شبكات دولية وعمليات منظمة... "المجلة" تفتح ملف تهريب الآثار في سوريا (1)

هكذا عمل النظام السابق على تفريغ البلاد من ثرواتها الأثرية

آثار تدمر

شبكات دولية وعمليات منظمة... "المجلة" تفتح ملف تهريب الآثار في سوريا (1)

تعد سوريا من أغنى مناطق الشرق القديم بالمواقع الأثرية، وهي منتشرة في شتى أرجاء البلاد. وتتميز الآثار السورية، بوجود شواهد آثارية تعبر عن مراحل مهمة ليس في تاريخ المنطقة فحسب وإنما في التاريخ الثقافي البشري. وبحكم موقعها الجغرافي، كانت سوريا ممرا لكثير من الخطوط التجارية والعسكرية والثقافية. وساهم ذلك بأن معظم الحضارات العالمية تركت آثارها في سوريا مثل الأكادية والآورية والبابلية والفرعونية والهلينستية والفارسية والرومانية والإسلامية.

ولمعرفة ما لحق بقطاع الآثار في سوريا، من سرقة وتهريب عبر الحدود وتدمير للتراث السوري، على امتداد الجغرافيا السورية، خلال سنوات الحرب (2011-2024)، وما قبلها. استطلعت "المجلة" آراء متخصصين سوريين في مجال التراث للوقوف على واقع الآثار اليوم، التي طاولتها أيادي المنقبين غير الشرعيين والعابثين بالذاكرة السورية.

مواقع أثرية تختفي من الخريطة

تعود بدايات التنقيب عن الآثار في سوريا إلى أواسط القرن التاسع عشر، ثم انتظمت بعد الحرب العالمية الأولى، حيث أنشئت المديرية العامة للآثار في سوريا بإشراف فرنسي. يقول الدكتور فاروق عباس إسماعيل، الباحث في عدد من الجامعات الألمانية: "بدأ الأثريون الفرنسيون التنقيب في مواقع عدة، مثل: تل المشرفة (شمال شرق حمص) في 1924، وأرسلان طاش (جنوب شرق كوباني/ عين العرب) في عام 1928، وتل أحمر (جنوب جرابلس) في عام 1929، ورأس شمرا (أوغاريت Ugarit، قرب اللاذقية) في 1929، وتل الحريري (ماري Mari، قرب البوكمال) في 1933".

ويوضح إسماعيل: "توافدت بمرور الزمن عشرات البعثات الأثرية الأوروبية والأميركية، وعملت في معظم المحافظات السورية، ولا سيما في الجزيرة السورية التي تشير إحصاءات مديريات الآثار في محافظاتها الثلاث (الرقة ودير الزور والحسكة)، إلى وجود نحو 1700 موقع أثري فيها". ومع اندلاع الثورة السورية، بتاريخ 15/3/2011، لم تعد هناك رقابة إدارية على المواقع الأثرية، فتعرض معظمها إلى النبش والحفر فيها بشكل فردي لأغراض تجارية، أو بشكل منظم على أيدي جماعات مسلحة لتمويل أعمالها العسكرية.

ظاهرة قديمة

وعن أكثر المواقع التي تعرضت للسرقة والتهريب، على طول الجغرافيا السورية. يقول عدنان المحمد، باحث وآثاري سوري "إن ظاهرة التنقيب عن الآثار ليست وليدة اليوم، هي ظاهرة قائمة منذ العصور التاريخية"، ويوضح أن هناك عادات وتقاليد للشعوب القديمة تتلخص "بدفن متعلقات الميت معه، أحيانا تكون جرارا فخارية، وأحيانا تكون نقودا، وأحيانا يكون هناك بذخ كبير يرافق دفن الموتى، حيث تدفن مع الميت جياد وعربات وكذلك الجواري، لذلك كانت المواقع الأثرية تستهدف منذ العصور القديمة".

ويؤكد الدكتور عبد الرزاق معاذ، باحث في الآثار والتاريخ، أن سرقة الأثار السورية بدأت اعتبارا من سنة 2000، حيث أخذ الناس يبحثون عن الآثار ويتاجرون بها نتيجة الفقر والعوامل الاقتصادية الصعبة.

