الحلول الثقافية مع التحولات الرقمية

الحلول الثقافية مع التحولات الرقمية

استمع إلى المقال دقيقة

في عصر التكنولوجيا لا يمكن تجاهل ما أحدثته التحولات الرقمية في ثقافة القرن الحادي والعشرين متجاوزة دورها التقليدي من وسائل مساعدة، إلى قوة تدخلت في الاقتصاد والتعليم، وأثرت على الثقافة المنوطة بهوية المجتمعات حتى أوصلتها لحقبة جديدة يمكن تسميتها "العصرنة الثقافية الرقمية" التي جعلت بين الإنسان وثقافته وسيطا إلكترونيا يتدخل في تشكيل هويته وانتمائه لفضاء مفتوح على العالم، متسع في إمكانياته، غامض في تحدياته ومصادره.

ربما تكون الرقمية قد نجحت بفتح أبواب واسعة للتفاعل الثقافي إلا أنها في المقابل خلّفت تساؤلات حادة حول قدرة الثقافة على الصمود، وإمكانية الحفاظ على التعددية والتنوع في وجه ما يعرف بالعولمة. فهل نحن أمام مستقبل تتكامل فيه الهويات الثقافية مع التكنولوجيا؟ أم إننا نقف أمام ذوبان ثقافي يهدد ما تبقى من الخصوصية؟ وهل نحن أمام صراع محتمل بين الإنسان الحقيقي و"الروبوت الاصطناعي" الذي يسعى لأخذ أدواره وأجوره وثقافته ولغته؟ والإجابة عن هذه الاستفهامات لا شك تتطلب رؤية ثقافية شاملة، وابتكار حلول مرنة وعميقة تتجاوز السطح، وتدخل إلى جوهر التفاعل بين الثقافة والتكنولوجيا.

المقلق، أن المحتويات الثقافية في هذا الفضاء تُنتج وتعاد صياغتها ضمن منظومات تفاعلية سريعة من قبل مستخدم يتلقاها من مصادر عديدة ليقوم بصنعها، أو التعديل عليها ومن ثم مشاركتها، ما خلق له بيئة ثقافية أوسع هي "الرقمية التشاركية" التي زعزعت البُنى التقليدية الضابطة لإيقاع الثقافة، مثل المؤسسات الأكاديمية، والمراكز الثقافية، ودور النشر. إذ بات الفرد فيها، بامتلاكه اتصالا بالإنترنت قادرا على إنتاج نص أو فيديو يتجاوزها بملايين المشاهدات في ساعات قليلة، بصرف النظر عن عمقه أو صحته، وهنا مكمن الخطورة المحفزة لطرح سؤالين بارزين: كيف نحمي الثقافة المجتمعية من الانحدار إلى التفاهة؟ وهل استطاع الأفراد إزاحة الدور المؤسسي المدعوم؟

اليوم تقف الثقافات المحلية في مواجهة خطر "التماثل القسري" الذي فرض معايير جمالية موحدة، ولغة واحدة مهيمنة غالبا "الإنكليزية" وأنماط تفكير استهلاكية، ما شكّل خطرا على التراث الذي تحول إلى "إكسسوار بصري" أقرب للاستعراض منه إلى التأثير. وخطرا آخر على اللغة الأم أمام لغات المحتوى العالمي. وخطرا ثالثا على الروابط بين المجتمع والإنسان المتحول إلى مستهلك رقمي في سوق ثقافي مفتوح يعتمد على عبارات "مكبسلة" عبر منصات، منها: "تيك توك" و"ريلز" و"يوتيوب شورتس" ومعظمها يرسخ ثقافة "اللقطة" بدلا من الفكرة، ما عوّد الذائقة على الأسهل والأبسط والأقل جدلا، وأضعف من قدرة الأفراد على ممارسة التفكير والتحليل المعرفي.

ولإبطاء هذه المخاطر يتوجب فرض قوانين صارمة على هذه المنصات مقابل ممارساتها بفضاءات الدول، وتحديدا على المحتويات الموجهة لفئتي الأطفال والمراهقين لحمايتهم من الثقافات "المكبسلة" والمُصدّرة دون وعي أو فحص أو قيد، والتي تمثل بدورها تهديدا قيميا يتدخل في إعادة تشكيل السلوكيات والحياة الواقعية، ويخلق نماذج مشوشة تائهة بين الانتماء، والانفصال، والخواء الثقافي.

علينا إذن إعادة تعريف أنفسنا داخل هذا العالم الرقمي المتحول بخلق جميع حلولنا الثقافية من داخلها لا من خارجها؛ لنحوز نظرة كاملة للهوية

علينا إذن إعادة تعريف أنفسنا داخل هذا العالم الرقمي المتحول بخلق جميع حلولنا الثقافية من داخلها لا من خارجها؛ لنحوز نظرة كاملة للهوية، وإيمانا تاما بأن الثقافة ليست شيئا يُحافظ عليه لوقت قصير، بل لإعادة خلقه وتحسينه باستمرار عبر مشروع رقمي متكامل يربط الحاضر بالماضي، ويتطلع إلى المستقبل، ويُعزز الانتماء، ويفتح الآفاق، ويحترم التنوع، ويتجاوز الانغلاق، ويتقبل التكنولوجيا لا كبديل عن الإنسان، بل كأداة في يده، يكتب بها قصته، ويُعبّر بها عن ذاته، في عالم لا يعترف إلا بمن يستطيع إعادة تشكيل واقعه ثقافيا واجتماعيا ورقميا. 
ويمكن أن يشتمل هذا المشروع المتكامل- أيضا- على تطوير بيئات رقمية تعكس الثقافة المحلية وأصالتها العربية عبر فتح الأرشيف الرقمي، وتوسع المحتوى التعليمي، وتنويع الأعمال الفنية والتفاعلية، ودمج التثقيف الرقمي في المناهج التعليمية من خلال مواد تسهم في تدريس التحقق من المعلومات، وأساسيات الإنتاج الرقمي، وهذا بدوره سيرفع وعي المتعلمين ببيئتهم الرقمية ويحميهم من الانجرار وراء المحتوى السطحي. وبإضافة منهج للقراءة والكتابة الرقمية العميقة لحماية التواصل المعرفي لدى الأجيال، وكي لا تظهر فجوات بين الطبقات الاجتماعية في القدرة على التعامل مع القراءة السليمة لواردات التكنولوجيا المعرفية واستخدامها والرد عليها بحذر وفاعلية وإلمام.
وفي النهاية أعيد ما قاله الكاتب الأميركي "تي في ريد" في كتابه "الحياة الرقمية.. الثقافة والسلطة والتغير الاجتماعي في عصر الإنترنت": "الحاسوب سريع ودقيق وغبي على نحوٍ يفوق التصور. والإنسان بطيء وغير دقيق وشديد الذكاء بصورة تفوق التصور. والاثنان معًا يُمثِّلان قوة هائلة لا يمكن تخيُّلها"، وهو كتاب غاية في الأهمية والضرورة، يمكنه أن يسهم في إضافة بعض الحلول، باعتباره أبرز من علّق جرس الخطر حول الرقمية وتحولاتها حين سأل: "كيف جعلت تقنية الاتصالات الرقمية حياتنا أكثر يُسرًا أو عُسرًا؟ كيف يمكن لهذه الوسائط والتقنية والممارسات أن تُسهم في إيجاد مشهد ثقافي أغنى ومجتمع أكثر ديمومة؟"، وسعى للإجابة على هذه التساؤلات. 

font change