درس "بعد 28 عاما" لشباب السينما: لا تصنعوا فيلما عظيما

أصحابه صوروه بكاميرا "آيفون"

ملصق الفيلم

درس "بعد 28 عاما" لشباب السينما: لا تصنعوا فيلما عظيما

لم يكن الفيلم البريطاني "بعد 28 يوما" 28 days later، من تأليف داني بويل وإخراج أليكس غارلاند مجرد فيلم رعب عادي حين عُرض للمرة الأولى عام 2002، ثم حين عُرض من بعد على القنوات التلفزيونية المتخصصة في بث الأفلام الناطقة بالإنكليزية. ربى الفيلم جمهوره الخاص، مجموعة من الشبان أو اليافعين المغرمين بالسينما، وربما بسينما الرعب، ومن بينهم مجموعة أصغر من المنبهرين بقدرة الكاميرات الرقمية، التي وصلت إلى أيديهم حديثا آنذاك قبل الهواتف الذكية بكثير، على جعل الوسيط السينمائي أشد قربا منهم، من عوالمهم بكوابيسها وأحلامها.

بريق

يحتفظ المشهد الافتتاحي ببريقه إلى اليوم، يستيقظ جيم (كيليان ميرفي) وحيدا في مشفى، بعد غيبوبة طويلة، ليجد أن العالم تغير، لسبب لا يستطيع استنتاجه. لا فضائيات ولا إذاعات، لا سكان ولا حضارة، هو وحده عارٍ من كل شيء. يتجول في شوارع لندن المهجورة من كل كائن حي. مشاهد تمنحها كاميرا "كونان" الرقمية على عدم كماليتها، بعدا حيويا وطبيعيا تفتقر إليه صناعة السينما المكرسة. كانت ميزانية الفيلم محدودة، لكن اللجوء إلى الكاميرا الرقمية مثل لصناع الفيلم خيارا أسلوبيا في الأساس، وإن لم يصوروا الفيلم كاملا بها. ظاهريا فقط يحكي "بعد 28 يوما" عن فيروس السُعار الذي انتقل من بعض القردة إلى البشر، وأدى إلى إعادتهم إلى حالتهم البدائية الدنيا، فصاروا هكذا مطلوقين بلا قيد، يمصون دماء بعضهم بعضا، ويتناقلون العدوى كأنما انتقاما. في النصف الثاني من الفيلم، فهمنا الرسالة، يخفي البشر نياتهم بخبث أكبر من المسعورين، ونحن خفنا منهم أكثر مما خفنا من الفيروس.

الفيلم هو على نحو ما، استعارة، لكن أيضا مع الكثير من لحظات التشويق، وحبس الأنفاس، واللهاث مع القطع العصبي، والميل بالرأس مع لقطات الكاميرا المائلة، والاستنفار مع حركاتها المتربصة حينا، والمتهجمة حينا آخر. من دون أن ننسى طبعا الموسيقى الأيقونية لجون ميرفي، التي تُعزف فقط في الربع الأخير من الفيلم. النجاح العالمي غير المنتظر، أدى عام 2005، إلى تنفيذ جزء ثان: "بعد 28 شهرا" بمخرج مختلف ومؤلفين آخرين، أما صاحبا الجزء الأول، فبقيا في مقاعد المنتجين، وربما هناك حلما بمشروعهما الحالي. احتفظ الفيلم بثيمة الفيروس الذي لا يُقهر، لكن استثمر أكثر في فكرة فساد السلطة أو "سُعارها"، حسب مفردات الفيلم. صحيح أن الفيروس يتسلل بطريقة غير متوقعة إلى المنطقة المحمية، لكن الوفيات الكبرى تتسبب بها الحكومة، وهي تدعي تنفيذ خطة التطهير والإجلاء لدواعي الحماية، لا نعرف لأي كيان؟ فيلم رعب جيد، لكنه أقل أهمية وأصالة من الفيلم الأول. ظل يلح علينا بصلة قرابته بالنموذج الأصلي، عبر تذكيرنا بداعٍ وبغير بموسيقى جون ميرفي، فأثبت لنا العكس من حيث لا يدري.

