نموذج الإمارات الاقتصادي... دروس في التنويع والابتكار والتنمية

76,5 في المئة مساهمة القطاعات غير النفطية في الناتج المحلي في 2024 والفائض التجاري 134 مليار دولار

أ.ف.ب.
أ.ف.ب.
متحف المستقبل في إمارة دبي، 7 فبراير 2022

نموذج الإمارات الاقتصادي... دروس في التنويع والابتكار والتنمية

أثبتت دولة الإمارات العربية المتحدة على مدى عقود خلت حيويتها في إنجاز متغيرات اقتصادية وتكنولوجية ثم اجتماعية منذ بداية تأسيسها. توحدت الإمارات السبع، أبو ظبي، دبي، الشارقة، رأس الخيمة، عجمان، أم القيوين، والفجيرة في 18 يوليو/تموز 1971، وأعقب ذلك في الثاني من ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه، إعلان قيام دولة الإمارات العربية المتحدة.

كانت بريطانيا قد أعلنت عزمها الانسحاب من منطقة الخليج العربي منذ مطلع عام 1968، لذلك سارعت في منح دولة الإمارات استقلالها في عام 1971. في ذلك العام لم يتعد عدد السكان 232 ألف نسمة متركزين في أبو ظبي ودبي، حيث كانت أعداد السكان في بقية الإمارات متواضعة أو صغيرة. كان المواطنون يشكلون كتلة سكانية وازنة آنذاك، وكان النفط قد بدأ يلعب الدور المحوري في اقتصادات الدولة، حيث بدأ الإنتاج في إمارة أبو ظبي. لم تكن القطاعات الاقتصادية غير النفطية ذات أهمية ومنها التجارة والزراعة وصيد الأسماك. وقد عزز استقلال البلاد الاهتمام بتطوير البنية التحتية وأنظمة الرعاية الصحية والارتقاء بالتعليم، بالإضافة إلى تمكين السكان من التمتع بخدمات الكهرباء والحصول على المياه العذبة التي تنتجها محطات التقطير المستحدثة.

تحولات ديموغرافية واقتصادية

أجري أول تعداد رسمي للسكان في دولة الإمارات عام 1975، حيث تبين أن عدد السكان الإجمالي ارتفع منذ عام 1971 إلى 558 ألف نسمة بعد تدفق العمالة الوافدة التي قدمت للعمل في مختلف القطاعات الاقتصادية، في المنشآت الحكومية والخاصة. وقدر الناتج المحلي الإجمالي في عام 1975 بنحو 58,3 مليار درهم إماراتي أو 16 مليار دولار. ويقدر الناتج بـ550 مليار دولار في السنة الجارية. لكن أعداد السكان ارتفعت إلى مستوى قياسي وتقدر هذا العام بـ10,4 ملايين نسمة، وفقا لتقديرات الأمم المتحدة، يمثل المواطنون ما لا يزيد على 12 في المئة منهم.

تمكنت الإمارات من رفع مساهمة مختلف القطاعات غير النفطية حيث بلغت 76,5 في المئة من قيمة الناتج المحلي الإجمالي، في حين ساهم القطاع النفطي بنسبة 23,5 في المئة خلال عام 2024

لا شك أن دولة الإمارات تتمتع بمساحة جغرافية واسعة وإمكانات طبيعية وثروات نفطية تستوجب بذل جهود لتثمير هذه الثروات. هكذا سعت الإمارات لاستقطاب العمالة من مختلف الجنسيات، وخصوصا العمالة الآسيوية. كما أن أعدادا من الوافدين تمكنوا من بناء مصالح خاصة تمثلت بشركات صناعية صغيرة أو متاجر للسلع وتوسعوا في إقامة المنشآت الخدمية في مختلف الإمارات داخل الدولة. وعزز الآسيويون علاقاتهم مع أبناء الإمارات وتمكنوا من الاستفادة من العلاقات القديمة التي تكرست على مدى القرون الماضية، خصوصا بين الإمارات والهند وإيران، وسرعان ما أسسوا وتملكوا شركات كبرى في مختلف القطاعات ولا سيما العقارية والتجارية والسياحية والخدماتية. 

نجاحات مهمة في التنويع الاقتصادي

لكن الإمارات لم تتوقف منذ عهد الراحل الشيخ زايد عن تطوير قدراتها على إحداث التغيير وتعزيز فرص التنويع الاقتصادي خلال رحلة التنمية التي تجاوزت نصف قرن الآن. تمكنت الإمارات من رفع مساهمة مختلف القطاعات غير النفطية حيث بلغت 76,5 في المئة من قيمة الناتج المحلي الإجمالي، في حين ساهم القطاع النفطي بنسبة 23,5 في المئة خلال عام 2024. يضاف إلى ذلك معدل النمو الاقتصادي الذي بلغ 3,8 في المئة خلال العام المنصرم. وتعمل دولة الإمارات على تطوير الطاقة النظيفة والمتوافقة مع معايير حماية البيئة التي يمكن توظيفها لتوليد الكهرباء. ووفقا لتقرير صادر عن وزارة الاقتصاد في ديسمبر/كانون الأول 2024، توزعت مساهمات القطاعات الاقتصادية غير النفطية كالتالي: الأنشطة المالية والتأمين 12,5 في المئة، أنشطة النقل والتخزين 8,4 في المئة، التشييد والبناء 5,3 في المئة، والسياحة 12,1 في المئة.

رويترز
إماراتي يقوم بتجربة "جوبي دبي"، التاكسي الجوي الذي ينقل الركاب من دون سائق، 30 يونيو 2025

وواصلت الحكومة تشجيع الإمارات السبع على تعزيز مساهمة القطاعات الحيوية وذات الميزات النسبية للارتقاء بدورها في بناء قاعدة اقتصادية متينة ومتحررة من الاعتماد على القطاع النفطي.

