التجاذب الروسي – الفرنسي... على محك الحرب الأوكرانية والأمن الأوروبي

في عالم يتفاقم فيه الارتباك الاستراتيجي ويطغى عليه عدم اليقين

غيتي
غيتي
وصل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مقر المستشارية في برلين، ألمانيا، في 19 يناير 2020

التجاذب الروسي – الفرنسي... على محك الحرب الأوكرانية والأمن الأوروبي

احتفلت أوروبا وروسيا في مايو/أيار الماضي بالذكرى الثمانين لنهاية الحرب العالمية الثانية، وفي الوقت نفسه شهدنا تكريس انهيار النظام الدولي الذي انبثق عنها. وانقسمت القارة القديمة قارتين تفصل بينهما أوكرانيا، دولةٌ في حالة حرب، أعادها النزاع الدائر إلى مصيرها الذي دام قرونًا كأرضٍ للدماء. إنهما قارتان أوروبيتان في قلب فوضى عالمية تُهيمن عليها قوى أخرى كبرى.

وسط هذا الشرخ، يبرز التجاذب الروسي-الفرنسي مترجماً الانقسام حول مصير أوكرانيا ومنظومة الأمن الأوروبية، ومعبراً عن الهاجس الأوروبي من الشهية الروسية للتوسع، وكذلك عن خشية موسكو من اقتراب "الناتو" من حدود الاتحاد الروسي ومن التهديد الغربي.

بيد أن الأبعاد التاريخية والثقافية والاقتصادية تدفع بباريس وموسكو إلى عدم القطيعة والتفتيش عن نقاط التقاء بالرغم من الخطاب المتوتر أحياناً.

منعطف الحرب

اتسمت العلاقات الفرنسية-الروسية بعد الحرب الباردة بصعود وهبوط، وتراوحت بين فترات تقارب وتوتر.

لقد تمكن البلدان من تعزيز علاقاتهما السياسية والثقافية والاقتصادية في الحقبة التي أعقبت مباشرة الحرب الباردة، وخاصة خلال عهد الرئيسين جاك شيراك ونيكولا ساركوزي بين 1995 و2012، وبرز حجم من المصالح المشتركة، وتقاطع في النظرة حيال ملفات دولية، وتعاون حثيث في مجالي الطاقة ومكافحة الارهاب. إلا أن التناقضات حول قضايا جيوسياسية رئيسة، مثل أزمتي سوريا وأوكرانيا (اللتين اندلعتا بعد 2011) ألقت بظلالها على الصلات الثنائية وأعادت التجاذب بين باريس وموسكو.

واحتدم التوتر إثر قرار روسيا ضم شبه جزيرة القرم والصراع في دونباس (2014)، وأدت هذه الأحداث إلى فرض عقوبات أوروبية على روسيا، وشهدت تدهورًا كبيرًا في العلاقات الفرنسية-الروسية، تجسد في حقبة الرئيس فرنسوا هولاند (2012-2017) مع إلغاء فرنسا عقد بيع حاملات طائرات الهليكوبتر ميسترال لروسيا عام 2015. ورغم التوترات، حافظ البلدان على حوار سياسي واقتصادي، مُدركين أهمية إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة.

أصبح الأمن الأوروبي أكثر ارتباطا بالأمن في أوكرانيا. وهكذا تأكد تحول تموضع ماكرون من موقف وسيط إلى موقف متشدد في الآونة الأخيرة مع إعلاء الصوت إزاء خطورة التهديد الروسي

بيد أن الإحاطة بتطور علاقات باريس وموسكو، يستوجب التنبه إلى ثقل الأبعاد التاريخية من الإمبراطور نابليون الذي تحطمت أحلامه على أبواب موسكو إلى الرئيس جوزيف ستالين الذي ساعد الجنرال شارل ديغول على أخذ موقعه بين كبار ما بعد الحرب العالمية الثانية، بينما بقي ديغول مؤمناً بأوروبا "الممتدة من المحيط الأطلسي إلى جبال الأورال" وبأهمية العلاقة مع روسيا في عز الحرب الباردة.

وفي المرحلة المعاصرة، توالى أربعة رؤساء فرنسيين منذ تمركز الرئيس فلاديمير بوتين في الكرملين بداية الألفية الثالثة. وإذ تميزت العلاقة مع جاك شيراك بالتقارب والتفهم، وبتقاطع المصالح والتعاون مع نيكولا ساركوزي، وبالتوتر مع فرنسوا هولاند، عادت وبدت الانطلاقة قوية مع أول قمة بين ماكرون وبوتين في قصر فرساي (2017)، بالرغم من الجدل حول التدخل الروسي لصالح منافسته زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان. لكن الثقة تزعزعت حيال عدة ملفات وأبرزها الانتقاد الروسي للأداء الفرنسي ضمن صيغة النورماندي الرباعية (روسيا وأوكرانيا وفرنسا وألمانيا) حوّل اتفاقيات مينسك. وهكذا أصبحت العلاقات محكومة بتوازن القوى والبرغماتية، ودخلت منعطفا سلبياً بعد فشل وساطة ماكرون عشية الاجتياح الروسي لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022.

