صراع المنصات الأميركية على السوق العربية

من وادي السيليكون إلى شاشات الرياض والقاهرة

Shutterstock
Shutterstock
لقطة واسعة عن قرب لتصفح محتوى خدمات البث على تلفاز ذكي باستخدام جهاز تحكم

صراع المنصات الأميركية على السوق العربية

شهدت المنطقة العربية، في العقد الأخير، تحولا مذهلا في أنماط استهلاك الإعلام والترفيه. وما كان يتابع على شاشة التلفزيون في مواعيد محددة، أصبح متاحا بضغطة زر، في أي لحظة، وعلى أي جهاز. وفي قلب هذه الثورة الرقمية، تقف المنصات الأميركية "نتفليكس" و"أمازون برايم" و"ديزني بلس" و"يوتيوب بريميوم"، وغيرها، كقوى لا يستهان بها، تعيد رسم خريطة الذوق العربي، وتفرض إيقاعا جديدا لصناعة الترفيه.

وتفرض المنصات الأميركية هيمنة شبه كاملة على أسواق العالم ومن بينها العربية. هي شركات بث رقمي تقدم محتوى مرئيا (أفلام ومسلسلات ووثائقيات وبرامج أطفال) عبر الإنترنت بنظام الاشتراك(SVOD) أو الإعلانات (AVOD) وأبرزها:

"نتفليكس": أطلقت عالميا عام 2016، وتنتشر اليوم في أكثر من 190 دولة، مع 277 مليون مشترك عالميا، منهم أكثر من 2.5 مليون في السعودية وحدها.

"أمازون برايم فيديو": ضمن باقة "أمازون برايم"، تقدم محتوى أميركيا وعالميا وتملك حقوق بث رياضية في بعض الأسواق.

"ديزني بلس": تضم مكتبات "مارفل" وسلسلة "حرب النجوم" و"بيكسار" ، وتوسعت للشرق الأوسط عام 2022.

"يوتيوب بريميوم": ما قد لا يعرفه البعض، أن "يوتيوب" تضخمت بشكل هائل حتى أصبحت أكبر وسيلة توزيع أفلام في العالم. لهذا وضعت الشركة خدمة اشتراك أو نسخة مدفوعة الثمن خالية من الإعلانات، أصبحت تستخدمها بكثافة فئة الشباب في الخليج العربي.

غزو ناعم أم ثورة ترفيهية؟

لكن هل هذه مجرد أدوات ترفيه؟ أم أنها أدوات تغيير ثقافي، واستثمار رأسمالي، وربما نفوذ ناعم عابر للحدود؟ الحقيقة هي كل هذه مجتمعة.

تجاوزت عائدات "نتفليكس" في 2024 في أنحاء العالم حاجز 40 مليار دولار سنويا، 66% منها تأتي من خارج الولايات المتحدة. أما "ديزني بلس"، فحققت إيرادات تفوق 25 مليار دولار، بينما تقدر إيرادات "أمازون برايم فيديو" بما يزيد على 12 مليار دولار، رغم أنه ليس منصة "أمازون" الرئيسة.

هل هذه مجرد أدوات ترفيه؟ أم أنها أدوات تغيير ثقافي، واستثمار رأسمالي، وربما نفوذ ناعم عابر للحدود؟ الحقيقة هي كل هذه مجتمعة

المثير في هذه الأرقام، أن الأسواق العربية باتت تحتل مكانة مهمة لهذه المنصات:

السوق السعودية وحدها يقدر إنفاقها على الترفيه الرقمي بأكثر من 2 مليار دولار سنويا.

الخليج العربي يشهد أعلى معدلات الاشتراك الفردي مقارنة بالدول العربية الأخرى.

