العبقرية اللُغز

العبقرية اللُغز

استمع إلى المقال دقيقة

في كتابه "رامبو وزمن القتلة"، يسعى الكاتب الأميركي هنري ميللر (1891-1980) إلى حلّ اللغز الكامن في عبقرية الشاعر الفرنسي آرثور رامبو (1854-1891). وفي خلال ذلك، يعبّر ميللر عن إعجابه الشديد وتأثره برامبو، لأنه يرى نفسه في مرآته، ويرى وجوها كثيرة للشّبه بين سيرته وسيرة رامبو، التي يمكننا عدّها مثالا للتشرد والعذاب.

كيف يحصل لعبقريّ كرامبو أن تنتهي حياته الفنية (في الشعر) في سن التاسعة عشرة، لتجري حياته بعد ذلك على نحو فاجع، فيعاني من الضنك والضياع والجوع، ويصل به الأمر بعد أقل من تسع عشرة سنة أخرى إلى المرض العضال، الذي أدى به إلى الموت بعد بتْر ساقه؟ أيّ قدَر قاد الشاعر في حياته المريرة؟ هل هو قدر العبقريّ؟

يَعقد ميللر مقارنة، أو مشابَهة، بين رامبو والرسام الهولندي فان غوخ (1853-1890) الذي عاش هو الآخَر حياة بائسة، ومات- مثل رامبو- في سن مبكّرة. ولكن ميللر يحلو له أن يستعيد من حياته الشخصية صوَرا شبيهة بصوَر البؤس التي عرضَها من حياة كلّ من رامبو وفان غوخ. يحلو له أن يقدّم نفسه شبيها بهما في التشرد والفقر والجوع. يقول متحدثا عن نفسه: "ليس صعبا عليّ أن أتصور نفسي واقفا في الصف عند وكالات التشغيل أو مكاتب الإحسان. وظهَر آنذاك أنني قادر على عمل وحيد هو غسل الصحون. وحتى في هذا، كنت دائما متأخرا جدا. فهناك آلاف الرجال المستعدين دوما لغسل الصحون. وغالبا ما كنت أتنازل عن مكاني لرجل بائس يبدو أسوأ حالا مني. لكني من الناحية الأخرى كنت أستدين أحيانا ثمن أجرة السيارة أو وجبة الطعام من أحد المتقدمين إلى العمل، الواقفين في الطابور".

أيّ قدَر ذاك الذي يوفّر لبعض الفنانين نجاحا كبيرا في الفن، وإخفاقا كبيرا في الحياة؟ وهل يمكن القول إن هذا الإخفاق هو في حالات كثيرة ضروريّ لذاك النجاح؟ ولكننا في حالة رامبو أمام عبقرية ارتضت لنفسها نهاية فنية في سن التاسعة عشرة! فما فائدة العذاب الذي عاناه الشاعر في بقية حياته، إذا هو لم يوظف عذاباته فنيا؟

لقد عبّر هنري ميللر عن فرحته بإيجاد شبَه بين سيرته وسيرة رامبو. ولكن إعجابه بهذا الشاعر بلغ حدّا كبيرا، فغدا مثالا بالنسبة إليه. يشير ميللر إلى رسالة شهيرة بعنوان "رسالة الرائي" كتبها رامبو في السابعة عشرة وضمّنها وصايا إلى الشعراء الآتين، فيورد منها هذا القول: "إن اتّباع المبدأ يستلزم عذابا أليما يحتاج فيه الشاعر إلى كل قوّته الخارقة". هل وجد ميللر في هذا القول جوابا شافيا يفسّر له تلك الاندفاعة المستميتة في حياة رامبو، قبل الشعر وفي خلاله وبعده؟ وما ذاك المبدأ الذي تعذب رامبو وتشرد في سبيله؟ هل هو مبدأ أن يكون رائيا؟ ولماذا كفّ عن الشعر في التاسعة عشرة؟

لم يزل رامبو لغزا بعد أكثر من قرن ونصف القرن على ولادته. لم يقدّم أحد تفسيرا مقْنعا لذلك الانفجار الإبداعي الذي خمَد في التاسعة عشرة، لتلِيَه مرحلة من التشرد والعذاب

حياة رامبو كانت أكثر من مغامرة. كانت نوعا من الاستماتة. والاستماتة هنا قد تعني الاندفاع الهائل للشاعر وراء طاقته ورغبته في أن يكون رائيا. وما معنى الرائي؟ أليس هو المتمرد والثائر والخارق؟ يقول ميللر عن رامبو "إنه كان من أكثر الأرواح التي تنبت على الأرض استماتة". إذن بعد انقطاعه عن الشعر، كانت هنالك روحه المستميتة. هل هذا هو الجواب الذي توصل إليه ميللر ورضي به؟ هل استطاع أن يحلّ اللغز؟ لغز رامبو وعبقريته؟
لقد أحب ميللر رامبو وانجذب إليه، بل اندهش به. ولكنه لم يستطع أن يحلّ لُغزه، وإن كان قد تناول هذا اللغز على نحو عميق ولماح. لم يزل رامبو لغزا بعد أكثر من قرن ونصف القرن على ولادته. لم يقدّم أحد تفسيرا  مقْنعا لذلك الانفجار الإبداعي الذي خمَد في التاسعة عشرة، لتلِيَه مرحلة من التشرد والعذاب. لم يجد أحد علاقة منطقية بين المرحلتين.
لقد كان رامبو في شعره وحياته جديدا وغريبا وفريدا. وما زال حتى الآن  جديدا وغريبا وفريدا. وشعره ما زال حتى الآن عصيّا على التصنيف. ما زال شعره نافرا من الانضواء في أيّ من المدارس أو التيارات الشعرية، وهو الذي أثّر في هذه المدارس والتيارات كلها.
نشير أخيرا إلى أن كتاب هنري ميللر "رامبو وزمن القتلة" كان قد  صدَر في عام 1998، بترجمة للشاعر سعدي يوسف، عن "دار المدى للثقافة والنشر" في دمشق.

font change
مقالات ذات صلة