقله بعض الشاشات، فقد كنا نكاد نصدق "جدية" ما يجري، ونقتنع بإتقان اللعبة بكل جوانبها. بل إننا كنا نتخوف من أن تكون الإنسانية على أبواب حربها الأخيرة. لذا لم يخطر ببالنا على الإطلاق ما سيكشف عنه الرئيس الأميركي بعد يومين من هجومه على منشآت تخصيب اليورانيوم الإيرانية، من أن الأطراف قد توصلت إلى اتفاق وقف الحرب-اللعبة، وأن بلدا عربيا كان طرفا أساسيا في مفاوضات وقف إطلاق النار، وأن من قذف "أم القنابل" على بلد هو الذي سيعين له حدود الانتقام المسموح به، بحيث تبين أن كل شيء محسوب خاضع لقواعد، شأن كل لعبة.

REUTERS/Stringer
إطلاق صواريخ اعتراضية بعد إعلان إيران استهداف قاعدة العديد في قطر، 23 حزيران 2025، كما شوهد من الدوحة

ترتيبات مسبقة

هذا على الأقل ما أكده تصريح الرئيس، عاشق "الكاتش": "لقد تلقينا خمسة عشر صاروخا في قاعدتنا بقطر، لم نسمح بالمرور إلا لاثنين منها". لذا فقد أشاد بعدم وقوع قتلى أو مصابين أميركيين أو قطريين، مضيفا أنه ربما يكون باستطاعة إيران المضي نحو السلام. بل إن الرئيس سيتوجه بالشكر إلى إيران، لانتقامها "الوديع"، وكذا "على إبلاغه مبكرا بالهجوم مما سمح بعدم إزهاق أرواح أو إصابة أحد"، كما سيتوجه بالشكر إلى الطرفين المتحاربين "لما وصفه بامتلاكهما القدرة على التحمل والشجاعة والذكاء لإنهاء الحرب"، وفي طبيعة الحال، سيتوجه في الأخير نحو السماء التي منها أنزل قنابله ليطلب من الله تعالى "أن يحفظ أطراف الحرب جميعها".

ما سيتعذر على الكثيرين استيعابه في المقبل من الأيام، هو أن تغدو السياسة الدولية لعبا ومحاباة ومجاملات، وتظل، في الوقت ذاته، جدا وتسترا ومصالح

الأدهى من ذلك أن اللاعبين سيكشفون لاحقا أن الضربة الأميركية ذاتها جاءت بعد ترتيبات كان لا بد منها، من بينها، كما قيل، فسح المجال لإفراغ منشأة "فوردو" من مخزون اليورانيوم. وقد أكد الإيرانيون أنفسهم ذلك، وسمحوا بظهور سرب من السيارات الضخمة وهي تنقل أشياء كانت تضمها المنشأة. الأمر الذي سمح لبعض الملاحظين بأن يستخلصوا أن "أم القنابل" وصلت إلى مرماها عمدا متأخرة. وهكذا، سيتضح أن كثيرا من المواقف التي بدت لنا في البداية من الخطورة بمكان، كانت مجرد عمليات لإرضاء الشعوب، وإنقاذ ماء الوجه.

MAXAR TECHNOLOGIES/Handout via REUTERS
صورة لأقمار صناعية تُظهر مجمّع "فوردو" النووي تحت الأرض قرب قم، بعد استهداف القوات الأميركية، 22 حزيران 2025

لم يكد معظم الصحافيين يصدقون في البداية ما صدر عن ترمب، خصوصا أنهم عهدوا أن يسمعوا منه القول ونقيضه في الوقت ذاته، إلا أنهم تبينوا أن الأمور رُتبت بحيث يخرج كل طرف من الأطراف، لا أقول رابح/رابح، لأن الخسارات البشرية والمادية لم يكن من الممكن إنكارها، وإنما على الأقل سيخرج من الحرب ضامنا رضا شعبه، "حافظا ماء وجهه".

غير أن ما سيتعذر على الكثيرين استيعابه في المقبل من الأيام ولا شك، هو أن تغدو السياسة الدولية على هذه الحال: أن تصير لعبا ومحاباة ومجاملات، وتظل، في الوقت ذاته، جدا وتسترا ومصالح. وقد يعزو البعض ذلك إلى أننا أصبحنا نعيش في زمن صار فيه هواة رياضة "الكاتش" رؤساء دول.

font change