كيف ترى "نتفليكس العرب": جمهور شغوف

رغم الفوارق الاقتصادية، هناك 3 عوامل جعلت السوق العربية هدفا مغريا. اكتشفت المنصات الترفيهية الأميركية السوق العربية من خلال بياناتها التي جمعتها رقميا عن سلوك المشاهدين العرب واهتماماتهم. مثلا نسبة الشباب المرتفعة مهمة لها  (أكثر من 60  % من سكان المنطقة تحت سن 35 عاما). وتشهد المنطقة العربية تحولا رقميا سريعا: الإنترنت في الجيب، وسرعات اتصال عالية.

Shutterstock
تطبيقات "أندرويد" على هاتف ذكي من "سامسونغ" تشمل: متجر "بلاي"، "مايكروسوفت"، "غوغل""، سامسونغ"، "سبوتيفاي"، "نتفليكس"، "جهات الاتصال"، "المعرض"، "يوتيوب ميوزيك"، و"الإعدادات"

يضاف إلى ذلك، الفراغ الثقافي والتشريعي، حيث هناك قلة من البدائل العربية المحلية المنافسة في بعض الدول، وتباين في رقابة المحتوى. فالمنصات العربية إنتاجها محدود وقدرتها على المنافسة ضعيف. وهكذا، وجدت المنصات الأميركية تربة خصبة للانتشار، واستثمرت فيها.

مثلا أنتجت "نتفليكس" مسلسلا أردنيا قصيرا بعنوان "مدرسة الروابي للبنات". ووجد مسلسل "البحث عن علا" طريقه إلى "نتفليكس"، وهو كوميدي مصري بطولة هند صبري ومن إخراج هادي الباجوري وتأليف مها الوزير وغادة عبد العال، وهو تكملة لمسلسل "عايزة أتجوز"، يضاف إليهما تحويل مسلسل "غرباء مثاليون" إلى إنتاج لبناني مع مشاركة اماراتية ومصرية حمل بالعربية عنوانا مختلفا هو "أصحاب ولا أعز".

كما أنتجت "نتفليكس" في العام الماضي مسلسلا سعوديا بعنوان "من الرماد"، وهو قصة درامية مقتبسة من حادثة حريق مروع في مدرسة للبنات. وقد سجل أكثر من 7.6 مليون مشاهدة وبلغ 11.6 مليون ساعة مشاهدة حتى مطلع فبراير/ شباط 2024.

أما منصة "ديزني بلس" فترجمت معظم محتواها الى اللغة العربية ولديها جمهور ينمو بسرعة كبيرة. وأطلقت "برايم أمازون" شراكات مع صناع محتوى عرب مثل Nas Daily وأنتجت أفلاما قصيرة لمهرجانات دبي والقاهرة.

السعودية: المسرح العربي الأكبر

إذا أردنا تسمية "عاصمة للترفيه العربي الجديد"، فهي بلا شك الرياض. فمع رؤية السعودية  2030، أصبح الترفيه مدعوما اقتصاديا وثقافيا. فهناك جمهور متعطش لكل جديد، ومواكب للعالمية مع دعم حكومي من وزارة الثقافة وغيرها من المؤسسات الحكومية لتشجيع إنتاج المحتوى المحلي، وجذب الاستثمارات الإعلامية الدولية. كما بنيت استوديوهات عالمية متعددة ومتنافسة بدأت تنتج أفلاما ومسلسلات في المملكة.

إذا أردنا تسمية "عاصمة للترفيه العربي الجديد"، فهي بلا شك الرياض. فمع رؤية السعودية  2030، أصبح الترفيه مدعوما اقتصاديا وثقافيا

في هذا السياق، أصبحت المنصات الأميركية تدخل السوق السعودية ليس فقط كمستهلك بائع للأفلام، "بل أيضا كمنتج: نحن لا نخاطب السعودية فقط، بل ننتج من داخلها"، كما  صرح مسؤول المحتوى في "نتفليكس" خلال "مؤتمر مستقبل الإعلام" الذي عقد في الرياض العام الماضي.