تميز إقليمي ودولي للسياحة في الامارات

معلوم أن الإمارات، مثل دول الخليج الأخرى، تعاني من مناخ صعب حيث تصل درجة الحرارة في مختلف مناطقها خلال شهور الصيف الطويلة إلى ما يقارب الخمسين درجة مئوية. لكن على الرغم من هذا المناخ الحار، تمكنت الإمارات من جذب الملايين من السياح، وازدهرت مطاراتها بالقادمين من دول الخليج ومختلف الدول الأجنبية.

تشير التوقعات الرسمية في الإمارات إلى أن استراتيجيا الحكومة تهدف إلى رفع مساهمة السياحة إلى 450 مليار درهم أو 123 مليار دولار في الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2031. وتشير البيانات الرسمية المتاحة إلى أن قطاع السياحة حقق 236 مليار درهم أو 64 مليار دولار في عام 2024.

تتفاوض الإمارات مع نحو 18 دولة لإبرام اتفاقات بشراكة اقتصادية شاملة، ونعمل لاستئناف المفاوضات رسميا مع الاتحاد الأوروبي لتوقيع اتفاقية شراكة، والوصول بالتجارة الخارجية غير النفطية إلى تريليون دولار بحلول عام 2027

وزير الدولة للتجارة الخارجية الدكتور ثاني بن أحمد الزيودي

وأكد المنتدى الاقتصادي العالمي أن دولة الإمارات حلت في المرتبة الأولى اقليميا في ميدان السياحة، والمرتبة 18 على مستوى العالم. وتذكر بيانات الطيران المدني أن البلاد استقبلت 29 مليون زائر خلال العام المنصرم. لا شك أن هذه الوقائع مثيرة للإعجاب حيث لا تزال دول أخرى أكبر في المنطقة من حيث الحجم السكاني والمساحة الجغرافية والميزات النسبية لقطاع السياحة فيها، بعيدة عن تحقيق مثل هذه النتائج المميزة.

.أ.ف.ب
باخرة سياحية إيطالية خلال مرورها بمدينة دبي، 4 يناير 2025

لا شك أن الانفتاح والتسهيلات اللوجستية وإقامة العديد من الفاعليات التجارية والثقافية عززت مكانة الإمارات على خريطة العالم السياحية. وفي دلالة على التقدير الأممي لدور الإمارات في تنمية السياحة، قرر المجلس التنفيذي للسياحة التابع للأمم المتحدة ترشيح شيخة النويس من الإمارات لتولي منصب الأمين العام الجديد لمنظمة السياحة الدولية اعتبارا من عام 2026، وهي في المناسبة أول امرأة تتولى هذا المنصب في تاريخ المنظمة.

تطور التجارة الخارجية

تساهم التجارة الخارجية بشكل أساسي في الحياة الاقتصادية لدولة الإمارات، التي لا تتوانى عن تطوير علاقاتها التجارية مع شركائها التقليديين وإقامة علاقات استراتيجية مع شركاء جدد، مع الحفاظ على علاقات تجارية واقتصادية متوازنة مع الدول الرئيسة الفاعلة في التجارة الدولية. وبحسب وزير الدولة للتجارة الخارجية، الدكتور ثاني بن أحمد الزيودي، تتفاوض الإمارات مع نحو 18 دولة لإبرام اتفاقات "بشراكة اقتصادية شاملة". كما أكد الزيودي السعي لاستئناف المفاوضات رسميا مع الاتحاد الأوروبي لتوقيع اتفاقية شراكة، والوصول بالتجارة الخارجية غير النفطية إلى 4 تريليونات درهم أو تريليون دولار بحلول عام 2027. ووفقا للبيانات الرسمية، حقق الميزان التجاري فائضا بـ134 مليار دولار عام 2024، وبلغت صادرات الإمارات السلعية 603 مليار دولار في العام نفسه. كما بلغ حجم تجارة الإمارات في قطاع الخدمات 282 مليار دولار،  62,4 في المئة منها صادرات خدمية.

"مئوية الإمارات 2071"

لا شك أن الإمارات نجحت في وضع الأسس السليمة لتنويع قاعدتها الاقتصادية والارتقاء بنوعية الحياة وتحسين المستويات المعيشية في إماراتها كافة. يعد اقتصاد الإمارات الأسرع نموا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتتبنى الدولة رؤية "مئوية الإمارات 2071" التي تعتمد على تعزيز دور القطاع المالي الذي يعتبر راهنا الأسرع تطورا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أضف إلى ذلك المصارف الوطنية التي لديها ثقل مهم في القطاع المصرفي العالمي. وتسعى البلاد إلى تشجيع الابتكار وتوظيف أموال مهمة في أنشطة الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي والمشاريع المتصلة، منها مشروع مدينة دبي الذكية، وكذلك في قطاع الطاقة الذي يضم مشروعات كبيرة منها مشروع الطاقة الشمسية في أبو ظبي.

تمثل الإمارات حاليا نموذجا اقتصاديا ملهما للعديد من الدول النامية أو تلك الدول التي تحاول تحرير اقتصاداتها من الاعتماد على مصدر واحد، مثل النفط في دول الخليج وعدد آخر من الدول العربية. لا شك أن التطورات الاقتصادية في البلاد تؤكد أهمية التحول إلى اقتصاد المعرفة القائم على الاقتصاد الرقمي وتفعيل التنمية البشرية بما يرتقي بقدرات المواطنين المهنية خلال السنوات المقبلة.

font change