مقاهي مصر مزدهرة... ومن ملتقى المثقفين إلى حاضنات أعمال للشباب

تنهض من تحت الجسور مشاريع "بزنس" مربحة وملاذات اجتماعية للترفيه و"التنفيس" والهروب من التضخم

أليكس رانجل غارسيا
أليكس رانجل غارسيا

مقاهي مصر مزدهرة... ومن ملتقى المثقفين إلى حاضنات أعمال للشباب

يشهد قطاع المقاهي في مصر طفرة لافتة في ظل التحديات الاقتصادية. فعلى الرغم من التضخم المتواصل وارتفاع أسعار المشروبات والإيجارات، باتت المقاهي أحد أبرز ملامح الحياة اليومية للمصريين، حيث يجتمع فيها الترفيه والعمل، وتزدهر فيها مشاريع الشباب، وتتلاقى الأجيال. بين مقاهٍ شعبية في الحارات، وأخرى حديثة تحت الجسور، يظهر اقتصاد جديد يعبّر عن تغير في الثقافة والسلوك والاستهلاك.

تزدهر السياحة في البلاد، وتتحول المقاهي إلى رافد اقتصادي وسياحي، بحيث تطرح هذه الظاهرة أسئلة عن أثرها الحقيقي في المجتمع، البيئة، والمدينة. فعلى الرغم من الغلاء المستفحل، والتراجع المستمر في القدرة الشرائية للمصريين، لا تزال المقاهي، بكل أنواعها، تحافظ على وهجها وحضورها في المشهد الاجتماعي والاقتصادي للبلاد.

في القاهرة وحدها، لا يخلو حي أو زقاق من مقهى شعبي (قهوة) أو حديث (كافيه). ومع اشتداد الأزمة الاقتصادية، بات كثيرون من المواطنين يفضلون لقاءاتهم وجلساتهم إلى طاولات المقاهي، حتى ولو اضطروا إلى الاستغناء عن ضروريات أخرى. يقول يوسف أنسي، وهو موظف حكومي في الأربعين من العمر: "لم يعد هناك مكان نرتاح فيه أو نلتقي بالأصدقاء سوى المقهى. لم يعد النادي الرياضي في المتناول، والمنازل لا تصلح دائما للقاءات".

يستفاد من إحصاءات وزارة السياحة، أن مصر استقبلت نحو 8.7 ملايين سائح في النصف الأول من عام 2025، بزيادة نسبتها 24 في المئة عن الفترة نفسها من العام السابق

يظهر تقرير للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أن معدل التضخم السنوي انخفض في يونيو/حزيران 2025 إلى 14.4 في المئة، مقارنة بـ16.5 في المئة في مايو/أيار، لكنه لا يزال مرتفعا بما يكفي لزيادة أسعار المواد الغذائية الأساسية. فقد ارتفعت أسعار البن والشاي والكاكاو بنسبة 6.5 في المئة، والمشروبات الغازية والعصائر بنسبة 18.9 في المئة. لكن الإقبال على المقاهي مستمر، بل يزداد في بعض المناطق، مما يعكس "ارتباطا نفسيا واجتماعياً بالمقهى كمكان للهروب من الضغوط".

قطاع المقاهي والنسيج السياحي

اللافت أن المقاهي لم تعد مجرد أماكن محلية، بل صارت جزءا من النسيج السياحي لمصر. ويستفاد من إحصاءات وزارة السياحة، أن البلاد استقبلت نحو 8.7 ملايين سائح في النصف الأول من عام 2025، بزيادة نسبتها 24 في المئة عن الفترة نفسها من العام السابق. ومع هذه الطفرة، قفز الطلب على خدمات المقاهي، خصوصا في المناطق التاريخية والسياحية مثل خان الخليلي، شارع المعز، منطقة مصر القديمة، ومحيط المتاحف. وتحولت بعض المقاهي إلى وجهات سياحية بحد ذاتها، كما في حالة "قهوة نجيب محفوظ" أو مقاهي شارع المعز التي تقدم تجربة تاريخية متكاملة.

