صنعاء المنكوبة... ملهاة التاريخ ومأساة الجغرافيا

لم تعرف صنعاء الاستقرار خلال القرنين الماضيين إلا في فترات متفاوتة

أ.ب
أ.ب
ناقلة نفط مشتعلة بعد غارات جوية أميركية استهدفت ميناء رأس عيسى النفطي الذي يسيطر عليه الحوثيون في الحديدة، اليمن، 18 أبريل

صنعاء المنكوبة... ملهاة التاريخ ومأساة الجغرافيا

فصول متوالية من "الجحيم" تصطلي بها صنعاء، العاصمة اليمنية، جراء القصف الأميركي المكثف والمستمر على هذه المدينة التي كانت طوال قرون جميلة ورمزا للعراقة والتمدن.

الكل حزين، عربيا وعالميا، على صنعاء، جراء الدمار الذي يلحق بها كل يوم بسبب صراع غير متكافئ بين "ميليشيات عقائدية موالية لإيران" كما توصف، سياسيا وإعلاميا في واشنطن، وجبروت أميركي غاشم لا يقيم وزنا ولا اعتبارا، في عهد رئيس كدونالد ترمب لا يبالي لأي معيار في قوانين الحرب، سوى الوصول إلى هدفه بأي ثمن.

نالت صنعاء في الأيام، بل الأسابيع الماضية، النصيب الأكبر من "حمم" الغارات الجوية المكثفة التي تشنها القوات الأميركية ضد (جماعة الحوثيين) وذلك منذ ما يزيد على شهر، وطالت أماكن لم يكن في الحسبان استهدافها كبعض الأسواق والمقابر التي نفى الجيش الأميركي استهدافها، وقال متحدث باسم القيادة المركزية الأميركية إن الأضرار والخسائر التي تحدث عنها مسؤولون حوثيون في اليمن "وقعت على الأرجح"، لكنها لم تكن ناجمة عن هجوم أميركي، بينما لم يعلق الحوثيون على اتهامات لهم بسقوط صواريخ تابعة لهم خلال محاولاتهم اعتراض مسيرات أميركية كانت تحلق فوق أجواء صنعاء.

يقول الأميركيون إن هجماتهم تستهدف، في الأساس، قواعد ومعسكرات ومخازن أسلحة وذخائر يسيطر عليها الحوثيون في مختلف المواقع والجبال المطلة أو المحيطة بصنعاء، ما أدى إلى انفجارات ضخمة ومروعة هزت أرجاء صنعاء وأفزعت سكانها. وقد ضاعف من قوتها تفجر مخزونات تلك المواقع من الأسلحة والذخائر، وذلك عقب كل ضربة صاروخية لمستودعاتها تقريبا، كما أوضحت ذلك الصور ومقاطع الفيديو المرعبة الواردة من صنعاء.

كوابيس الذاكرة

أعادت هذه الانفجارات التذكير بأخرى أقل قوة منها طالت، خلال حرب السنوات العشر الماضية، ترسانات السلاح ومستودعات الذخائر نفسها التابعة للجيش اليمني، التي استولى عليها الحوثيون، ونهبوا بعضا منها إلى معاقلهم في صعدة، عقب انهيار نظام حكم الرئيس الراحل علي عبدالله صالح واجتياحهم بعد ذلك للمدينة في 21 سبتمبر/أيلول عام 2014 و"انقلابهم" على سلطات الدولة، ما أدى بعد ذلك إلى اندلاع حرب أهلية أوسع نطاقا، عقب تدخل تحالف عسكري عربي في محاولة لدعم الحكومة الشرعية اليمنية لاستعادة صنعاء، العاصمة "المختطفة" بيد جماعة الحوثيين.

ازدواجية المعايير

ألقى الجيش الأميركي، خلال أسابيع فقط، في هجماته على مواقع الحوثيين في صنعاء وغيرها ما يبدو أنها صواريخ وقنابل أكثر قوة وتطورا وتدميرا وأشد فتكا، وربما تجريبية، أضعاف ما استخدمه التحالف العربي في قصفه الحوثيين طوال سبع سنوات!

