كيف تنعش الطاقة المتجددة التنمية الريفية العربية؟

الكهرباء المستدامة للأرياف تتحقق عندما تطور الحكومات نماذج مبتكرة بالشراكة مع المجتمعات المحلية

Shutterstock
Shutterstock

كيف تنعش الطاقة المتجددة التنمية الريفية العربية؟

يرتبط قطاع الطاقة في العالم العربي بالمشاريع الضخمة التي تقودها دول الخليج، مثل أكبر مشروع للهيدروجين الأخضر في العالم في نيوم، ومجمع محمد بن راشد آل مكتوم للطاقة الشمسية بقدرة 5 غيغاوات في دبي. مع ذلك، تشهد المناطق الريفية في شمال أفريقيا والمشرق العربي مساهمة هادئة في التحول في مجال الطاقة. وتتصدر المجتمعات المحلية حلول الطاقة المتجددة المبتكرة القائمة على التمويل المختلط، والملكية المجتمعية، والتنمية المحلية.

على سبيل المثل، مكّن نهج التمويل الذي اتبعته المغرب من تحقيق مد شبكة كهرباء شبه شاملة في المناطق الريفية، في حين ساهمت أنظمة الطاقة الشمسية المحلية في لبنان، التي نشأت عقب انهيار شبكة الكهرباء، في توفير كهرباء موثوق بها وتعزيز القدرات المحلية على الصمود. تظهر هذه النماذج مساهمة جدية للتحول في مجال الطاقة واستدامة قطاع الكهرباء، ليس من حيث الحجم، وإنما من خلال القدرة على الصمود والتكيف وتأمين الخدمة والملكية المحلية.

الابتكار لتوليد الطاقة في الريف

حققت المنطقة العربية تقدما ملحوظا في الحصول على الكهرباء مقارنة بالأقاليم النامية الأخرى، إذ ارتفع معدل الوصول إلى الكهرباء حاليا إلى 91 في المئة بعد أن كان 88.4 في المئة في عام 2010. وعلى الرغم من هذا التقدم، تعاني المجتمعات الريفية في العديد من الدول العربية من عدم انتظام الخدمات، وارتفاع في تكلفة الكهرباء، وتأخيرات طويلة في إيصال الخدمة.

إدراج الملكية المجتمعية في تصميم المشروع يضمن المشاركة الفعالة لأصحاب المصلحة المحليين واستدامة مبادرات الطاقة المتجددة

وقد تبين أن النهج التقليدي الذي يقوم على تمديد خطوط الكهرباء من المدن إلى المناطق الخارجية مكلف وبطيء في ما يتعلق بالقرى المتناثرة. لكن هذه الفجوة في البنية التحتية أطلقت الحاجة الى الابتكار في إيصال الطاقة إلى المناطق الريفية، وكشفت عن عوامل مهمة في تصميم حلول الطاقة المستدامة للمجتمعات الريفية.

سبل التمويل والملكية المجتمعية

أولا، التحول عن تمويل البنية التحتية التقليدية مثل التمويل العام أو القروض التجارية نحو آليات تمويل مبتكرة ومختلطة تجمع بين موارد متنوعة من الجهات المعنية العامة والخاصة والدولية. ثانيا، إدراج الملكية المجتمعية في تصميم المشروع يضمن المشاركة الفعالة لأصحاب المصلحة المحليين واستدامة مبادرات الطاقة المتجددة. أخيرا، دمج هذه المشاريع في أطر تنموية أوسع يحقق فوائد دائمة تتجاوز الحصول على الكهرباء، وتدعم النمو الاقتصادي المحلي وبناء القدرات. وتشكل هذه العناصر مجتمعة استراتيجيا متماسكة تتيح الوصول العادل والمستدام إلى الطاقة في جميع المجتمعات الريفية.

 UNDP
ألواح شمسية في جبل بلدة قبريخيا في لبنان

أظهرت التجربة في معظم البلدان، لا سيما ذات الدخل المتوسط والمنخفض، أن النماذج التقليدية التي تركز على الاستثمارات المركزية الواسعة النطاق باهظة التكلفة وغير كافية للوصول إلى المجتمعات الريفية المتناثرة. وهكذا ظهرت آلية تمويل جديدة لجمع رأس المال من خلال أطر تمويل مختلطة ومبتكرة. تجمع هذه النماذج بين التمويل العام واستثمارات القطاع الخاص، وتمويل التنمية الدولية، ومساهمة المجتمعات المحلية لتطوير مشاريع أكثر قابلية للتمويل وتتكيف مع وقائع السياقات الريفية. ومن ثم فإنها تعزز تقاسم التكاليف وتشارك الأخطار وتسريع التنفيذ. التمويل المختلط عامل أساس في جعل كهربة المناطق الريفية ميسورة التكلفة وقابلة للتوسعة، وقد ازدهر في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

تقدم رحلة إيصال الكهرباء الى المناطق الريفية في المغرب مثلا رائدا على كيفية حصول المجتمعات الريفية على طاقة شاملة بسرعة من طريق التمويل المختلط. فبين عام 1990 ومنتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أحدثت البلاد تحولا في مشهد ربط المناطق الريفية بالكهرباء، وذلك برفع نسبة الحصول على الكهرباء من 18 في المئة فقط إلى تغطية شبه شاملة.