سرقة الأثار السورية بدأت اعتبارا من سنة 2000، حيث أخذ الناس يبحثون عن الآثار ويتاجرون بها نتيجة الفقر والعوامل الاقتصادية الصعبة

وعن أكثر المواقع الأثرية التي تعرضت للنهب والتنقيب العشوائي، يكشف الدكتور عباس إسماعيل أن مدينة ماري (تل الحريري)، هي من أكثر المواقع التي تعرضت للتخريب والنهب، بحيث ضاعت معالمها التي كشفت عنها البعثة الفرنسية خلال سبعين سنة. ويؤكد إسماعيل أن ماري كانت مركز مملكة أمورية مهمة خلال القرن الــ 18 ق.م، وفيها قصر ملكي فريد في عصره، وعدة معابد، وكشف فيها عن أعمال فنية متميزة من النحت المجسم والنافر، ومن المعادن الثمينة، إضافة إلى أهم أرشيف من الوثائق الكتابية المسمارية.

الآثاري السوري الدكتور عبد الرزاق معاذ

وبدوره يبين الدكتور يوسف كنجو، الباحث في معهد دراسات الشرق الأدنى القديم في جامعة توبنغن بألمانيا أن جميع المواقع الأثرية المهمة في سوريا تعرضت للنهب والتدمير، وأشار إلى أن أكثر المواقع المتضررة موقع أفاميا الذي يعد أحد أهم المواقع الأثرية السورية والسياحية.

ويلفت عدنان المحمد، إلى أن القطع واللوحات الجنائزية المشهورة في تدمر "بدأت تظهر بشكل واسع في مناطق شمال غرب سوريا، قرب الحدود التركية، وجنوب لبنان"، ويذكر أن "المدن الميتة" في شمال غرب سوريا "نهبت بشكل كبير عبر الحفر بالجرافات، ومن طريق أجهزة كشف المعادن"، ويؤكد المحمد أن شمال غرب سوريا اليوم "يعد مركزا تجاريا عالميا للآثار السورية، وبشكل سري".

مرحلة مظلمة في تاريخ سوريا

تعد الفوضى التي عاشتها المناطق السورية خلال السنوات الأخيرة من أهم الأسباب التي جعلت التاريخ السوري عرضة للنهب والسرقة ومن ثم الضياع. يعلق الآثاري ياسر الشوحان، مدير متحف دير الزور الأسبق على ذلك بالقول: "أستطيع الجزم بأن جميع المواقع الأثرية اعتدي عليها سرقا ونهبا. لكن أكثرها هو موقع دورا أوروبوس، حيث أجريت فيه تنقيبات غير شرعية كثيرة... سرق الكثير من التماثيل الجنائزية والأحجار المنحوتة، من مدينة تدمر وهربت إلى بلدان عدة أهمها الأردن وتركيا وإسرائيل، هذا فضلا عن ماري وقلعة الحصن وحلب القديمة والبارة وسرجيلا في إدلب، والرصافة بالقرب من الرقة".

وبحسب الشوحان "فإن سوريا تصدرت المشهد في نهب الممتلكات الثقافية في الدول التي عانت من الصراعات المسلحة كاليمن وليبيا والعراق"، ويرجع ارتفاع نسبة الاتجار بالآثار في سوريا إلى "رواسب اجتماعية وسياسية واقتصادية متجذرة سهلت ظهور هذه الانتهاكات أو تجاوزها"، ويبين أن هذه التجارة هي ذات غايتين، "فهي إما لتأمين لقمة العيش نتيجة الفقر المدقع في مناطق الصراع، أو نتيجة الفلتان الأمني بغاية أن تكون هذه التجارة مصدرا لتمويل الفصائل المتصارعة".

التنقيب السري... اللصوص الأوائل

استطاع النظام السابق تدمير الإنسان السوري، اعتقالا وقتلا، واتجه إلى تدمير تاريخ سوريا الإنساني من خلال التنقيب العشوائي وسرقة عشرات المواقع الأثرية في البلاد. وبعد سقوط نظام الأسد، تواصلت عمليات نهب الآثار والسطو على المواقع الأثرية، وفي شأن آلية التنقيب عن الآثار وبيعها بشكل غير قانوني في سوريا الآن، بعد سقوط النظام. يقول الدكتور عبد الرزاق معاذ "بدأ الكل يبحث عن الثروة والمال، في دولة أصبحت على الحضيض فعليا".