خلال عقد الستينات من القرن الماضي، انخرط الكثير من أبناء هذه القبائل في صفوف الجيش للمشاركة في حرب السنوات الست دفاعا عن "الجمهورية" الوليدة

مع ذلك لم تتعرض الولايات المتحدة، خلال هذه الحرب، لأي نوع من الانتقاد والابتزاز اللذين تعرض لهما التحالف العربي من قبل واشنطن ولندن، تمثَّل ذلك في خفض مبيعات الأسلحة والذخائر للتحالف بحجة إساءة استخدامها في الهجمات على الحوثيين، ولم تقدم العاصمتان الأميركية والبريطانية أدلة مقنعة على ذلك.

لو أن الولايات المتحدة ومعها بريطانيا استمرتا في دعمهما للتحالف والقوات اليمنية لكان الصراع في اليمن قد انتهى، و"محا اليمنيون عار سقوط عاصمتهم في براثن إيران" لكن واشنطن ولندن لم تستمعا إلى نصائح حلفائهما اليمنيين وفي التحالف، وفق ما ذكره وزير الدفاع اليمني السابق الفريق (محمد المقدشي) في حديثه مؤخرا لهيئة الإذاعة البريطانية، وباتت الولايات المتحدة وبريطانيا "تدفعان الآن ثمن خذلانهما لحلفائهما اليمنيين وغيرهم" كما يقول خبراء عرب وغربيون.

خلفيات مأساوية أخرى

لكن الأمر يبدو في الواقع أعمق وأكثر تعقيدا من ذلك، فخلال العقد الأخير، عانت صنعاء الأمرَّين. انقلاب الحوثيين على الدولة اليمنية من جهة، ومن جهة أخرى، الحروب والتدخلات الإقليمية والدولية التي تسبب فيها ذلك الانقلاب، وزاد كل ذلك من حالة انعدام الأمن لدى اليمنيين، بكل أشكاله وفقدان الأمل في نهاية لهذا الصراع.

عسكرة القبيلة

تاريخيا، ورغم كل ابتلاءاتها بخرافات "الإمامة" وشح الموارد الطبيعية أو السياحية، وأخيرا بـ"طيش" جماعة الحوثيين الموالية عقائديا لإيران، قبل وبعد سيطرتها على صنعاء في غفلة من الدهر، غير أن صنعاء ابتُليت، قبل ذلك بمعضلتين، أولاهما تمثل في وقوعها داخل "طوق" من القبائل الفقيرة، قليلة الزرع والضرع، معروفة برجالها الأشداء، المتمسكين بقوة، بعصبويتهم وعاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم القبلية، أكثر من قبائل اليمن الأخرى، وكان هؤلاء على مر العصور هم وقود كل الحروب التي عرفها اليمن طوال تاريخه.

أ.ف.ب
يمنيون مسلحون يرددون شعارات خلال مسيرة تضامنية مع قطاع غزة، وتنديدا بالغارات الأميركية، في العاصمة صنعاء في 25 أبريل

خلال الستينات من القرن الماضي، انخرط الكثير من أبناء هذه القبائل في صفوف الجيش للمشاركة في حرب السنوات الست دفاعا عن "الجمهورية" الوليدة، وبالتالي أصبح الكثير منهم قادة عسكريين كبارا أطلق عليهم لقب "الضباط الفخريين" أي الذين لم يدرسوا أو يتخرجوا من كليات أو أكاديميات حرب، ووصل بعضهم إلى قمة السلطة ومناصب أخرى عسكرية ومدنية وحتى دبلوماسية مهمة، ومن أبرز هؤلاء كان الرئيسان الراحلان، أحمد حسين الغشمي وخلَفه علي عبدالله صالح، وكلاهما قُتل في دورات عنف سببها الصراع على السلطة في صنعاء.

كما أتاحت الظروف أمام بعض أبناء تلك القبائل مجالا واسعا للتعليم في كل مراحله الأساسية والعليا، فتخرج الكثير منهم من جامعات مرموقة حول العالم عربية وعالمية، وأصبح يتبوأ مناصب سياسية وإدارية مهمة في جميع مفاصل الدولة والحكومة، لكن الحنين إلى "الذات القبلية" ظل واضحا في حرصهم على التمسك بعاداتها وارتداء ثيابها التقليدية في المناسبات الاجتماعية، وسرعان ما يعود البعض منهم إلى الاحتماء بقبيلته إذا لم يجدوا حاملا سياسيا وطنيا جامعا، كما هو الحال في كل دول العالم الثالث الفاشلة أو الأبطأ وأقل نموا.