تحول ماكرون 

بعد دخول الحرب الأوكرانية سنتها الرابعة في 24 فبراير 2025، واتضاح عدم قدرة الرئيس دونالد ترمب الثاني على تحقيق تعهده بإنهائها، وجد الأوروبيون والأوكرانيون أنفسهم عالقين أكثر من أي وقت مضى بين فلاديمير بوتين ودونالد ترمب.

أ.ف.ب
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ووزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو قبل محادثات في كييف في 21 يوليو 2025

وأمام الكثير من العناصر المجهولة، أصبح الأمن الأوروبي أكثر ارتباطا بالأمن في أوكرانيا. وهكذا تأكد تحول تموضع إيمانويل ماكرون من موقف وسيط عند اندلاع النزاع إلى موقف متشدد في الآونة الأخيرة مع إعلاء الصوت إزاء خطورة التهديد الروسي. 

وتمكن التحالف الأميركي-الأطلسي-الأوروبي ومقاومة الأوكرانيين من إفشال خطة "القيصر الجديد" في تحقيق النصر السريع وإسقاط الحكم في كييف، لكن بعد سنة من التعثر أخذت روسيا تقضم المزيد من الأراضي في حرب استنزاف مؤلمة. ومع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض زادت المخاوف من احتمال إخضاع أوكرانيا ومن التهديد الروسي أوروبياً في ظل تراجع الالتزام الأميركي بدعم أوكرانيا. 

في إطار الرد على تلويح الرئيس الروسي السابق ديمتري مدفيديف بالسلاح النووي التكتيكي، قلل ماكرون منذ عامين من وزن التهديد الروسي

بالطبع، تتوجب إضافة العامل الداخلي الفرنسي والتوازنات الأوروبية من أجل فهم النقلة الماكرونية، إذ إن اليمين المتطرف كما اليسار الراديكالي يستخدمان رفض الانجرار إلى حرب مع روسيا، كذريعة لتبرير تموضعهم السياسي ومعاركهم الانتخابية. بينما تسود الشكوك حول اختراق روسي للرأي العام الأوروبي والمشهد السياسي الأوروبي عبر الرهان على صعود "أممية اليمين المتطرف الشعبوي" التي انتعشت في حقبة دونالد ترمب- جيه دي فانس.

في سياق السنوات الماضية راهنت فرنسا على أن "تحقيق انتصار ساحق لأحد الطرفين سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار"، وكانت تحبذ نصف انتصار يسمح بتسهيل التوجه إلى طاولة المفاوضات. لكن هذا الرهان كان صعب المنال إذ إن بوتين أصر على الذهاب بعيدا كي يطوع أوكرانيا، وكذلك يتمسك فلوديمير زيلينسكي بموقفه الصلب. لكن في موازاة المأزق، تدور حرب الاستنزاف لصالح موسكو ولو ببطء. ولذا مع سقوط محاولات ترمب للتسوية بعد سبعة شهور من تمركزه في البيت الأبيض، ونظرا لعدم وجود قطب جيوسياسي أوروبي مستقل قادر، تصاعدت الحدة في الخطابين الروسي والفرنسي إزاء تطورات الأسابيع الأخيرة.

المقاربة الفرنسية لفكرة "التهديد الروسي" 

في نطاق المبارزة عن بُعد والتصعيد الكلامي بين الجانبين الفرنسي والروسي، وفي إطار الرد على تلويح الرئيس الروسي السابق ديمتري مدفيديف بالسلاح النووي التكتيكي، قلل ماكرون منذ عامين من وزن التهديد الروسي قائلا: "روسيا ليست قوة كبرى، بل قوة متوسطة بأسلحة نووية ويجب عدم الخوف من تهديدات روسيا". وفي السياق نفسه غمز حينها بوتين من قناة ماكرون بجزمه أن "موقف فرنسا من الأزمة في أوكرانيا ينبع من الضغينة حيال النفوذ الروسي المتزايد في أفريقيا". وهكذا كان الصراع التنافسي في القارة السمراء موازيا للصراع الأوكراني ويندرج في الاشتباك الدولي الأوسع.

إلا أن تطورات عام 2025، أدت إلى تغيير في المقاربة الفرنسية لـ"الخطر الروسي" دشنها الرئيس ماكرون عندما اعتبر في خطاب متلفز ألقاه في الخامس من مارس/آذار الماضي، أن روسيا تمثل "تهديداً لفرنسا وأوروبا يتجاوز أوكرانيا". لكن السفير الروسي في باريس رد حينها متسائلا: "من هدد الآخر عبر التاريخ، إذ إن روسيا لم تهدد يوماً فرنسا، بل العكس هو الذي حصل مع نابليون الأول وحرب القرم في عهد نابليون الثالث". 

 وتبعاً لتصعيد الدور الأوروبي في المسألة الأوكرانية وإدانة موسكو للمواقف الأوروبية كما فعل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي أدان عدوانية أوروبا بقوله: "على مدار 500 عام، كانت كل مآسي العالم تنبع من سياسة أوروبا: الاستعمار، الحروب الصليبية، نابليون، هتلر، الحربان العالميتان"، وذهب ثعلب السياسة الروسية بعيداً بتحديد: "إذا نظرنا للتاريخ، لم تلعب أميركا دوراً تحريضياً ضد روسيا".