هذه التجارة هي ذات غايتين، فهي إما لتأمين لقمة العيش نتيجة الفقر المدقع في مناطق الصراع، أو نتيجة الفلتان الأمني بغاية أن تكون هذه التجارة مصدرا لتمويل الفصائل المتصارعة

في المقابل، يرى أنس الخابور، مدير متحف الرقة سابقا، أنه "بعد غياب السلطة الأثرية، فقد نشط التنقيب غير المشروع، بشكل حاد، كما أن المهربين استخدموا في تلك الفترة الآليات الثقيلة في الحفر العشوائي"، ويؤكد أن ذلك ساهم في ضياع التسلسل التاريخي، وخلق فجوة معرفية بالنسبة إلى مئات المواقع الأثرية، مذكرا بأن "هناك أكثر من 177 موقعا متضررا حتى عام 2015، في الجزيرة السورية وحدها".  

أطلال دورا أوروبوس، دير الزور

بدوره يؤكد الباحث يوسف كنجو: "كانت ظاهرة التنقيب السري ومن ثم سرقة الآثار موجودة حتى قبل قيام الثورة السورية، وكانت في تلك المرحلة محصورة في الأشخاص المدعومين من النظام والأجهزة الأمنية بفروعها كافة وكانت تحدث في أماكن محددة وربما ليلا دون السماح للسلطات الأثرية بمعرفة النتائج أو كتابة الضبوط القانونية". ويضيف: "خلال الثورة السورية حدث رد فعل من قبل معظم الناس في اتجاه التنقيب السري الذي كان محصورا سابقا بيد النظام، بالإضافة الى الحالة الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها المجتمع السوري، وبعد سقوط النظام زادت الأعمال بشكل واسع في عدد من المواقع الأثرية نظرا لغياب الحراسة وغياب الوعي بأهمية المواقع الاثرية".

ومن أجل التوسع في التنقيب عن الآثار، لجأ بعض المنقبين إلى استخدام أجهزة حديثة لمعرفة وجود المعادن الثمينة، والتي غالبا تؤدي إلى نتائج عكسية هدفها تخريب المواقع الأثرية في المواقع المستهدفة بالتنقيب. ويبيّن المحمد أن أجهزة كشف المعادن باتت تباع علانية في شوارع دمشق. وبدوره يؤكد الدكتور محمد نظير عوض، مدير الآثار والمتاحف بسوريا، في حديثه لـ"المجلة" أن "ظاهرة استخدام أجهزة كشف المعادن، تعد تغيرا خطيرا، وستؤثر سلبا على المواقع الأثرية، وستؤدي إلى ضياع صفحات من التاريخ السوري، وتدمير مواقع أثرية مهمة".

وعن أعمال التنقيبات غير الشرعية في سوريا، بعد سقوط النظام في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، يجيب الشوحان: "استمرت التنقيبات فيها نتيجة انسحاب قوات النظام من مدن عدة"، مشيرا إلى أن زيادة الطلب العالمي على اقتناء الآثار السورية "شجع شبكات التهريب العالمية من ناحية. ودفع المهربين لاستخدام أجهزة الرادار للطبقات الأرضية (أجهزة تعمل بتقنية GPR). وربما أيضا ساعدت طائرات الدرون لمراقبة المواقع أثناء الحفر أو تحديد أفضل مناطق لإجراء التنقيبات".

ويبين الدكتور نظير عوض "أن هناك عددا من المتنفذين في النظام السابق كانوا يقومون بالتنقيب عن الآثار، قبل التحرير، وبالتالي هناك رد فعل من المواطنين، على المتنفذين الذين لا يخضعون للمحاسبة القانونية على قيامهم بالتنقيب عن الآثار، وقد أدى ذلك إلى قيام بعض السكان بالتنقيب العشوائي عن الآثار".

ضباط سابقون

هل يمكن القول إن قطاع الآثار تعرض للسرقة والتهريب بشكل منظم قبل انطلاق الثورة السورية، عبر شبكات منظمة تابعة لجهات رسمية في النظام السابق؟ وهل هناك أسماء محددة لمسؤولين نافذين من النظام السابق؟ يوضح الشوحان: "أعرف أن هناك ضباطا في الجيش أو الشرطة من الرتب العالية ساهموا في تهريب الآثار، لكني لا أعرف أسماءهم على وجه الدقة". ويقول مدير الآثار والمتاحف، إنه "كانت تعرض في بيوت هؤلاء المتنفذين، قطع أثرية حقيقية، وكان هؤلاء خارج نطاق المحاسبة القانونية".