غابة السلاح المخفية

ثاني هاتين المعضلتين يكمن في إصرار كل السلطات، التي توالت على حكم اليمن، منذ اندلاع ثورة 26 سبتمبر/أيلول 1962، على الاحتفاظ بأكبر معسكرات الجيش والأمن ومخازنهما داخل المدينة وفي الجبال المحيطة بها، اعتقادا من قبل تلك السلطات أن هذا يحول دون وقوع المزيد من الانقلابات العسكرية ضدها من ناحية، ومن ناحية أخرى، دون غزو رجال القبائل لها مثلما جرى عام 1948 عندما أباح إمام اليمن السابق (أحمد يحيى حميد الدين) صنعاء للقبائل انتقاما لمقتل والده خلال محاولة انقلابية فاشلة في 17 فبراير/شباط 1948.

نشأ في صنعاء واحد من أقدم النظم مدنية، وكذلك من حيث طرازها المعماري المديني المتكامل والفريد، وازدهرت فيها ثقافات وعادات تَشارك فيها يمنيون وأحباش وفُرس وأتراك وأكراد وغيرهم

جغرافياً، حاول كثير من الدول وعهود الحكم الاحتفاظ بصنعاء، الواقعة بين ثلاثة جبال وعدة مرتفعات في "قلب" البلاد، لأسباب عسكرية وأمنية استراتيجية، تجعلها عصية على محاولات الغزو الخارجي كتلك التي تعرضت لها عواصم ومدن سهل احتلالها بسبب قربها من الشواطئ مثل عدن أو بيروت والإسكندرية والجزائر وغيرها.

لذلك، نجد أن الغارات التي شنها كل من التحالف العربي سابقا والهجمات التي نفذتها القوات الأميركية والبريطانية مؤخرا استهدفت تلك المواقع والمعسكرات والمخازن تحديدا لأكثر من مرة.

بأي ذنب قُتلت

لصنعاء رمزية تاريخية، سياسية وثقافية واجتماعية ووجدانية، فهي العاصمة الأزلية لليمن الطبيعي، التي أطلق عليها كذلك اسم "مدينة أزال" أو "مدينة سام" نسبة إلى مؤسسها "سام بن نوح" باعتبارها، كما تقول بعض الأساطير، أول بقعة على وجه الأرض تظهر بعد الطوفان الذي اجتاح هذا الكوكب.

سادت في صنعاء دول وبادت، وعرفت حروبا مريرة عبر التاريخ، إذ كانت السيطرة عليها تعني خضوع اليمن كله لها كـ"مركز" للحكم وعنوان للسيادة.

ونشأ في صنعاء واحد من أقدم النظم مدنية، وكذلك من حيث طرازها المعماري المديني المتكامل والفريد، وازدهرت فيها ثقافات وعادات تَشارك فيها يمنيون وأحباش وفُرس وأتراك وأكراد وغيرهم.

أ.ف.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترامب ووزير الدفاع بيت هيجسيث خلال اجتماع لمجلس الوزراء بالبيت الأبيض في 10 أبريل

سار في شوارع صنعاء وأحيائها القديمة ملوك وزعماء كبار كالمستشار الألماني السابق غيرهارد شرودر والرئيس الأميركي الراحل جيمي كارتر الذي وصف زيارته لصنعاء بأنها كانت "المرة الأولى التي أتجول فيها بسيارة داخل متحف" كما زارها أدباء وفنانون وشعراء ومؤرخون وبحاثة عظماء، لم يترددوا في تخليد صنعاء في مذكراتهم وبعض أعمالهم الإبداعية، رسما وشعرا، كما فعل الروائي الإيطالي ألبرتو مورافيا الذي زار صنعاء مرات عدة.

صنعاء... بازوليني

رسم المخرج والروائي الإيطالي بيار باولو بازوليني العاشق لصنعاء بأفلامه السينمائية الوثائقية صورة عن عمارتها وبيوتها وجدرانها لدى الغرب بطريقة مثيرة لخيال كثير من المبدعين الذين ألهمتهم تجربته في صنعاء لزيارتها، فهو الفنان الغربي والمثقف الكبير الذي استمات في سبيل أن يضع اسم "صنعاء القديمة" على رأس قائمة اليونسكو للمدن والمواقع العالمية ذات الأثر التاريخي المميز في حياة البشرية.