ارتكز نجاح برنامج إيصال الكهرباء الى المناطق الريفية في المغرب على التمويل المختلط، بين العام والخاص والدولي. وقد وفر المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب نحو 75% من تكاليف تأمين الكهرباء عبر الطاقة الشمسية

وقد استهدف قسم رئيس من هذا الجهد المجتمعات النائية - حيث كان نحو 5 في المئة من السكان يحصلون على الكهرباء - من خلال شبكات طاقة متجددة صغيرة أو نماذج خدمات أنظمة الطاقة الشمسية خارج الشبكة التي يملكها المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب ويديرها القطاع الخاص من خلال اتفاقات امتياز طويلة الأجل.

التجربة الناجحة للمغرب

بالإضافة إلى الدعم السياسي القوي والتنسيق المؤسسي، ارتكز نجاح برنامج إيصال الكهرباء الى المناطق الريفية في المغرب إلى حد كبير على التمويل المختلط، الذي يجمع مصادر التمويل العامة والخاصة والدولية. وقد وفر المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب نحو 75 في المئة من تكاليف تأمين الكهرباء عبر الطاقة الشمسية باستخدام إيرادات من ضريبة الدعم المتبادل، والقروض الميسرة والتمويل بالأسهم، والتمويل من الجهات المانحة الدولية. أما الـ 25 في المئة المتبقية فقد دفعها المستخدمون النهائيون، بدعم في الغالب من البلديات المحلية الممولة من مخصصات ضريبة القيمة المضافة والصناديق الوطنية.

Shutterstock
محطة نور لتوليد الطاقة الكهربائية في وزازات في المغرب

أثبتت الملكية المجتمعية أهميتها الحاسمة في استدامة الوصول إلى الطاقة في المناطق الريفية، متجاوزة المشاركة لبناء القدرات والملكية المحلية. وتقدم أنظمة الطاقة الشمسية المجتمعية في لبنان مثلا مقنعا. فمع تدهور الشبكة الوطنية تحت وطأة الضغوط الاقتصادية والسياسية، سعت القرى إلى إيجاد بدائل لمولدات الكهرباء بالديزل غير الموثوق بها والمكلفة. فظهرت في قرية قبريخا أول مبادرة مجتمعية للطاقة الشمسية في لبنان وشكلت نموذجا رائدا. يكمل هذا النظام الشبكة الوطنية أو المولدات المحلية خلال فترات انقطاع التيار الكهربائي ويوفر كهرباء ثابتة ومستمرة للمنازل. ومنذ ذلك الحين، اتبعت أنظمة مماثلة في جميع أنحاء البلاد.

الإدارة عبر تعاونيات مجتمعية

يمكن أن تدار هذه المبادرات أيضا على طريقة التعاونيات، فيجمع أفراد المجتمع المحلي الأموال ويتقاسمون التكاليف المترتبة على النظام وفوائده. يبني هذا النموذج الملكية والمعرفة المحلية، إذ يتعلم السكان كيفية صيانة البطاريات وتنظيف الألواح وإصلاح الأعطال. وتزدهر هذه الأنظمة لأنها جزء لا يتجزأ من الهياكل الاجتماعية المحلية وعمليات اتخاذ القرار. كما يدفع الأعضاء رسوما شهرية لتغطية تكاليف التشغيل وبناء احتياطيات لاستبدال المعدات، ومن ثم تعزيز الاستدامة والقدرة على الصمود على المدى الطويل.

نقص الطاقة يرتبط ارتباطا وثيقا بمحدودية النشاطات المدرة للدخل، وسوء تقديم الخدمات، والتفاوت بين المناطق. ومن دون وجود طاقة يعتمد عليها، تواجه المجتمعات الريفية صعوبة في تشغيل المدارس والعيادات والري والشركات، مما يزيد الفقر

مع ذلك، تجب أيضا مراعاة التمويل المختلط عند تمويل الأنظمة المجتمعية، لأن الأسر والشركات الريفية ربما تفتقر إلى رأس المال الكافي، وقد لا تكون قادرة على تحمل الأخطار المالية. وربما تتعثر آليات التمويل التي تعتمد فقط على مساهمات المستهلكين في المناطق الريفية إذا كانت مستويات الدخل غير مستقرة. وتبرز هذه الأخطار أهمية الدعم المؤسسي القوي والإشراف وخطط الطوارئ.

