الأردن على مفترق اللحظة... بين رهانات الداخل وضغوط الإقليم

إعادة التموضع قادمة لا محالة

الأردن على مفترق اللحظة... بين رهانات الداخل وضغوط الإقليم

استمع إلى المقال دقيقة

في عمّان، لا يقول أحد من المحللين المزدحمين في برامج حوار الفضائيات المحلية، ما يقولونه هم أنفسهم وغيرهم في صالونات "ليالي عمان"، لكن الكل يتحدث بصيغة أسئلة، تحمل كميات هائلة من الهواجس.

المشهد السياسي يبدو ساكنًا، لكنه في جوهره مشحون، كأن الدولة تتحرك بهدوء على تخوم قرارات كبيرة، وحكومة الدكتور جعفر حسان تمضي في مسار اقتصادي تقني، تستند إلى لغة الأرقام، وتفترض صبرًا مجتمعيا نادرا، بينما البرلمان يرفع منسوب التصعيد بالتراشقات العبثية بلا معنى، تحركه موجة متقاطعة من الاحتجاج والاصطفاف السياسي، تتقدّمه بالضرورة جبهة العمل الإسلامي، التي تعود إلى قلب المشهد من باب المواجهة لا المبادرة.

في الخلفية، يغادر الملك في زيارة خاصة خارج البلاد، وتنتشر التسريبات حول تغييرات مرتقبة، قد تطال البنية الأمنية والعسكرية للدولة.

الأحزاب السياسية لا تزال غارقة في تردّدها، عاجزة عن التحوّل إلى أدوات فعل، رغم كل ما قيل عن إصلاح سياسي قادم، وعلى أطراف الجغرافيا المحيطة، يتقدّم الإقليم نحو مزيد من الاشتعال: الجنوب السوري هشّ– كما الدولة السورية ذاتها- والضفة على حافة انفجار مؤجل ومقلق. فهل نحن أمام إعادة تموضع فعلية في الدولة؟ أم إن ما يجري هو محاولة أخرى لامتصاص العاصفة قبل أن تشتد؟

إدارة تكنوقراطية بأدوات سياسية رخوة

رغم ما يبدو من تماسك في خطابها الاقتصادي، فإن حكومة جعفر حسان، تقف على أرض سياسية رخوة، لا يسندها سوى رهان قوي على الثقة الملكية، وبعض الأمل في استقرار اقتصادي مؤجل، وهذا لا ينفي ارتفاع منسوب الأمل لدى الشارع، فيما تحاول الحكومة اجتراحه من إنجازات مبنية على تصحيح "قرارات" كثيرة سابقة، وغالبيتها ارتجالي لم يكن مدروسا بعناية، وتدرك الحكومة أن تصحيح الارتجالي أيضا، فيه مجازفة في زيادة خلخلة المصالح المكتسبة، وزيادة فجوة الثقة بالتماسك المفترض للقرار الحكومي.

سجلت حكومة حسان إنجازا بارزا يُحسب لها في مسار الإصلاح الهيكلي، خصوصا في قطاع الصحة العامة، تمثّل في الاتفاقية التي أُنجزت مع "مركز الحسين للسرطان"، والتي ستُتيح تغطية تأمينية أوسع للمرضى

وبحضور تحديات كثيرة تواجه حكومة حسان، إلا أنها سجّلت في الأسابيع الماضية، إنجازا بارزا يُحسب لها في مسار الإصلاح الهيكلي، خصوصا في قطاع الصحة العامة، تمثّل في الاتفاقية التي أُنجزت مع "مركز الحسين للسرطان"، والتي ستُتيح تغطية تأمينية أوسع للمرضى، وتُعدّ قفزة نوعية في مفهوم الرعاية الصحية العامة، وخطوة أولى يمكن البناء عليها فعليا نحو بناء نظام تأمين صحي شامل وأكثر عدالة.

الاتفاقية لا تتعلق فقط بتوسيع قاعدة التغطية، بل بتغيير فلسفة الدولة في التعامل مع المرض والإنسان، وهو ما لم تُقدِم عليه حكومات سابقة بهذا الوضوح والحسم، وقد عالجت فيه الحكومة لا ملفات المرضى وحسب، بل خللا ماليا وإداريا، استمر طوال عقود في تقديم الرعاية الطبية الضرورية.