الفيلم هو على نحو ما، استعارة، لكن أيضا مع الكثير من لحظات التشويق، وحبس الأنفاس، واللهاث مع القطع العصبي

اليوم يُعرض الجزء الثالث في السلسلة "بعد 28 عاما". إنما الثاني بحساب أنه من تأليف وإخراج صاحبي الفيلم الأصلي: داني بويل وأليكس غارلاند. هذه المرة يأتي من إنتاج مشترك بين إنكلترا وأميركا وكندا، كما يشارك نجم الفيلم الأول كيليان ميرفي في إنتاجه. أما الميزانية فهي ليست في طبيعة الحال محدودة. والنجاح على الحد الأدنى مضمون. فما الجديد إذن الذي يستدعي هذه العودة؟ صحيح أنها تستهدف أصلا عشاق الجزء الأول والمخلصين له، لكن الفيلم يخاطب في الأساس جمهور اليوم، بشبابه ومراهقيه، إنهم طليعة جمهور السينما شئنا أم أبينا. لم تعد أفلام "الزومبي" التي صُنف إليها الفيلم برغم تحفظ مخرِجه، أفلاما مدهشة. ولم يعد التلويح بالكاميرات الرقمية حيلة دعاية ناجعة. الهواتف الذكية مع كل الناس، بإمكانات غير محدودة لالتقاط الصورة... لكن لحظة، لمَ لا نصوره هذه المرة بكاميرا "آيفون"؟ إنها أقل تكلفة بالطبع، كما يقول مخرج الفيلم في أحد الحوارات المسجلة معه، لكنها أيضا أشد واقعية. الحركة الملتقطة بها تبدو أقرب الى عالمنا، وربما الى الرعب الكامن فيه، وينتظر مَن يكتشفه.

كيليان مورفي في الفيلم

البطل بألف وجه

مع ذلك، يصعب الادعاء بأن سؤال التقنية يسبق سؤال الحكاية في الفيلم. في انقلاب درامي مغامر ربما، يركز الفيلم الجديد "بعد 28 عاما" على الموت، أكثر من الحياة، وأكثر من الفيروس الذي لا نرى علاجا له بعد، على الأقل في هذه البقعة الاسكتلندية. توصل أهل الجزيرة إلى تحصين أنفسهم ضد السُعار، ببناء مجتمع طموح، عصبي إلى حد ما، يحافظ على قوانينه الصارمة. لا أحد يبحث عن المفقودين، ولا اتصال مع البقاع المجاورة. لا علاجات متطورة، لا مشافي. لكن مدارس شبه عسكرية وإذاعات تبث أناشيد غريبة مخيفة تحكي تاريخا بديلا لاسكتلندا، صمدت فيه أمام جحافل المصابين المهاجِمين. لا يُحكى هذا التاريخ بشكل مستقل في الفيلم، إنما بالتوازي مع أحداث حالية. وهي خروج الفتى سبايك (ألفي ويليامز) مع أبيه في رحلة تمهد لطقس العبور، وتحاكيه، في زيارة بعيدا عن الجزيرة، إلى حيث الأماكن الطبيعية التي تعتمد الجزيرة في بقائها عليها. المشكلة أن المنطقة مزروعة بالمصابين، وعلى سبايك أن يتمرن على اصطيادهم برماحه.

