أخيرا، لأول مرة أرى غضبا شديدا من قِبَل من يعيشون في صنعاء، فقد انتشرت على وسائل التواصل تغريدات غاضبة تقول: "الحوثيون تجرأوا على المساس بحرياتنا الشخصية".قد تظن أن هناك غضبا بسبب الحريات التي تتناقص بالفعل، أو ربما خوفهم على مستقبل أطفالهم في وجود هذه الجماعة التي تؤدلج فكر أطفالهم، أو ربما غضبهم من أن الجماعة ترمي بهم للنار وهي تقوم بتصرفاتها المتهورة... لا. أبدا. لم تكن هذه هي الأسباب التي جعلتهم يغضبون بهذا الشكل الذي جعلهم يتجرأون، وينتقدونها رغم خطورة الانتقاد. لقد تجرأ الحوثي ومس بأهم مقدسات اليمنيين، الشيء الذي في كثير من الأحيان كان أهم من أموالهم في عز الفقر، وأهم من كسوة أولادهم، لقد تجرأ الحوثيون وتجاوزوا الخط الأحمر بالنسبة لليمنيين، لقد تجرأوا على... القات.نُشر قرار باسم شرطة أمانة العاصمة يقول: "بناء على تعليمات مدير عام شرطة صنعاء المتضمنة إشارة إلى توجيهات الأخ مدير مكتب وزير الداخلية... إلخ. تمت مناقشة موضوع تعاطي القات في الشوارع للذين يستمرون إلى ما بعد منتصف الليل، وأوصت اللجنة بأن يتم تكليف أقسام الشرطة والدوريات بالنزول وأخذ بيانات هؤلاء الأشخاص ومضايقتهم، على أن يتم هذا بعد الساعة الواحدة ليلا، ومَن يثبت تكراره يتم استدعاؤه إلى القسم وعمل محضر. أما من يتعاطون القات حتى وقت متأخر من الليل في المراكز والنقاط الأمنية من منتسبي وزارة الداخلية، فعلى الأخ المفتش العام تكليف لجان مستمرة للتعقيب على هؤلاء، واتخاذ إجراءات صارمة بحق من يلاحظون استمراره في ذلك".
القات كان دائما في أعلى نظام هرم أساسيات الحياة بالنسبة لليمنيين، وهو الخط الأحمر الذي يُمنع تجاوزه
إلى هنا لا شيء يدعو للغضب في البيان، فهو عمن يتعاطى القات خارج بيته بعد منتصف الليل، لكن هذا الخبر البسيط كان كفيلا بإثارة غضب اليمنيين. البلد الذي يعاني من انقطاع المرتبات، ويصرف المواطن فيه يوميا أموالا للقات كجزء أساسي من حياته، وقد يستغني عن أغذية مهمة كالخضراوات والفاكهة في سبيل شراء القات، بل إن هناك من لا يشتري لأبنائه ثيابا مناسبة، وغذاء صحيا، ولكنه لا يتوقف عن شراء القات يوميا.
وفي تقارير نُشرت خلال هذا الشتاء بينت أن سعر القات ارتفع لأضعاف مضاعفة بسبب البرد الذي لا يناسب زراعة القات، ومع ذلك ما زال اليمني يشتري القات، وكما فهمنا من بيان الشرطة أنهم "يخزنونه" (يمضغونه) حتى ما بعد منتصف الليل. وهذا لا ينحصر على بيئة معينة بل إن السهر طوال الليل إلى نهار اليوم التالي أصبح عادة عند اليمنيين، حتى من يسافر منهم لدولة أخرى يحاول أن يجد قاتا "مهربا مطحونا" لكي يتعاطاه طوال الليل وينام في النهار.
القات كان دائما في أعلى نظام هرم أساسيات الحياة بالنسبة لليمنيين، وهو الخط الأحمر الذي يُمنع تجاوزه. ففي أثناء عهد الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني في عام 1972 قام رئيس الوزراء محسن العيني بمنع مضغ القات أثناء أوقات العمل، وحظر زراعته على الأراضي التابعة لهيئات حكومية، ويُقال إن هذا كان واحدا من أسباب سقوط حكومته. كان هذا الوضع في السبعينات، في ذاك الوقت كان القات يتم تعاطيه لساعات محدودة، ويعتبر معيبا على النساء قبل الزواج وإنجاب الأطفال، فتخيل معي كيف سيكون الوضع اليوم الذي يتعاطى فيه الجميع القات رجالا ونساء، وحتى أطفالا لساعات طويلة؟
هل سبب زيادة التعاطي هو الوضع السياسي، فأصبح القات طريقة للهروب من هذا الواقع السيئ لعالم أكثر سعادة؟ رُبما. ولكن بصفتي شخصا قاد عدة حملات ضد القات لثلاث سنوات كاملة نتج عنها بند دستوري في مسودة دستور 2015 قبيل الحرب التي أوقفت التصويت عليه، فأنا أعرف جيدا تأثير هذه النبتة على اليمنيين حتى في فترات السلم، فهذه النبتة مثل أي مخدر يصعب التخلي عنه، فهي تُصنف كإحدى النباتات المخدرة التي تحتوي على مادة المينوامين الشبيهة بالأمفيتامين، وهي مصنفة من قبل منظمة الصحة العالمية كمخدر مضر يتسبب في إدمان نفسي، والاعتقاد لدى الشخص بأنه لا يستطيع أن يكون سعيدا أو أن يقوم بأي عمل دون تعاطي القات. مع الفارق بأن القات تأثيره يتجاوز الأذى الصحي، وكان دائما عاملا في تراجع زراعة البن وبقية المحاصيل المفيدة، هذا عدا تأثيره على المياه الجوفية حيث ترتفع نسبة استهلاكه للمياه الجوفية في بعض المناطق إلى 70 في المئة بحسب وزارة الزراعة اليمنية.
القات ليس حرية شخصية. هناك دول تمنع تدخين السجائر في الأماكن العامة حفاظا على صحة غير المدخنين، فتخيل معي القات الذي أضر بكل عوامل التنمية في اليمن في زمن السلم، واليوم في زمن الحرب أصبح عنصرا يؤثر في سلوك المقاتلين، ومصدرا لتمويل الجماعات المسلحة، وحتى في بنية الاقتصاد الحربي، ومضغه لفترات طويلة ساهم في زيادة التهور والعدوانية، ويتم إعطاؤه للأطفال ليزيد قدرتهم على القتال بحسب وكالة "أسوشييتد برس". إذن، منع تعاطي القات في الشارع بعد منتصف الليل ليس موضوعا يستحق الغضب. ما يستحق الغضب والحزن هو مشاهدتنا للواقع المأساوي الذي يعيشه أطفال اليمن ومستقبلهم الذي يضيع داخل المتاريس وبعيدا عن التعليم الصحيح، والجميع يشاهد دون اعتراض.