لكن الملف الأكثر عمقا في الدولة الأردنية، ويشرف عليه رئيس الوزراء شخصيا باجتماعات لساعات طويلة مع دول وجهات "متخصصة" في الإقليم، وبفريق محدود العدد كثيف الخبرة، عنوانه مشروع "السكك الحديدية الوطنية"، وهو مشروع طموح لا يرتبط فقط بالنقل الداخلي "الذي سيعمل على تغيير هائل في الهندسة الاجتماعية والمدنية والاقتصادية في الأردن" ، بل يتكامل ضمن رؤية إقليمية واسعة تشمل السعودية والعراق والإمارات، ما يجعله جزءًا من هندسة اقتصادية جديدة في المنطقة، والحكومة لا تقدمه كبنية تحتية فقط، بل كممر استراتيجي للاستثمار والتكامل، ويُنتظر أن يكون أحد الأعمدة الأساسية في ربط الأردن بالمشروع الإقليمي الأكبر في الشرق الأوسط الجديد، الذي تعاد صياغته بما يتلاءم مع منظومة علاقات دولية جديدة بالكامل.

البرلمان و"الإخوان".. تصعيد متقطع

على رغم تعطل البرلمان "باستحقاق دستوري تمثل بحل الدورة العادية مايو/أيار الماضي"، وتوقف الأنشطة التشريعية فيه، لكن الثقل السياسي للنواب ظل واضحا في الخطاب الشعبي، بالإضافة إلى حضور فكرة "البرلمان" في تفاصيل المشهد الأمني، بما يتعلق بالتحقيقات الجارية في "جماعة الإخوان المحظورة"، وذراعها السياسية "جبهة العمل الإسلامي"، ويبدو أن عقل الدولة لا يزال يحاول ضبط الإيقاع عبر قناة القضاء والأمن بدل الحل البرلماني المباشر.

محاولات التيار الإسلامي لا تزال "مجتهدة" بإبقاء جبهة المواجهة السياسية مستمرة، لكن عبر التحرك المزدوج في الدخول بمزيج من سياسة المؤسسات و"خطاب الشارع"– خاصة خلال حرب غزة– وهو ما أتاح لها دوما هامشا واسعا في التعبئة الشعبية، ورفع سقف الخطاب، عبر نوافذ الأزمات الإقليمية المؤثرة في الشارع.

رسميا، فإن ما يرشح من مصادر مقربة في أركان الدولة، أن التوافق في قضية الجماعة المحظورة، وما يمكن أن يتفرع عنها من قرارات مصيرية، يقف على الحافة، لكن يظل قرار الحظر بحيثياته والالتزام بالمسار "القانوني" دليلا على أن الدولة مستعدة دوما للتحرك الشرعي والدستوري، بدل التصادم البرلماني المفتوح، وهو ما حفظ لـ"الإخوان" توازنا هشا، فبقي الحزب في المشهد "على قلق مستمر" واعترف بعض رموزه بوجود تغييرات كبيرة في خريطة التمثيل والشرعية السياسية للحزب، وقد يتم– حسب أحد قياداته الحزبية الوازنة- إجراء انتخابات شاملة فيه، تحاول قطع كل اتصال مع الجماعة المحظورة، مع صعوبة إدراك كيف يمكن ذلك!

رغم حل الدورة البرلمانية، وتعطل "الحالة التشريعية لمجلس النواب" فإن المجلس لا يزال له صوته خصوصا عبر الإسلاميين، الذين لا يزالون يواصلون النشاط والتحرك "واللعب" على مفتاح "شرعية الشارع" عبر وسائل الإعلام "غير الأردنية" ووسائل التواصل الاجتماعي

هذا الانفصال الذكي بين الحزبي والمدني، شكّل دلالة على استراتيجية رسمية جوهرها: الإبقاء على النافذة المدنية للحوار، بينما يتم التضييق على التنظيم العقائدي المحظور.

