ثقافة فرنسية... تحت قِدر التطرف

ثقافة فرنسية... تحت قِدر التطرف

استمع إلى المقال دقيقة

في 1798 احتل نابليون مصر، وكان قدومه بداية لصدمة الحداثة، حين انهارت قوات المماليك أمام عدد أقل منهم، في ظل انتشار الطرق الصوفية المطمئنة للجمهور بأن مصر محروسة، وأن الله عز وجل يحميها. هذا التلاقي مع الغرب كانت له تبعات فكرية هائلة سيما وأن فرنسا كانت قد قامت بثورتها المدوية في قلب أوروبا في 1789 وصارت لتلك الثورة أبعاد سياسية وفكرية مشحونة ضد الملوك واعتبارهم علامة على الماضي والقرون الوسطى.

وصارت فرنسا مقصدا للمثقفين، فكتب رفاعة الطهطاوي كتابه الشهير "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" وقد أعجب بفرنسا بعد أن زارها وأثنى فيه عليها، وكان مما وصفه من حالها اعتباره باريس حينها أعلى قمة التقدم الإنساني، فكتب: "الذي يظهر لمن تأمل في أحوال العلوم والفنون الأدبية والصناعة في هذا العصر بمدينة باريس أن المعارف البشرية قد انتشرت وبلغت أوجّها بهذه المدينة، وأنه لا يوجد من حكماء الإفرنج من يضاهي حكماء باريس بل ولا من الحكماء المتقدمين كما هو ظاهر أيضا"، وكانت الجمهورية محل إعجاب، فسجل في كتابه عن نظامها السياسي: "كل واحد منهم متأهل لأخذ أي منصب كان وأي رتبة كانت"... "لا يمنع إنسان في فرنسا أن يظهر رأيه وأن يكتبه".

كانت مصر الملكية حينها قد بدأت تتأثر فكريا وثقافيا بفرنسا وبقي ذلك بعد انسحاب فرنسا من مصر، وتجلى ذلك في ثورة عرابي سنة 1881 وتضمنت المطالبة بإنشاء مجلس نيابي على النسق الأوروبي، وفي الجمهورية الفرنسية نفسها كان محمد عبده وجمال الدين الأفغاني قد أصدرا جريدة "العروة الوثقى" في 1884، وتأثر محمد عبده بفرنسا بدرجات متفاوتة انعكست على تأويلاته للنصوص الدينية، ثم كان التأثير بغيرهما، كمحمد رشيد رضا الذي التقى محمد عبده في بيروت، وتأثر كذلك عبد الرحمن الكواكبي فأصدر كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" في القاهرة في 1902، الذي مدح الفرنسيين في كتابه فقال: "فئة اتبعت أثر النبيين، ولم تحفل بطول الطريق وتعبه، فنجحت ورسخت، وأعني بتلك الفئة أولئك الحكماء الذين لم يأتوا بدين جديد، ولا تمسكوا بمعاداة كل دين كمؤسسي جمهورية الفرنسيس، بل رتقوا فتوق الدهر في دينهم، بما نقحوا وهذبوا وسهلوا وقربوا، حتى جددوه، وجعلوه صالحا لتجديد خليق أخلاق الأمة".

وكثرت الكتب والترجمات مع بداية القرن العشرين، حتى نشأت في الساحة جماعة جديدة وهي جماعة الإخوان المسلمين التي أسسها حسن البنا، وكانوا في البدايات ردة فعل على التأثر بالأوربيين في مصر، حتى قيل عن القاهرة إنها باريس الشرق الأوسط، فانتقد البنا الحفلات المختلطة، وكان يلبس الطربوش التركي ويتأسف على ضياع (الخلافة) أي حكم الأتراك، لكنه مع الزمن تأثر بمضامين الأفكار الجمهورية، لذا كان مع المشاركة السياسية، وينقد الحكومة ويتهمها بالاستبداد، ويعلي من قيمة الحرية في خطابه. وفي وقت الإطاحة بالملك في مصر كان "الإخوان" عنصرا مفصليا وهاما في التنسيق مع حركة "الضباط الأحرار" التي نجحت في إزاحة الملك فاروق 1952، فاتفق وقتها الهضيبي معهم على ذلك قبل تنفيذ التحرك.

لقد كانت فكرة الجمهورية كذلك حاضرة في ذهن سيد قطب و"الإخوان" عموما لكنهم يلبسونها عباءة من العبارات الدينية مثل تحويل الكلام عن الديمقراطية إلى الشورى

إن السنوات التالية على هذا من كتب سيد قطب، وصدامه مع جمال عبد الناصر، كانت صداما لا يمس الفكرة الأساسية المشتركة من ضرورة الثورة وقلب النظام الملكي إلى جمهوري. لقد كانت فكرة الجمهورية كذلك حاضرة في ذهن سيد قطب و"الإخوان" عموما لكنهم يلبسونها عباءة من العبارات الدينية مثل تحويل الكلام عن الديمقراطية إلى الشورى، فلم يكن غريبا على سيد قطب أن يتهم عثمان بن عفان ومعاوية بن أبي سفيان بالاستبداد إذ ينطلق من تقييم جمهوري في الواقع، لكنه يعطيه مسحة دينية.
إن الفكرة الجمهورية ثورية أثرت بمنطقة لم تكن في اتفاق مع المجتمع الأوروبي، في الدين والعادات والتقاليد وحتى التقدم الاقتصادي والسياسي والنظم السياسية، فكان في استيراد الأفكار الجمهورية آثار كبرى أدت إلى تطرف سياسي، كإفراز للتعامل مع الفكرة الوافدة في منطقة لم تكن قد ألفت غير الحكم الملكي تاريخيا أو ما جد عليها من استعمار، وكانت فكرة الحرية في الكلام السياسي بابا مشرعا لنشر مختلف الأفكار، ومنها ما كان مندرجا في باب التطرف السياسي، كالحركات القومية المتطرفة، أو "الإخوان" وأمثالهما.

font change