العالم الذي تحول إلى جزر منعزلة غير مهتمة بالتعرف إحداها على الأخرى. يعاني في "28 عاما" من فجوات حضارية كبرى. بينما يعيش سبايك وأهل جزيرته بلا شاشات ولا إنترنت، سيلتقي في رحلته التالية بجندي سويدي يحمل "آيفون"، لكن أهمية تلفونه تنتفي بلا تغطية. بينما سبايك الذي عاش في بيئة بدائية، لا يجد أمامه من حل في النصف الثاني من الفيلم، لإنقاذ أمه من هذيانها المستمر، سوى التسلل بها بعيدا عن الجزيرة، وزيارة طبيب الموت دكتور كيسلون (رالف فاينس) الذي يشيد معابد من جماجم الموتى، إلى ما لا نهاية. هو الذي الموت عنده، يستحق الاحتفاء والتقديس. ربما يذكرنا بكلمة الأب في الكنيسة في المشهد الأول من الفيلم، حين يقول لطفله، "أمك وإخوتك لم يموتوا. لقد نجوا".

في انقلاب درامي مغامر ربما، يركز الفيلم الجديد "بعد 28 عاما" على الموت، أكثر من الحياة

هنا نستدعي كتاب جوزيف كامبل الشهير، "البطل بألف وجه"، أحد المراجع الأساسية لكتاب السيناريو في العالم، لكنه أيضا الكتاب الإرشادي المهم لكل روح جائعة إلى المعرفة، معرفة نفسها، ومعرفة بارئها، عبر تحليل أساطير العالم القديم، وربطها بالأساطير الأحدث. فيه يعلي كامبل شأن الميثولوجيا على حساب كل من التراجيديا والكوميديا ومشتقاتهما.     

داني بويل وألكس غارلاند

لئن كانت التراجيديا، تهتم بخطايا ومهالك الملوك والنبلاء، والميلودراما تركز على مآسي العوام من الناس، فالميثولوجيا، وفقا لجوزيف كامبل، هي التي تستوعب الإنسان في شمول إنسانيته، رجلا أكان أم امرأة، ملكا أو فقيرا، فيها يتجسد المعراج الروحي الحقيقي، الطريق الذي نسير فيه مرغمين أو مختارين. في الأساطير نلتقي الشخوص نفسها، لكنها تظهر لنا بألف وجه، يتناسب كل وجه مع ما يمكننا رؤيته، وفقا للمستوى الحالي لوعينا. ومن بين هؤلاء الذين نعيد زيارتهم في رحلتنا الروحية، الأب والأم، وطبعا الموت. هكذا بالضبط تتحدد رحلة سبايك، إذ يصبح الفيلم هو طقس عبوره من براءة وجهل الطفولة إلى واقع البلوغ، عبر إعادة اكتشاف أبيه وأمه. إن المصابين/ المسعورين/ الزومبي، ليسوا مصدر الرعب هنا، وإن كانوا أحد مصادره، أما الاختبار الحقيقي لسبايك، وربما لنا، فهو الموت.

خريطة جديدة للعالم

يرسم "بعد 28 عاما" خريطة مغايرة لعالم ما بعد الكارثة. تقع اسكتلندا مثلا في منطقة متأخرة تكنولوجيا، ونستنتج من موقع السويد، بما أن الجندي منها يحمل "آيفون"، أن أوروبا ربما احتفظت لنفسها بمكانة أفضل في قطار العالم. غير أن اللافت للانتباه هنا، هو التراتبية التي صنعها الفيلم في عالم المصابين/ الزومبي، وتشي بها ملامحهم. رأينا مبكرا في الفيلم نوعا من المصابين يسهل استهدافهم وهم البطيئون، كما يعرفهم الأب لابنه، إنهم مَن يميلون إلى السمنة بملامح آسيوية، يزحفون على الأرض ببطء شديد، ولا يتحلون بحدّ أدنى من الذكاء. هؤلاء صورت كاميرا "آيفون" حركتهم، حيث وضعها صُناع الفيلم على ظهر المُصاب، بزاوية أرضية منحتنا منظور الحياة من وجهة نظر تلك الكائنات. على الصعيد نفسه، يظهر في هذا الجزء بين المصابين، الذكر "الألفا"، وهو على العكس يتحلى بذكاء حاد، وشراسة أكبر، تقريبا لا يموت وليس له نقطة ضعف. مرة أخرى، يلفت نظرنا أن هذا الألفا، يتسم بملامح هندية، بشرة سمراء وشعر طويل. فهل هذا انتقام العالم القديم من العالم الجديد؟ أم أن تراتبية العالم ازدادت إلى حد، هبطت معه الشعوب غير البيضاء إلى مرتبة الزومبي؟ أو لعلهم نجوا من أوهام العالم، وتخففوا من أعبائه ومتاعبه؟