الطاقة المتجددة كعامل محفز للتنمية

من أدوار الطاقة المتجددة الريفية التي يغفل عنها كثيرا مع أنها قوية، قدرتها على تحفيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية. فالفقر في مجال الطاقة يرتبط ارتباطا وثيقا بمحدودية الأنشطة المدرة للدخل، وسوء تقديم الخدمات، والتفاوت بين المناطق. ومن بدون وجود طاقة يعتمد عليها، تواجه المجتمعات الريفية صعوبة في تشغيل المدارس والعيادات والري والشركات، مما يعزز حلقات الفقر.

Shutterstock
ألواح شمسية تمتد على صحراء مدينة دبي لتوليد الطاقة، 17 يناير 2018

تشكل الطاقة المتجددة مسارا للتحول، ومن الممكن نشر أنظمة الخلايا الكهروضوئية الصغيرة والمتوسطة الحجم بسرعة وتكييفها مع الاحتياجات المحلية. فهي تتيح التبريد لتخزين المحاصيل، وتزويد العيادات الصحية وورش العمل الطاقة، ودعم الاتصال، وتمديد ساعات الإنتاج. ولكن للوفاء بهذا الوعد، يجب أن يتكامل الحصول على الطاقة مع استراتيجيات توفير سبل العيش والتعليم والتمكين.

من المبادرات التي تجسد ذلك، "المبادرة الإقليمية لتعزيز تطبيقات الطاقة المتجددة صغيرة السعة في المناطق الريفية في المنطقة العربية" التي أطلقتها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا). فقد دعمت المبادرة الزراعة والمنشآت والتعاونيات التي تقودها النساء من خلال أنظمة طاقة مصممة حسب الحاجة ودعم الأعمال، وذلك بالجمع بين الحصول على الطاقة والتنمية الاقتصادية وتمكين المرأة، مما يثبت أن الطاقة يمكن أن تدفع عجلة التنمية الشاملة.

توضح التجارب في المغرب ولبنان وغيرهما أن الكهرباء المستدامة للمناطق الريفية تتحقق عندما تتجاوز الحكومات النهُج التقليدية لتمديد الشبكات وتتبنى نماذج مبتكرة في الملكية والتمويل تتناسب مع السياقات المحلية

ثمة ركيزة أساسية يبرزها هذا النموذج، وهي أن حلول الطاقة يجب أن تتجاوز الاحتياجات الأساسية لتفتح آفاقا اقتصادية أرحب.

من النموذج التجريبي إلى السياسة والتنظيم

يمكن سد فجوة الطاقة الريفية في المنطقة العربية بتوسيع نطاق النماذج التي ثبتت جدواها وتقوم على التمويل المختلط والملكية المجتمعية والتصميم الموجه نحو التنمية. وتوضح الأمثلة من المغرب ولبنان وغيرهما أن الكهرباء المستدامة للمناطق الريفية تتحقق عندما تتجاوز الحكومات النهُج التقليدية لتمديد الشبكات وتتبنى نماذج مبتكرة تتناسب مع السياقات المحلية.

ويجب تطوير أطر السياسات لإدامة هذه الجهود وتوسيع نطاقها. ويجب على الحكومات إضفاء الطابع المؤسسي على آليات التمويل المختلطة التي تجمع رأس المال العام والخاص وأموال المانحين لتقليل العبء المالي الذي تتحمله الأسر الريفية ومنشآت الأعمال الصغيرة.

أ.ف.ب.
محطة الجمهور لتوليد الطاقة شرق بيروت، 2 نوفمبر 2023

كما يجب دعم الملكية المحلية للمجتمعات. لكن ذلك يتطلب اعترافا قانونيا بنماذج الطاقة المجتمعية، وإجراءات واضحة لإنشاء التعاونيات، والحصول على المساعدة التقنية. كما أن الوضوح التنظيمي في شأن قياس الاستهلاك الصافي، والترخيص، وتعريفات تغذية الشبكة الكهربائية أمر ضروري لتحفيز المشاركة وتوسيع النطاق.

أخيرا، يجب أن تتكامل برامج الطاقة الريفية تماما مع استراتيجيات التنمية الوطنية، وأن يكون الحصول على الطاقة حافزا للإنتاجية الريفية، وخلق فرص العمل، والنمو الشامل. وعلى صانعي السياسات منح الأولوية للأطر التنظيمية الشاملة، وآليات التمويل الدائم، والمشاركة المجتمعية الهادفة لكي تتحول هذه المبادرات إلى تغيير منظم ذي تأثير مستدام.

font change

مقالات ذات صلة