تتقاسم الأوساط الاستراتيجية الأوروبية الانطباع عن مخاطر هجوم روسي على حلف شمال الأطلسي خاصة في البلطيق، وتعتقد أن احتمال مجابهة روسية مع بولندا يزداد مع الوقت

إزاء عودة ألمانيا لتحمل مسؤولياتها الأوروبية ورفع نفقاتها العسكرية ودعم أوكرانيا، ركزت روسيا على خطر عودة "التهديد الألماني" مع الغمز من قناة باريس ولندن. ولذا تقوم ماريا زاخاروفا الناطقة باسم الخارجية الروسية، باستهداف الأطراف الأوروبية بالمفرد وبالجملة: "يجب على المتهورين في برلين والعواصم الأوروبية الأخرى أن يدركوا أن موسكو سوف ترد بسرعة وبقوة على أي خطوات عسكرية من أجل منع التهديدات، كما أن روسيا لا تنوي مهاجمة ألمانيا"، وأوضحت الناطقة أن "الهدف هو منع التهديدات وليس التصعيد". وبخصوص إعلان باريس ولندن إبان زيارة الدولة الأخيرة التي قام بها إيمانويل ماكرون إلى لندن عن "التنسيق بين القدرات النووية الفرنسية والبريطانية من أجل حماية أوروبا"، أعلنت زاخاروفا محذرة: "يتعين على فرنسا أن لا تنسى قدرات الردع النووي الروسية". 

غيتي
قافلة من المركبات العسكرية الروسية تتجه نحو الحدود في منطقة دونباس شرق أوكرانيا، في مدينة روستوف الحدودية الروسية في 23 فبراير 2022

ضمن التداعيات القائمة، حدد رئيس الأركان الفرنسي السابق الجنرال تييري بوركارد أن "فرنسا مستهدفة بإجراءات هجينة تشمل التضليل والهجمات الإلكترونية والتجسس من قبل روسيا"، وأسهب بوركارد في مداخلته متطرقا إلى "التهديدات التي تواجه فرنسا" من روسيا، التي وصفها بأنها "تهديد دائم". ولتبرير مقاربته قال القائد العسكري الفرنسي إن "روسيا هي التي (...) صنفت فرنسا علنًا كخصمها الرئيس في أوروبا". علما أن مدير مركز دراسات أوروبي في فنلندا يعتقد أن "موسكو التي تعتبر ألمانيا هاجسها الأول، تعير اهتماما خاصا لفرنسا نظرا لقدرتها على لعب دور ضابط الإيقاع الأوروبي في المنعطفات الحرجة".

تتقاسم الأوساط الاستراتيجية الأوروبية الانطباع عن مخاطر هجوم روسي على حلف شمال الأطلسي خاصة في البلطيق، وتعتقد أن احتمال مجابهة روسية مع بولندا يزداد مع الوقت ويمكن أن يحصل قبل 2030، لكن كل ذلك لا يعني أن الحرب الروسية-الأوروبية المباشرة واقعة غداً أو أن فرنسا ستتعرض لهجوم مباشر ضد أراضيها وذلك كونها "قوة نووية محمية بردعها الذاتي"، حسب قناعة صناع القرار في باريس. 

يتضح من خلال هذه اللوحة ضبابية في الرؤى الأوروبية وتردداً في تحديد الخيارات ووضع الاستراتيجية الملائمة لمقاربة التهديد الروسي. 

يشمل ذلك فرنسا بالطبع. ولوحظ هذا التخبط بعد تصعيد فرنسي أعقب محادثة هاتفية بين الرئيسين الفرنسي والروسي يوم الأول من يوليو/تموز الماضي. وشملت إيران وأوكرانيا. وكانت أول مكالمة بينهما منذ ثلاث سنوات وشكلت حدثاً بحد ذاته. 

وفي المنحى العام، يتقاطع أمين عام حلف شمال الأطلسي مارك روته مع رئيس الوزراء الفرنسي فرنسوا بايرو، إذ اعتبر الأول أن "عالم ما بعد الاتحاد السوفياتي انتهى، وبوتين توسعي وبعد انتهائه من أوكرانيا سيأتي إلى الجبهة الشرقية لأوروبا واقتصاده اقتصاد حرب. حيث تنتج روسيا من الأسلحة خلال ثلاثة أشهر ما تنتجه كل دول (الناتو) خلال عام". أما الثاني فيعتقد أننا أمام "عالم جديد"، وهو عالمٌ "يغلب عليه مبدأ القوة"، ويعود هذا التحول إلى 24 فبراير 2022، تاريخ اجتياح روسيا بقيادة بوتين لأوكرانيا.

هكذا في عالم يتفاقم فيه الارتباك الاستراتيجي ويطغى عليه عدم اليقين وشبح الحروب الجديدة في أوروبا، يحتدم التجاذب الروسي-الفرنسي أكثر من أي وقت مضى.

font change