الوقت يداهمنا، فإيران التي كانت لعقود تتصرف كمزعزع لاستقرار المنطقة باتت مقيدة اليدين، وتُتاح حاليا فرصة تاريخية لترسيخ هذه الخريطة الجديدة للشرق الأوسط كحقيقة دائمة. غير أن التفوق العسكري الساحق لإسرائيل على إيران، المتمثل في إضعاف "حزب الله"، وتدمير "حماس"، وتقويض الحوثيين، وانكفاء سوريا كحليف استراتيجي، دفع القيادة الإيرانية إلى الإقرار بأن امتلاك السلاح النووي أضحى خيارا لا مفر منه لاستعادة التوازن العسكري مع إسرائيل. وعليه، يتوجب الاستدلال على أن النظام الإيراني يعمل حاليا على إعادة تشكيل "الحرس الثوري" و"فيلق القدس" ووكلائه، مع توقعات كبيرة بأن يشرع في تخصيب اليورانيوم سرا لإعادة بناء برنامجه النووي المنهار.
عبر مياه الخليج العربي، تبرز اليوم فرصة استثنائية للدول العربية لم تكن واردة قبل أكتوبر/تشرين الأول 2023. فإيران تعيش أضعف لحظاتها الاستراتيجية منذ عقود، ورغم تمسك النظام بمقاليد الحكم، فإنه منشغل بالملاحقات الداخلية وقمع الأصوات المعارضة تحت حجة "ملاحقة العناصر العميلة لإسرائيل". في هذا السياق، يتعين على دول الخليج العربي استثمار هذه اللحظة التاريخية عبر معالجة جذرية لقضيتين إقليميتين عالقتين منذ زمن:
أولا: يتطلب الأمر قيادة حثيثة لوضع رؤية شاملة لإنهاء الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني في غزة. فبينما تمتلك الولايات المتحدة نفوذا لإقناع إسرائيل بوقف العمليات العسكرية، يبقى التحدي الأكبر في غياب رؤية إسرائيلية واضحة لمرحلة ما بعد وقف إطلاق النار. إن أي تأخر في صياغة حل سياسي شامل للقضية الفلسطينية لن يؤدي فقط إلى إعادة إحياء الميليشيات المدعومة إيرانياً، بل سيشكل أيضا عائقا أمام تحقيق الهدف الاستراتيجي الثاني.
ثانيا: يتعين على دول الخليج العربي تبني استراتيجية دفاعية شاملة وجريئة تقوم على إعادة هيكلة الأنظمة العسكرية القائمة، بهدف بناء رادع عربي متكامل قادر على مواجهة التهديدات الإيرانية المحتملة. ويجب أن ترتكز هذه الاستراتيجية على الدروس العميقة المستخلصة من النجاح الإسرائيلي في تحقيق أهدافه خلال الحرب السريعة عام 2023، وكذلك على التكتيكات المبتكرة التي أثبتت فعاليتها في التجربة الأوكرانية.
من خلال تنفيذ هذين المسارين بجدية والتزام كامل فحسب، ستتمكن دول الخليج العربي من سد الطريق أمام أي محاولات إيرانية لاستعادة نفوذها الإقليمي المهيمن.
كيف وصلنا إلى هذه اللحظة؟
أعادت التطورات التي تلت السابع من أكتوبر /تشرين الأول رسم ملامح الشرق الأوسط بصورة جذرية، حيث أسفرت عن تغيّر كبير في ميزان القوى، متجهة بعيدا عن إيران ووكلائها ضمن ما يُعرف بـ"محور المقاومة". فقد تمكنت إسرائيل من تحييد القدرات العسكرية لحركة "حماس" بشكل تام، حتى باتت غير قادرة على تشكيل أي تهديد، كما وجّهت ضربة قاصمة للبنية القيادية لـ"حزب الله"، وحيّدت ترسانته الصاروخية المتطورة قبل أن يتم استخدامها.
وقد تميزت العمليات الإسرائيلية باختراق استخباراتي غير مسبوق داخل صفوف "حزب الله"، عبر ضربات دقيقة استهدفت شبكاته اللوجستية وأنظمة اتصاله، وأدّت إلى تصفية قياداته العليا، ما كشف مدى تغلغل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية في شبكة القيادة والسيطرة. وكانت النتيجة أن فشل "حزب الله" في إطلاق أي صاروخ نحو إسرائيل خلال الحرب التي استمرت اثني عشر يوما مع إيران.