في السادس من يونيو/حزيران 1967، خلال اليوم الثاني من حرب الأيام الستة، وبعد ساعات فقط من توجيه سلاح الجو الإسرائيلي ضربة قاصمة لنظيره المصري، اعترضت وحدة إسرائيلية صغيرة مكالمة هاتفية محورية جمعت بين الرئيس المصري جمال عبد الناصر وعاهل الأردن الملك حسين.
خلال المكالمة، زعم ناصر كذبا أن الطائرات المصرية كانت تضرب أهدافا إسرائيلية، وحث الأردن على تصعيد النزاع، في ما بدا أنه محاولة لتخفيف الضغط الإسرائيلي المتزايد على القاهرة. كما اتفق الزعيمان على تداول رواية ثانية أكثر جرأة، مفادها أن طائرات بريطانية وأميركية كانت تشارك في الهجوم على مصر، لتأطير الحرب الإقليمية كصراع عالمي.
سُرعان ما جرى بث هذه الرواية عبر المحطات الإذاعية في القاهرة وعمان ودمشق، ثم وصلت أصداؤها إلى موسكو، حيث كرر السفير المصري لدى الاتحاد السوفياتي الادعاء ذاته، على الأرجح في محاولة لدفع الاتحاد السوفياتي إلى التدخل، تماشيًا مع اتفاقية الدفاع المصرية-السوفياتية التي تنص على تدخله إذا انخرطت الولايات المتحدة في الحرب إلى جانب إسرائيل.
وبعد تردد كبير من وزير الدفاع الإسرائيلي وقتها موشيه دايان، وعلى الرغم من اعتراض رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية، اتخذ الوزير قرارا جريئا، وبثّ محتويات المكالمة عبر الراديو العسكري الإسرائيلي، بعد ساعات قليلة من اعتراضها.
كان قرار دايان المرة الأولى التي تكشف فيها إسرائيل علنا عن اتصالات تم اعتراضها، مما أظهر قدرات جهاز استخبارات الإشارة لديها، رغم ما شكله ذلك من تهديد لسرية عمليات مستقبلية. كما شكّل هذا الكشف أول نجاح علني كبير لوحدة كانت قد أسست حديثا في وقتها، ولكن ذات أهمية متزايدة ضمن مديرية المخابرات العسكرية الإسرائيلية (أمان)، عرفت باسم "الوحدة 515". وكانت مهمة الوحدة الأساسية جمع معلومات الاستخبارات الإشارية (SIGINT)، ثم خضعت لتسميات متعددة وتوسعت تدريجيا لتشمل مجالات متقدمة مثل الحرب السيبرانية.
وفي تجسدها الأخير، تُعرف الوحدة عامّيًا بالعبرية باسم "شمونة ماتايم" أو "8200"، وهي اليوم تشكل قلب الآلة العسكرية الإسرائيلية، ويُنسب إليها الفضل في عدد من أبرز إنجازات الجيش الإسرائيلي، ولكن أيضا بعض أكثر إخفاقاته تأثيرا.
بدايات متواضعة
لم تكن الوحدة 8200 تُشبه القوة العظمى التي باتت عليها اليوم. قبل سنوات قليلة من اعتراض المكالمة بين الرئيس جمال عبد الناصر والملك حسين، كانت الوحدة 515، كما كانت تُعرف حينها، قد نجحت في فك شيفرة الاتصالات بين ناصر وصديقه المقرب ونائبه المشير عبد الحكيم عامر. وقتها لم تُعَر تلك المعلومات أهمية، مما أدى إلى ضياع فرصة استخباراتية حاسمة كان من شأنها أن تكشف مناورات الجيش المصري في سيناء خلال الستينات. لم تكن الوحدة تحظى بالسمعة التي تتمتع بها اليوم، كما كانت إسرائيل لا تزال تعتمد إلى حد كبير على الاستخبارات البشرية بدلا من الاستخبارات التقنية.
أما بدايات الوحدة فكانت متواضعة، إذ نشأت كخلية اعتراض صغيرة مسؤولة عن مراقبة الاتصالات العسكرية خلال فترة الانتداب البريطاني. وبعد قيام دولة إسرائيل، أُضفي الطابع الرسمي عليها لتُعرف باسم "شيروت موديعين-2" أو "شين ميم-2". ورغم انضمامها إلى الجيش الإسرائيلي، بقيت الوحدة آنذاك ظلا باهتا لما ستغدو عليه لاحقا، حيث كانت تعمل من مبنى صغير مكوّن من طابقين في مدينة يافا، ثم بدأت بالتوسع تدريجيا لتشغل المباني المجاورة.
وفي وقت لاحق، جرى تخصيص الطابق الأرضي من المبنى لاستقبال أول حاسوب من طراز "IBM" يدخل الخدمة في الوحدة، وقد استخدمه "فريق فك الشيفرات" في مهامه المتعلقة بتحليل الرموز المشفّرة. قبل ذلك، كان الفريق يعتمد على الورق والقلم في إنجاز عمله، إلى أن أُدخل الحاسوب كأداة مركزية في العمليات. وقد خضعت هذه الأجهزة لاحقا لتحديثات وتعديلات بمبادرة من معهد وايزمان، في واحدة من أولى المحاولات لتطويع التكنولوجيا الغربية وفق احتياجات الوحدة وبصمتها المحلية. ومع ذلك، كانت تلك المرحلة لا تزال بعيدة عن "أيام المجد" التي شهدت تحوّل الوحدة إلى الأكبر في الجيش الإسرائيلي. ففي أوائل الستينات، حين أنشئ أول مختبر تقني تابع للوحدة، لم يكن له مكان سوى مطبخ أحد المنازل في يافا.