كانت ظاهرة التنقيب السري ومن ثم سرقة الآثار موجودة حتى قبل قيام الثورة السورية، وكانت محصورة في الأشخاص المدعومين من النظام والأجهزة الأمنية بفروعها كافة

ومن جهته يوضح الدكتور عبد الرزاق معاذ أن الضباط في الجيش السوري وقطاع الأمن استغلوا نفوذهم، وبدأوا بالتنقيب عن الآثار، وهو ما يؤكده أيضا الدكتور يوسف كنجو: "نعم، السرقة كانت محصورة في أجهزة الأمن التابعة للنظام والأشخاص التابعين أو المكلفين من قبلهم. كانوا أحيانا يحصلون حتى على رخص نظامية للتنقيب في مواقع أثرية محددة".

وحول وجود معلومات توثق عمليات التنقيب السري من قبل أركان النظام السابق، يقول كنجو: "لدينا معلومات توثق آثار التنقيب السري الذي كان مثلا لصالح رفعت الأسد، شقيق الرئيس السوري حافظ الأسد، في منطقة خناصر، التابعة لمحافظة حلب، حيث ذكر لنا حارس المنطقة الأثرية كيف يتم التنقيب باستخدام التركسات(الجرافات) مما أدى إلى تخريب العديد من المباني الأثرية". ويوضح كنجو "أثناء عملنا في متحف حلب كنا نجبر على الذهاب إلى الأجهزة الأمنية للاطلاع على العديد من القطع الأثرية (المصادرة) لإجراء الخبرة الأثرية".

آثار تدمر

ويذهب الباحث عدنان المحمد إلى أن "ضباط الأمن من أخطر الأشخاص في تعاملهم مع الموظفين في قطاع الآثار، فهم مستعدون لاتهامك، أنت كعالم آثار-بالسرقة- عندما يتعلق الأمر بالقطع الأثرية التي نعثر عليها في المواقع الأثرية".

ويتابع: "لكن في النهاية لا تأتي اللقى المصادرة إلى المتحف حيث نطلع على جزء من القطع الأثرية غير المهمة بينما تبقى القطع ذات القيمة التاريخية لديهم... في النتيجة كانت الأجهزة الأمنية تسيطر بشكل تام على تجارة الآثار في سوريا، طبعا لصالح عائلة الأسد".

وبعد انهيار نظام شهدت المواقع الأثرية هجمة ثانية كبيرة جدا على قطاع الآثار، يطلق عليها عدنان المحمد صفة الموجة الثالثة، في اجتياح كامل للمواقع الأثرية السورية، نعود من خلالها إلى العصر العثماني حيث قطاع الآثار لم يكن محميا على الإطلاق".

فرقة النباشين... الشبكات المركزية

ذكر بعض الباحثين أن نافذين في النظام السابق، سرقوا عددا من القطع الأثرية من المتاحف والمواقع الأثرية الحكومية قبل انطلاق الثورة السورية في 2011. وفي صدد ذلك يقول الباحث عدنان المحمد، إلى أنه بالنسبة للنظام السابق، كان لدى ماهر الأسد، فرقة النباشين وأيضا رفعت الأسد كان لديه مكتب خاص بالآثار، التابع لسرايا الدفاع"، ويشير إلى أن "ماهر الأسد أصبح وريثا لتلك الشبكة".

ويبين أنها طورت من خلال "العلاقات مع حزب الله اللبناني، ودول أخرى في المنطقة، من خلال الترويج لتلك الآثار المسروقة وتزوير أوراقها". وبحسب المحمد: "لذلك هم اللصوص الأوائل في عملية سرقة الآثار، الجهات الأمنية هم اللصوص أنفسهم، الجيش (السابق)، كان فيه شبكات وكلهم تابعون لشبكة مركزية كان يديرها ماهر الأسد، من خلال عناصر الفرقة الرابعة"، ويؤكد المحمد أن لوحات فسيفسائية سرقت من موقع "شاش حمدان" بريف حلب.

