مئات بل آلاف من الأطباء والمهندسين والأكاديميين وغيرهم من المهنيين في كل التخصصات والمجالات يفرون كل عام من اليمن في أسوأ نزيف غير مسبوق للكفاءات المؤهلة تعانيه البلاد إلى الخارج، جراء الحرب وضيق العيش، رغم شهرتها بأنها واحدة من أكبر البلدان المُصَدرة للهجرات، وذلك منذ انهيار سد مأرب القديم عام 575 ميلادية.
عُرف اليمن، تاريخيا، بكثرة هجرات أبنائه، داخليا أو خارجيا، طوعا أو كرها، وبتعدد أسبابها وتنوع مقاصدها واختلاف وجهاتها، حيث يطول المجال لشرحها بعد أن أُشْبعت بحثا ودراسة، غير أن ما نشهده اليوم من شتات لليمنيين، بمختلف مستوياتهم العمرية والتعليمية والثقافية، وخصوصا ذات التعليم والتأهيل الجيدين، في سائر أصقاع الأرض، وبشكل يفوق كل التصورات أمر مفزع وباعث على القلق، وينذر بخلو البلاد من كفاءاتها المتعلمة ونخبها المثقفة، وحتى أيديها العاملة، ما يجعلها تسير في طريق المجهول الذي يصعب معه التكهن بعواقبه ومخاطره على مستقبل اليمن، أرضا وإنسانا وحياة.
ما يحدث اليوم هو الأسوأ تقريبا من معظم أشكال الاستبداد الداخلي التي عاناها اليمن خلال قرون من حكم الإمامة، بل فاقت في سوئها وبطشها وعنفها ممارسات كثير من الغزاة والمحتلين الأجانب، بما أصبح سببا في قناعة معظم (النخب) اليمنية بأن الخروج من هذا المشهد ضروري (مؤقتا) إلى حين إعادة ضبط قواعد الاشتباك مع "الميليشيات" الحوثية المجندة، في رأيهم، لخدمة أجندة إيرانية، لا علاقة لها بالشأن أو الصالح الوطني العام.
لا أقول إن البلاد خلت تماما من كوادرها المتعلمة، تعليما تخصصيا جيدا، لكنها تكاد تبدو كذلك، إذا أخذنا بعين الاعتبار حجم عدد النازحين إلى الخارج وسياسة الانتقاء والتمييز في الداخل التي تتبعها جماعة الحوثيين، خصوصا، في مناطق سيطرتها.
أسباب النزوح ومظاهرها
بدرجة رئيسة كان (الفقر) الناجم عن عقود طويلة من شح المطر والجفاف وتقلص المساحة الزراعية، وإغراءات العمل في دول الخليج النفطية السبب الأول والمباشر في الهجرات الحديثة لليمنيين إلى دول الجوار وإلى مغتربات بعيدة كالولايات المتحدة وبريطانيا.
كان ذلك يحدث في الغالب طوعيا بحثا عن فرص عمل وحياة أفضل وتمكين من دعم ومساندة الأهل في الداخل بما يعينهم على مواجهة تكاليف العيش المتزايدة عاما بعد آخر، أما في سنوات الحرب التي شهدتها البلاد منذ عام 2014 فقد كانت موجات النزوح خيارا اضطراريا بعد اجتياح جماعة الحوثيين الموالية لإيران العاصمة صنعاء وعدد آخر من مدن البلاد، وما ترتب على هذا من صراع سياسي وعسكري دفع بعشرات الآلاف من سكان المناطق التي أخضعها الحوثيون لسيطرتهم إلى النزوح في كل اتجاه يتسنى لهم، داخل البلاد وخارجها.
في خضم القتال، بين قوات الجيش والمقاومة الشعبية من جهة وجماعة الحوثيين من جهة أخرى، توالى انهيار الكثير من القطاعات الخدمية الأساسية، كالصحة والتعليم على وجه الخصوص، وأُجبر الكثير من الأطباء، وبعضهم ذوو تخصصات نادرة، وكذلك مئات الأكاديميين على ترك مواقع عملهم ومغادرة البلاد، سيما بعد انقطاع رواتبهم الشهرية لسنوات، واستحالة الحصول على فرص عمل بديلة.
وفي مفارقة مختلفة، حدثني زميل أكاديمي كيف أنه، بعد استيلاء الحوثيين على السلطة، عاد إلى اليمن من أوروبا، متحمسا للتدريس في إحدى الجامعات، لكنه صُدم، كما قال، بأحوال طلابه الذين يأتون إلى محاضراته دون أن يكون أغلبهم قد تناول وجبة إفطار، وفاقدي التركيز والاستيعاب، وبعضهم يحمل سلاحه الخفيف، آلية كلاشينكوف أو مسدس، وكيف أنه طُلب منه أن يمنح درجات نجاح غير مستحقة لبعض الطلبة بذريعة أنهم "مجاهدون" عائدون لتوهم من جبهات القتال ضد "العدوان" الأمر الذي لم يجد معه بُدا من مغادرة البلاد.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد فحسب، بل تطالعنا بعض الصحف والمواقع الإخبارية، بين حين وآخر، بصور لشبان يافعين، من المسلحين الحوثيين أو المجندين في صفوف الأذرع العسكرية الموالية للحكومة الشرعية، وقد اعتلت أكتافهم رُتَبا عسكرية وأمنية عليا، في حين نلتقي ونرى ضباطا كبارا سابقين في قوات الجيش والأمن نازحين اليوم في الداخل أو يهيمون على وجوههم في شوارع العالم بحثا عن مأوى أو اعتراف بهم كلاجئين.
تسييس وتطييف الوظيفة العامة
للسبب ذاته، اضطر آلاف المعلمين إما إلى النزوح أو المكوث في منازلهم، خصوصا بعد أن تم تحريف المقررات الدراسية التي تخصصوا في تدريسها، واستبدالها بـ"ملازم" مؤسس الجماعة ومحاضرات أخيه وسلفه، كما تم إحلال "مشرفي" الجماعة محل المعلمين المؤهلين الأكفاء، واستبعاد مواد كاللغة الإنجليزية والفيزياء والكيمياء في أغلب المدارس لعدم توفر مدرسين متخصصين لتدريسها.
لم تكن سيطرة الحوثيين على مؤسسات الدولة المشكلة الوحيدة، لكن انتهاج هذه الجماعة مبدأ تسييس الوظيفة المدنية والعسكرية، وجعل معيار الانتماء لسلالتهم "الهاشمية" أساسا للتوظيف والتعيين والترقية والحصول على الامتيازات بكل أنواعها، المادية والمعنوية.
في مثال واحد على تلك الممارسات جرى خلال الأيام القليلة الماضية تداول مقطع فيديو يشكو فيه أحد مسؤولي محافظة "ريمة" من إقالة طبيب ومدير مستشفى ناجح بحجة أنه "يضم" في صلاته مثل أهل السنة ولا "يسربل" كالشيعة الزيدية.