ورغم حل الدورة البرلمانية، وتعطل "الحالة التشريعية لمجلس النواب" فإن المجلس لا يزال له صوته خصوصا عبر الإسلاميين، الذين لا يزالون يواصلون النشاط والتحرك "واللعب" على مفتاح "شرعية الشارع" عبر وسائل الإعلام "غير الأردنية" ووسائل التواصل الاجتماعي، مع ضبط هذا النشاط الموجه عبر تصعيد مضبوط نسبيا، دون الدخول في أي مواجهة مفتوحة، بحيث تكون رسائل الإسلاميين السياسية تصبّ في إطار اختبار الردّ الرسمي، وتلمس حساسياته دون تجاوز "الخطوط الحمراء" وهو ما تطلب تفعيل استراتيجية رسمية مزدوجة، لا يمكن القطع بأبديتها واستمرارها، مفادها التطويع السياسي عبر الإبقاء على الحزب، مع التحجيم الأمني للجماعة المحظورة.

لكن تبقى الأسئلة مفتوحة حول حضور أي تفاهمات سرية غير معلنة بين السلطات الرسمية والتيار الإسلامي، مع الأسئلة "الضرورية" على انعكاسات كل ما يحدث على عملية الإصلاح السياسي، وهل هناك توجه لتغيير قانون الأحزاب في النهاية، وفي حال اخترق التصعيد شرعية "حزب جبهة العمل الإسلامي" هل نشهد انتخابات مبكرة؟

عودة الملك: تحضير لإعادة تموضع؟

منذ تداعيات السابع من أكتوبر/تشرين الأول، لم تعد إجازات الملك من أعبائه الوظيفية والدستورية إجازات عادية، ويعرف الكثيرون من المقربين من صانع القرار "وبرنامج عمله اليومي" أن تلك الإجازات السنوية صارت تشكل جزءا من برنامج العمل في كثير من الزيارات، وحسب الراشح فإن إجازة الملك الحالية، والتي كان يفترض أن تنتهي في الأسبوع الأخير من يوليو/تموز الجاري، قد يتم دمجها بزيارات دولية تم ترتيبها بسرعة، تتماهى مع تسارع الأحداث الإقليمية المحيطة بالأردن، والضاغطة على المشهد بقوة، مثل الأحداث الأخيرة في الجنوب السوري، والتي تتعلق بمناطق الدروز والاشتباكات الدموية، والتدخل الإسرائيلي "الناري" في المشهد السوري الداخلي.

غياب الملك في تلك الزيارات، لا يمكن قراءته بوصفه إجازة عابرة في سياق إقليمي ملتهب، وقد يحمل في طياته حسب الحديث المرتفع في الصالونات "العمانية" هدنة تكتيكية، وقراءة بعقل بارد تسبق قرارات مهمة تعيد ترتيب البيت الداخلي، وهي ترتيبات صار الكل يتحدث عن ضرورتها، إما من ناحية الاستحقاقات الزمنية، وإما من زاوية تغيير الأدوات، بما يتماهي مع المتغيرات الإقليمية المتسارعة، وحساسية الجغرافيا السياسية الأردنية، خصوصا في التهاب خطي تماس مباشرين مع الأردن، في الجنوب السوري من جهة والضفة الغربية التي توشك على الانفجار بسبب سياسات التطرف للحكومة الإسرائيلية، وهي خطوط تماس حساسة للأردن، لا بسبب القرب الجغرافي فقط، بل لأن أي انفجار فيهما قد يُربك الحسابات الأردنية الدقيقة في الإقليم، الذي يعيد تشكيل تحالفاته كلها ببطء، وثقل وحسابات جديدة.

ملخص القول، إن الدولة الأردنية لا تمرّ بحدث عابر، بل تقف على عتبة تحوّل حقيقي، ومنسوب القلق في الداخل مرتفع، والغموض الرسمي لا يهدئه، بل يفتح شهية التأويل، ويغذية موسم الإشاعات الدوري، مع شعور عام وجاد هذه المرة. إن إعادة التموضع قادمة لا محالة، لكن وجهتها ستكون محددة بجرأة القرار، لا بزخم الإشاعة.

font change