السرقة كانت محصورة في أجهزة الأمن التابعة للنظام والأشخاص التابعين أو المكلفين من قبلهم. كانوا أحيانا يحصلون حتى على رخص نظامية للتنقيب في مواقع أثرية محددة

وحول طبيعة الأفراد الذين يتولون سرقة الآثار، يقول المحمد "لا أعتقد أن من يسرق الآثار شخص عادي، إنما هو محمي من شخصيات ذات نفوذ كبير في النظام السابق". أما الدكتور عبد الرزاق معاذ فيروي لـ"المجلة": "طلب مني قائد شرطة ريف دمشق-أيام النظام السابق-، أن أرسل معه بعض الخبراء في مجال الآثار للبحث عن القطع الأثرية، في أحد البيوت، حتى يعثر على كنز، فالكثير من الناس يبحثون عن الكنوز بهدف الإثراء السريع". وخلال الحرب سرق تمثال مطلي بالذهب، يعود الى الفترة الآرامية، من خزائن متحف حماة، كما يؤكد ذلك الدكتور يوسف كنجو، وسرق تمثال صغير للإله بعل من متحف حماة مكسو بالذهب، وهو ذو قيمة أثرية عالية". ويروي أن من أهم السرقات التي حصلت في سوريا، قطع الموزاييك الضخمة التي تسللت عبر المهربين إلى لبنان، وهربت إلى كندا، ومن ثم إلى الولايات المتحدة الأميركية.

يقوم بعض عناصر وضباط الأمن والشرطة، بعدم تسليم القطع الأثرية (المصادرة)، أو التي يقوم بتسليمها بعض المواطنين بحسن نية لمراكز الأمن والشرطة، والتي يجب أن تعيدها إلى إدارة المتاحف المختصة، إنما يحتفظون بها لأنفسهم، كما يؤكد الباحث عدنان المحمد: "حصل ذلك في موقع شاش حمدان، في منبج، حيث سلمت 158 قطعة من قبل أحد الأهالي لمركز الأمن، وعندما رجعنا لاستلام القطع من المركز قاموا بإخفاء ست قطع وتسليمنا 152 قطعة فقط".

وعن السرقات في متحف دير الزور، يقول عدنان المحمد: "سرقت 14 قطعة قبل الحرب، عام 2009، واكتشفت عام 2010".

وبدوره يلفت الشوحان إلى أنه سُرقت "من متحف دير الزور 13 قطعة أثرية في عام 2010 وغُرّم حراس الآثار قيمة المفقودات"، إلا أنه وحتى هذا التاريخ لم يُعثر عليها. ومن أهم هذه القطع الأثرية المفقودة، يقول الشوحان، السيف الشبيه بالمنجل الذي عثر عليه في تل العشارة (ترقا) والذي يعود إلى العصر السوري المبكر 1600 ـ 1500 ق.م وهو نصل من البرونز ذو مقبض مطعم بالعاج.

آثار تدمر

ومن جهته يشرح وليد الأسعد، مدير آثار مدينة تدمر السابق، "أن عملية نهب الكنوز والآثار كانت تجري في عموم الأراضي السورية من قبل مافيات تهريب ترتبط بسلاسل تصل إلى أعلى هرم السلطة منذ عهد الأسد الأب، ولم تتوقف خلال عهد الأسد الابن". ويضيف: "تزايدت هذه المظاهر بشكل حاد لأن النظام وشبيحته بحاجة الى التمويل والمغريات خلال الحرب التي شنها على الشعب"، وبحسب الأسعد كانت تجارة الآثار المنهوبة تدر مبالغ هائلة من الأموال على آلة النظام السابق الحربية.

مزادات الآثار عبر الفضاء الأزرق

نشطت تجارة الآثار في سوريا، عبر شبكات منظمة، وبسبب الحرب وصعوبة التنقل في بعض الأحيان، يلجأ المهربون إلى مواقع التواصل الاجتماعي وخصوصا "فيسبوك"، حيث يتجمع الكثير من لصوص الآثار، للبحث عن مشترين ويلتقون مجموعات وأشخاصا يمتهنون العمل في تهريب الآثار. ومع استمرار الحرب والأزمة السورية ومفرزاتها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كما يشير ياسر الشوحان، "وصلت أعداد الأعضاء في المجموعات المروجة للقطع الأثرية إلى 2 مليون عضو، كما وصلت نسبة الأعضاء إلى الثلث في مناطق النزاع /سوريا، ليبيا، اليمن/، ويتواصل معظم أعضاء هذه المجموعات في ما بينهم بلغة مشفرة خوفا من تعقب محادثاتهم أو الإيقاع بهم من قبل السلطات المحلية".