الذكاء الاصطناعي لفهم سلوك المشاهد العربي

ولا تكتفي المنصات الأميركية في سعيها لتوسيع حضورها في الأسواق العربية بتقديم المحتوى، بل تستخدم الذكاء الاصطناعي، بشكل مكثف لفهم أكثر من مائتي مليون عربي تريد أن تحصل على أكبر نسبة مشتركين محتملين بينهم. فهي تقوم من خلال الذكاء الاصطناعي بجمع البيانات عبر أجهزتها وتحليل سلوك المشاهدين في مناطق حيوية مثل الخليج العربي، لتوصية الأفلام الأنسب لعرضها. وتختبر العناوين وتتنوع الترجمات حسب اللهجة والثقافة العربية المحلية لكل منطقة او بلد. كما يساهم الذكاء الاصطناعي في توليد ملخصات مرئية وملصقات مخصصة لكل سوق.

Shutterstock
مشهد حضري حديث في حي الملك عبدالله المالي، إجدى أكثر المناطق تطورا وجذبا في الرياض

"نتفليكس"، على سبيل المثل، تقدم واجهة مختلفة تماما للمستخدم السعودي مقارنة بالمستخدم الأميركي، وتكون التوصيات مبنية على اللغة، والوقت، وحتى المزاج السائد.

بين الهيمنة الأجنبية والمنافسة المحلية

رغم النجاح، تواجه هذه المنصات تحديات عدة، أبرزها الرقابة حيث أن بعض الدول لا تزال تطالب بحذف محتوى أو تعديله. وهناك مشكلة القرصنة، حيث أن منصات مقرصنة لا تزال تسحب جمهورا كبيرا في شمال أفريقيا وسوريا والعراق، ويعتقد أن أكثر من نصف المشتركين يشتركون ويدفعون لمواقع ومنصات القراصنة وليس للمنصات الأصلية لاعتبارات مالية.

أما المنافسة المحلية، فإنها تكبر مع الوقت لكنها لا تمثل خطرا على المنصات الأميركية حتى في مناطقها. منصات مثل "شاهد" بدأت تكتسب جمهورا إضافيا وتستعيده من المنصات الأميركية عبر المحتوى المحلي والدراما الرمضانية. لكن التحدي الأهم يبقى: هل تنجح هذه المنصات في إنتاج محتوى محلي بجودة عالمية أم تبقى مجرد وسيلة لتصدير الثقافة الأجنبية؟

ما يجري في المنطقة لم يعد فقط "توسعا تسويقيا"، بل تحول استراتيجي في فهم الجمهور العربي كجزء من شبكة صناعة الترفيه العالمية

ما يجري في المنطقة لم يعد فقط "توسعا تسويقيا"، بل تحول استراتيجي في فهم الجمهور العربي كجزء من شبكة صناعة الترفيه العالمية. وقد تمكنت المنصات الأميركية، برشاقتها التقنية وقوتها المالية، من دخول البيوت العربية: لا بمسدس ناعم، بل بـ"ريموت ذكي". ومن المفترض انها تستثمر جزءا من مداخيلها في تطوير الإنتاج العربي كما تفعل في الأسواق الأخرى.

السعودية واستراتيجيا قطاع الأفلام

أطلقت هيئة الأفلام التابعة لـوزارة الثقافة الاستراتيجيا الوطنية في أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني2021  استنادا إلى دراسة مقارنة مع 20 دولة رائدة في السينما العالمية. قالت الوزارة إنها في هذا المجال ستركز على ست ركائز: دعم الإنتاج المحلي، تعزيز الطلب محليا وخارجيا، جذب الإنتاج العالمي، تنظيم بيئة القطاع، الوصول إلى المواهب، وتوفير مرافق تصوير بتكلفة تنافسية. ووضعت خطة من 19 مبادرة و46 مشروعا، وسبعة معايير أداء لقياس التقدم، مثل عدد الأفلام، إيرادات شباك التذاكر، عدد الشاشات، عدد طلاب التخصص السينمائي، رضى القطاع، إلخ.