لا بد من صنعاء

على مدى قرون من الزمن مثَّل العيش في صنعاء حلما وغاية لعشرات الأجيال التي قصدتها للسكن وطلب العلم والرزق، وكثيرا ما ترددت على ألسِنة اليمنيين مقولة الإمام الشافعي "لا بد من صنعا وإن طال السفر" وقال عنها شاعر اليمن الراحل عبد العزيز المقالح:

منْ أجْلِها تصفو مودَّتُنا

ولِحُـبِّـهـا نشقى، ونقتتلُ

تخفيف عبء المركز

لطالما كانت هناك أفكار مقترحة لنوع من "حكم محلي" أو "دولة اتحادية" تتوزع فيها صلاحيات "المركز" في صنعاء، تدريجيا، على أقاليم عدة في البلاد، كما جرى الاتفاق على ذلك خلال مؤتمر الحوار الوطني العام 2012 إلا أن هذا الطموح باء بالفشل نتيجة تمرد الحوثيين، ومعهم القبائل، المغرر ببعض شيوخها، المؤازرة لهم وخروجهم عن ذلك الإجماع الوطني الذي كاد يوشك أن يتحقق.

ترزح صنعاء اليوم تحت جور "جماعة مذهبية مسلحة" لا تفقه ولم تتعلم يوما درسا واحدا في الواقعية السياسية المعاصرة رغم كل ما جرى

لم تعرف صنعاء الاستقرار خلال القرنين الماضيين إلا في فترات متفاوتة، إما خلال الوجود العسكري العثماني لمرحلتين، الأولى من عام 1539 وحتى 1634 والثانية من عام 1849 وحتى 1911، ثم في مرحلة حكم الإمام يحيى محمد حميد الدين محمد المتوكل، من عام 1904 وحتى عام 1948 وهو مؤسس المملكة اليمنية البائدة.

أما الأخيرة فكانت خلال حكم "الجمهورية"، الرئيس الراحل الذي قتله الحوثيون علي عبد الله صالح من عام 1978 وحتى عام 1990، حيث عاد بعد ذلك الاضطراب ليسود البلاد عقب وحدتها المعلنة على نحو مفاجئ واضطراري، وفوق أرضية رخوة غير قابلة للبناء عليها، وبأسس "عاطفية" هشة وغير متماسكة إذ سرعان ما أدى هذا إلى اضطراب الدولة الموحدة الجديدة أمام أول اختبار لها، فاندلعت حرب عام 1994 بين "العليين" شريكَيْ قرار إعلانها، الزعيمين علي عبدالله صالح وعلي سالم البيض.

صنعاء المستقبل

اليوم يثار التساؤل حول ما إذا كانت صنعاء لا تزال قادرة على استعادة مكانتها كـ"عاصمة تاريخية" لليمنيين قابلة للعيش والتعايش، بعد أن شوّه الحوثيون صورتها، وحاولوا صبغها بصبغتهم المذهبية، ولطخوا جدران شوارعها وبواباتها القديمة بشعاراتهم الطائفية وبصور الخميني وخامنئي وسليماني ونصرالله والحوثي وجرّفوا أسس مجتمعها وثقافتها، وأصبح عدد السجون والمعتقلات فيها يفوق بكثير كليات وأقسام جامعتها وكلياتها ومعاهدها التعليمية والمهنية والفنية، كما تؤكد ذلك تقارير صادرة عن الأمم المتحدة، ومنظمات دولية موثوقة.

وترزح صنعاء اليوم تحت جور "جماعة مذهبية مسلحة" لا تفقه ولم تتعلم يوما درسا واحدا في الواقعية السياسية المعاصرة رغم كل ما جرى، أو تعي أي معنى كان ولا يزال لصنعاء في أسفار التاريخ، وتبدلات التجربة الإنسانية، قديمها وحديثها، لكن يمكن مع ذلك القول إنه أيا سوف تؤول إليه أحوال صنعاء في المدى المنظور.

font change