يلجأ المهربون إلى مواقع التواصل الاجتماعي وخصوصا "فيسبوك"، حيث يتجمع الكثير من لصوص الآثار، للبحث عن مشترين ويلتقون مجموعات وأشخاصا يمتهنون العمل في تهريب الآثار

ولهذا، بحسب الشوحان، فإن إتمام الصفقة لا يتم بشكل مباشر على الصفحة "وإنما عبر المحادثات أو عن طريق أرقام الاتصال". ويعلق على ذلك الباحث عدنان المحمد بقوله "يقوم مالك القطعة الأثرية، بعرضها من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، ويكتب اسمه عليها، وتبدأ عملية تقييمها من حيث السعر، حيث تخضع تلك القطع لمزاد عبر مواقع التواصل، وفي النهاية يوضع سعر نهائي لها". ويؤكد "هنا لا يمكن التحقق من مكان استخراج تلك القطعة ولكن هي سورية بالتأكيد، وبذلك تضيع تلك القطعة". في حين يرى الدكتور أنس الخابور، مدير متحف الرقة (سابقا)، أن شبكات التواصل الاجتماعي " تلعب دورا مهما في تسويق الآثار السورية، من حيث تبادل المعلومات والصور والفيديوهات للقطع المسروقة".

وعن الجهات المنظمة التي ترتبط بالخارج يرجح الباحث المحمد "هي مجموعات عابرة للحدود خارجيا وداخليا، لهم اتصالات دولية، ويلتقون أيضا على الأراضي السورية، ويستخدمون طرقا بدائية أحيانا للعثور على الآثار، كما السويدا الشمالية في شمال حلب، وفي جرابلس". ويؤكد أن "البعثات الأثرية الأجنبية متورطة في سرقة الآثار السورية". ومن جهته يقول أنس الخابور إن "مافيا التهريب قد تكون استخدمت معرفة البعض من ضعاف النفوس من السكان المحليين لتحديد المواقع التي يمكن استهدافها ونهبها".

ويكشف الدكتور نظير عوض أن الاتجار بالقطع الأثرية والتراث الثقافي السوري، "ليس عملا فرديا"، مشيرا إلى أن وراء الاتجار بالقطع الأثرية وأسواق تصريفها، "تقف جهات دولية، تريد تدمير التراث الأثاري السوري".

ويذكر الخابور أن الدول الأكثر شراء وتسهيلا لنهب الآثار السورية، المملكة المتحدة واليابان والولايات المتحدة الأميركية.

وخلال الخمس عشرة سنة الأخيرة، ظهرت عائلات جديدة ذات نفوذ كبير خصوصا في تأثيرها على الجماعات المسلحة تشارك بشكل مباشر أو كميسرين في أعمال التنقيب ونهب المواقع الأثرية والاتجار بالآثار.

فهل هناك خبراء آثار متخصصون ساهموا ويساهمون في إرشاد لصوص الآثار على المواقع الأكثر جذبا؟ وهل هناك خبراء من دول عربية وأجنبية ساهموا في المساعدة على التنقيب عن الآثار بطرق غير شرعية؟

الدكتور محمد نظير عوض مدير الآثار والمتاحف في سوريا

يجيب البروفسور يوسف كنجو، مدير الآثار والمتاحف الأسبق بحلب "لا يوجد خبراء (علماء) آثار"، ويوضح "يوجد تجار آثار يمتلكون خبرة بالمواقع الأثرية السورية ويطلبون قطعا أثرية من مواقع محددة"، ويؤكد "هناك تجار من دول عربية وأجنبية من لبنان وتركيا خاصة".

بيمنا للباحث عدنان المحمد، رأي أخر إذ يقول "هناك مجموعات متخصصة على مواقع التواصل، تضم من يسمى متخصصين بالآثار السورية، تضم هذه المجموعات بائعي القطع الأثرية وهواة الآثار من مناطق مختلفة من العالم"، ويشير المحمد إلى أن هؤلاء "يقدمون خدمات بعضهم الى بعض، من حيث تقييم القطة الأثرية وتقدير سعرها، أو تأمين تاجر لشرائها".