برنامج "ضوء" (Daw)

يقدم منحا مالية لمنتجي الأفلام السعوديين، غير مستردة، بالإضافة إلى دعم لوجستي وإمدادات إنتاجية. وقد شارك في النسخة الأولى 260 صانع أفلام، وفاز 24  منهم بـ40 مليون ريال سعودي مجتمعة، واستخدموا 132 موقعا للتصوير في 7 مدن سعودية.

الحوافز النقدية

منذ موسم "مهرجان كان السينمائي" 2022،  بدأ تطبيق برنامج استرداد نقدي يصل إلى 40٪ من تكاليف إنتاج الأفلام، لجذب الإنتاجات العالمية للعمل داخل السعودية.

Shutterstock
صورة جوية لمدينة الرياض، المملكة العربية السعودية

مبادرة "فيلماثون"

أطلقتها هيئة الأفلام في أغسطس/ آب 2023  تحت شعار "الابتكار في صناعة الأفلام"، لدعم استخدام التكنولوجيا والفنون في الإنتاج السينمائي، مع دورات تدريبية مكثفة.

أصبح "مهرجان البحر الأحمر السينمائي" من أبرز المنصات لنشر المواهب السعودية والعربية عالميا، وبدعم من وزارة الثقافة وهيئة الأفلام، وصار عنوان السينما السعودية للعالم

برنامج صناع الأفلام

برنامج مخصص للهواة والمحترفين، ويخضع للإشراف الأكاديمي الدولي، ويهدف إلى تطوير القدرات الوطنية في الكتابة والإخراج والصناعة عموما. كما أودع، ضمن المنصة الوطنية بالتعاون مع الأرشيف الوطني، عدد كبير من الأفلام لحفظها وتثبيت حقوقها، بما يدعم الحفاظ على الهوية السينمائية.

"العلا" و"نيوم" في الأفلام العالمية

بدأت مناطق مثل العلا ونيوم محاولاتها لتصبح وجهات جذب للإنتاج العالمي، بالإمكانات والمواقع الطبيعية والمرافق المتطورة، وهي تستفيد من استرداد نقدي منافس عالميا. ومن أبرز الإنتاجات العالمية التي صورت هناك "محارب الصحراء" بالكامل في نيوم، وفيلم "قندهار" في العلا وجدة.

Shutterstock
طفل يركز على مشاهدة "يوتيوب "عبر هاتف ذكي

الإطار التشغيلي: شباك التذاكر

ما لم يكن احد يتخيله أن السعودية التي كانت السينما فيها محظورة قبل عقد مضى، أصبحت اكبر سوق لها. فنمت إيرادات شباك التذاكر في السعودية لتصل إلى 250 مليون دولار في 2022، وهي الأسرع نموا في الشرق الأوسط. من المتوقع أن تصل عائدات الإنتاج السينمائي إلى نحو 1.3 مليار دولار في نهاية هذا العام. فقد توسع عدد دور العرض السينمائي إلى 528 شاشة في 20 مدينة، وقطاع الإنتاج السعودي أصبح أسرع نموا في المنطقة.

مهرجان البحر الأحمر

أصبح "مهرجان البحر الأحمر السينمائي" من أبرز المنصات لنشر المواهب السعودية والعربية عالميا، وبدعم من وزارة الثقافة وهيئة الأفلام. صار عنوان السينما السعودية للعالم. وشمل الدعم إنتاجات وثائقية وسينمائية رشح بعضها إلى مهرجانات الأوسكار وبيروت والبندقية. وفاز فيلم "نورة" من إخراج توفيق الزايدي، بجائزة أفضل فيلم سعودي في النسخة الثالثة، وشارك في قسم "نظرة ما" في "مهرجان كان السينمائي" 2024. ومنحت جائزة Chopard للممثلة رولا دخيل الله عن فيلم "أنا وسائقي". وقد عزز المهرجان الحوار بين صناعة السينما العالمية، بما في ذلك حضور متوازن للفن الهندي (بوليوود) والإعلام الغربي، وتشجيع التبادل عبر masterclasses  وجلسات Red Sea 360°

font change