التقنية ليست بهذه الأهمية، التي تروج لها الإنتاجات الكبيرة، إنما الفيلم نفسه، وإن لم يكن عظيما

مشاهد ركض المصابين وراء أبطال الفيلم، تمنحها كاميرا "آيفون" إيقاعا مختلفا، ومنظورا مغايرا للمنظور السينمائي التي تحققه عدسات السينما بأبعادها البؤرية المعتادة، ما يضيف إلى صورة الفيلم تجربة المصاب أو الزومبي، وهم يمثلون الآخر بالنسبة إلى الإنسان. يقول المخرج إنه استخدمها في التصوير، إلى جانب التصوير السينمائي العادي، لأنه استطاع أن يلتقط بها، نظرا لصغر حجم الهاتف وقلة تكلفته مقارنة بالكاميرا العادية، عشرات من اللقطات في المشهد الواحد، مما غذى في النهاية عملية المونتاج، في فيلم تأسست شهرته على القطعات السريعة والعديدة للمشهد الواحد، بطريقة تدوخ المتفرج، وتجعله غير عارف باتجاه الخطر.

داني بويل في مشهد من الفيلم

وإذا أخذذنا في الاعتبار تجربة ولادة إحدى المصابات، العسيرة عليها، وقد احتاجت فيها إلى التعاطف الإنساني ولو بشكل عابر، ثم نتيجة هذه الولادة بإنجاب طفل غير مصاب، يمكننا أن نتوقع انفتاح وجهة النظر السردية في المشروع السينمائي "بعد 28" عموما، لإمكان أن يعبر أكثر في فيلم لاحق عن وجهة نظر المصاب، إلى جانب الإنسان.

فلنصنع أفلاما غير عظيمة

في حوار على "يوتيوب" مع داني بويل، يستحضر فيلم "أوبنهايمر"، قائلا إن أحدا من المشاهدين لا يهتم كيف صُوّر مشهد معين، إنهم يهتمون فقط بأنه فيلم عظيم. وإن كانت هذه النتيجة، هي محصلة طموح كريستوفر نولان، كما سعى إلى تحقيقه في عمله الكبير، فالواقع أن بويل نفسه، يقف على الضفة الأخرى من هذه النظرة إلى العالم والسينما، على الأقل كما يشي فيلمه. يمكن القول إن مزاجا من التخلي يسيطر على الشريط السينمائي كله، تخلٍّ عن شيء من أناقة السينما حين تزعم أنها ليست كذبة، وتخلّ عن صناعة فيلم عظيم. والتخلي ليس كالعجز، في التخلي إمكان مع زهد في الفعل. لقد بدا "بعد 28 عاما" فيلما بسيطا في حكايته عن الموت، عملا قادما من خارج هذا الزمان السينمائي الذي أنتج "أوبنهايمر". ولم ينجح الإنتاج الأميركي في أمركته، أي جعله أكثر هوليوودية، بل ظل العمل على تخليه عن الإبهار، على تقشفه، مصرا على رواية قصصه الخيالية عن العالم الحقيقي كما يراه.

إنه أيضا درس للسينمائيين الطموحين، لطلاب السينما الذين يتزايدون في ورش تعلم السينما حول العالم خارج الأكاديميات الرسمية، ومن بينها دولنا العربية. التقنية ليست بهذه الأهمية، التي تروج لها الإنتاجات الكبيرة، إنما الفيلم نفسه، وإن لم يكن عظيما.    

font change

مقالات ذات صلة