تعد تركيا ممرا، وبحكم موقعها، فيها شبكات تهريب آثار عالمية بين أوروبا وآسيا، حيث تنشط فيها تجارة الآثار

وعن استعانة مافيا تهريب الآثار بخبراء مختصين لتحديد المواقع الأثرية الأكثر فائدة لتلك العصابات، يقول الآثاري ياسر الشوحان: "بالتأكيد، استعانت هذه الشبكات بأصحاب الاختصاص من الذين جندتهم الفصائل أو القوات العسكرية، مثل علماء الآثار أو الجيولوجيين أو خبراء مسح الأراضي والرسامين، كما استعانت تلك الفصائل العسكرية أيضا بلصوص الآثار سابقا والذين أصبحوا أصحاب خبرة ومرجعية لدى هذه القوات، وربما كان هناك من يتعاون مع تلك المجموعات بهدف الحصول على بعض المال من خلال تقديمه بعض المعلومات". في المقابل يرى أنس الخابور "أن العديد من علماء الآثار السوريين كرسوا جهودهم لحماية قطاع الآثار"، لافتا إلى أن مافيا التهريب "استخدمت معرفة البعض من ضعاف النفوس من السكان المحليين، الذين لهم معرفة بالمواقع الأثرية التي يمكن استهدافها ونهبها".

خطوط التهريب... دول العبور

اعتمد مهربو الآثار في سوريا على شبكة من الطرق تقود إلى دول الجوار، يمكن أن نطلق عليها "دول العبور" التي تمر بها القطع الأثرية المهربة المتجهة إلى الخارج، حيث هناك حزمة الطرق السرية والعلنية التي يستخدمها مهربو الآثار من أجل نقلها إلى خارج البلاد

الآثاري الدكتور فاروق إسماعيل

وبالنسبة إلى الدول، بحسب الباحث عدنان المحمد، "تعد تركيا ممرا، وبحكم موقعها، فيها شبكات تهريب آثار عالمية بين أوروبا وآسيا، حيث تنشط فيها تجارة الآثار بشكل كبير، والقطعة الأثرية التي تخرج من سوريا تمر إلى تركيا"، ويلفت إلى أن "المتاحف التركية، فيها قسم خاص للآثار السورية المصادرة خلال الحرب، يحتوي على 16- 20 ألف قطعة أثرية".

ويكشف المحمد في حديثه الى "المجلة" أن "هناك مافيات كبيرة في تركيا متخصصة في تهريب الآثار السورية إلى الأسواق الخارجية"، مشيرا إلى أن هناك "شبكات إيرانية تنشط بالتهريب في كل دول العالم، وكانت تعاونها الميليشيات الإيرانية في سوريا". ويضيف "كان لبعض المجموعات في لبنان دور كبير في عملية تهريب الآثار السورية".

 وعن تكلفة نقل القطعة الأثرية من الداخل السوري إلى الخارج، وتزوير الأوراق والمستندات الخاصة بالقطع الأثرية، يشرح المحمد: "تكلفة نقل القطعة الأثرية من سوريا إلى بريطانيا بحدود 1500 دولار أميركي، إضافة إلى 1500 دولار أجور تزوير الأوراق والمستندات، حيث تتضمن الأوراق المزورة وثائق تثبت أن القطع الأثرية تعود إلى عام 1970، وبالتالي لا يحق للحكومة السورية المطالبة بها". ويوضح "في تركيا كانت الشبكات تقوم بالتزوير أيضا... من خلال استخدام الأختام السورية الخاصة بتلك العمليات". وبسبب المراقبة المستمرة لحركة النقل البينية مع دول جوار سوريا، يعمد المهربون إلى اتباع أساليب كثيرة للتهريب.

ويستعرض ياسر الشوحان، أهم طرق التهريب من سوريا إلى خارج الحدود، حيث يؤكد أن هناك طريقا لا يتحدث عنه أحد من المختصين  هو "طريق التهريب إلى إسرائيل والذي قد يكون من طريق المرور بالأردن". ويضيف: "رصدت حالات كثيرة منها إخفاء قطع ذهبية صغيرة في علب المربيات أو العسل أو الزيت، أما القطع الأثرية الصغيرة فتوضع في أكياس الفحم والبصل وعلب المناديل الورقية ومعاجين وسوائل التنظيف".

تصل الآثار السورية المهربة إلى الأسواق العالمية مثل بعض الدول العربية، وإسرائيل ودول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا والولايات المتحدة واليابان

وتجدر الإشارة إلى أن عمليات التهريب المعكوسة تجري في معظمها بإشراف أشخاص متنفذين أو ممن لهم السلطة في النقل والحركة وعدم التفتيش. ويلفت الشوحان الى أنه رصدت بعض الحالات المعكوسة "كتهريب قطع أثرية من العراق إلى سوريا حيث القرى والبلدات القريبة من المعابر الحدودية مثل البوكمال، بالإضافة إلى نقطة العبور من لبنان إلى سوريا من خلال منطقة العريضة بالقرب من حمص".

مسارات خفية

بالرغم من الاختلافات الكثيرة في طرق التهريب الفرعية المتبعة من قبل المهربين، إلا أن هناك اتفاقا كاملا على أن المنطقة الأنشط في نقاط التهريب ونهب الآثار، بحسب الشوحان، "تبدأ من شرق إدلب ثم إلى جنوب حلب وشرقها نزولا إلى الرقة باتجاه الجنوب الشرقي مع محاذاة نهر الفرات، ثم صعودا إلى الطريق الدولي (M4) وحتى مدينة القامشلي الواقعة على الحدود التركية في أقصى الشمال السوري، كما تشكل البلدات والقرى الحدودية السورية ـ التركية أهمية كبيرة للمهربين".

ومن المحتمل أن هناك الكثير من الطرق التي يتبعها المهربون باعتبار أنها طرق "آمنة" على حد قولهم أو "مؤمنة" من خلال مراقبين محليين مدنيين، أو طريق تهريب "مفتوح" عند الاتفاق مع النقاط العسكرية مع حصول الأخيرة على نسبة من أعمال التهريب أو أجور محددة.

ويواصل الشوحان حديثه عن أهم الطرق التي يسلكها المهربون إلى خارج سوريا، والتي تبدأ من "أطمة وسرمدا في شمال إدلب ـ الريحانية ومنها إلى أنطاكية ثم أضنة. وكذلك من منطقة شمال حلب ومحيط منبج واعزاز ـ باب السلام ـ كلس ومنها إلى غازي عينتاب". أما بالنسبة إلى مدينة دير الزور فيبدأ الطريق "من دير الزور إلى الرقة، ومنها إلى تل أبيض وصولا إلى أورفة". ويتابع الشوحان: "هناك طريق آخر من دير الزور في اتجاه الشدادي، إلى مدينة الحسكة، ومن ثم إلى مدينة رأس العين الحدودية مع تركيا وصولا إلى أورفة. وهناك طريق آخر يتجه إلى المالكية، القريبة من الحدود التركية، ومنها إلى ديار بكر في تركيا".

وبحسب الشوحان هناك طرق أخرى للتهريب: "يبدأ الطريق من إدلب إلى سرمدا، أنطاكية، غازي عينتاب أو مرسين ومدن جنوب غرب تركيا". ولكن بالرغم من اتباع المهربين طرقا رئيسة ونظامية أحيانا من خلال الاتفاق مع قادة الفصائل العسكرية، فقد هربوها بأنفسهم ايضا باتباع طرق أكثر وعورة وخطورة هي الدروب الجانبية أو في ما بين الأحراش والبساتين". ويتحدث الشوحان مفصلا الطرق التي يسلكها مهربو القطع الأثرية، قائلا: "طريق دير الزور (طريق الجزيرة)، يبدأ من جزرة ميلاج باتجاه معمل القرميد ـ المشلب ـ العبارة ـ خنيزير ومنطقة (أبو شارب ـ الكالطة ـ الغازلي ـ ومنها إلى مفرق تل تمر الحسكة الرقة ـ البيضاء ـ الشركراك) ـ في اتجاه عين عروس ـ تل أبيض ـ آقجقلة ـ ومنها إلى تركيا".

ويتعمد المهربون سلوك طرق طويلة للتمويه، كما يقول مدير متحف دير الزور، "كالطريق الذي يبدأ من دير الزور (طريق الشامية) ـ الميادين ـ بلدة الصالحية ـ وادي صواب ـ كم صواب (Camp) في البادية السورية ـ شمال مخفر الهجانة ـ محاذاة معبر الوليد ـ سبع بيار ـ أبو الشامات ـ الضمير (منطقة مقالع حجر) ـ نجها ـ قطنا ـ ومنها إلى الحدود اللبنانية ومنها إلى راشيا لبنان".

وبذلك تصل الآثار السورية المهربة إلى الأسواق العالمية مثل بعض الدول العربية، وإسرائيل ودول الاتحاد الأوروبي، وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية واليابان، التي شهدت أسواقها أكبر تجارة للتحف السورية.

font change