Shutterstock
قهوة "الفيشاوي" التاريخية

يؤكد الدكتور مجدي سليم، الخبير السياحي، أن "سياحة المقاهي موجودة في دول كثيرة مثل فرنسا وإيطاليا، حيث يقترن اسم المقهى بالمكان السياحي". ويضيف: "في مصر، لدينا مقومات سياحية مميزة تسمح بنمو هذا النمط، خصوصا في القاهرة التاريخية والإسكندرية وأسوان والأقصر". ويلفت سليم إلى أن مقهى في شارع المعز، مثلا، يمكن أن يجمع بين الطابع الفاطمي وتجربة القهوة الشرقية، مما يضيف بعدا ثقافيا وسياحيا غنيا، داعيا إلى دمج المقاهي السياحية في خطط الترويج للمدن المصرية.

المقاهي تحت الجسور: من الاستغلال إلى الجدل

مع التوسع العمراني وانتشار الكباري في القاهرة الكبرى، هناك ظاهرة جديدة تمثلت في استغلال المساحات أسفل الجسور لإنشاء كافيهات ومطاعم. وبينما كانت تلك المساحات مخصصة لانتظار السيارات، أو مهملة في بعض الأحيان، تحوّلت اليوم إلى مشاريع استهلاكية تجتذب المستثمرين والمستهلكين على حد سواء. لكن هذه الظاهرة، وإن كانت تساهم في توظيف مساحات غير مستغلة، تثير تساؤلات حول البيئة والسلامة العامة والمرور. فغياب ممرات المشاة، وتزاحم السيارات، والتلوث الناتج من "الشيشة" (النرجيلة) وغيرها من الممارسات، يجعل البعض ينظر إلى هذه المقاهي كتهديد لجمالية المدينة ونظامها المروري.

المقاهي تحت الكباري تتسبب في إرباك مروري واضح، لأنها تُنشَأ في أماكن غير مهيأة لاستقبال هذا النوع من النشاط ، كما يجب أن يراعي التأجير الاستثماري شروط البيئة والسلامة، وإلا تحولت المقاهي إلى عبء حضري

وائل جورج، مهندس مصري

يرى المهندس وائل جورج أن "المقاهي تحت الكباري تتسبب في إرباك مروري واضح، لأنها تُنشَأ في أماكن غير مهيأة لاستقبال هذا النوع من النشاط". ويضيف: "التأجير الاستثماري يجب أن يراعي شروط البيئة والسلامة، وإلا تحولت المقاهي إلى عبء حضري". ويقول المواطن مايكل عماد وهو من سكان منطقة مدينة نصر: "لا نستطيع النوم بسبب أصوات الأغاني والضجيج الصادر عن كافيه أسفل الجسر القريب من بيتنا. أصبحت حياتنا لا تطاق".

اقتصاد المقاهي: مشاريع صغيرة تولّد فرصا كبرى

أمام البطالة وغلاء المعيشة، لجأ كثيرون من الشباب إلى تأسيس مقاهٍ صغيرة كمصدر رزق. فالمشروع لا يحتاج إلى رأس مال ضخم، ويعتمد أساسا على الموقع الجيد وقربه من التجمعات السكانية، أو الجامعات، أو المستشفيات، أو المحاكم. ويؤكد محمد جمعة، صاحب كافيه صغير في حي الزيتون، أن "مشروعي بدأ بمبلغ متواضع، واليوم لدي أربعة موظفين ودخل شهري يكفيني ويوفر لي استقرارا".

غيتي
سياح يحتسون القهوة في مقهى شعبي وسط خان الخليلي، القاهرة 9 مارس 2024

تولي الدولة هذا القطاع اهتماما من ضمن سياساتها لدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة. يقول مسؤول في أحد المصارف الحكومية إن المصرف يمول أصحاب المقاهي وفق برامج خاصة بشرط وجود قوائم مالية منتظمة، مؤكدا أن هذا القطاع "يساهم بنحو 80 في المئة من الناتج المحلي، ويشغّل ملايين العمالة، النظامية وغير النظامية". وعلى رغم التحديات، يظل المردود المالي من المقاهي مشجعا، ولا سيما مع ازدياد الطلب على الترفيه والعمل في أماكن عامة.

المقهى كحاضنة متعددة الوظائف

لم تعد المقاهي تقتصر على كبار السن أو المتقاعدين، بل أصبحت مقصدا لطلاب الجامعات، ورواد الأعمال، والعاملين عن بعد. فمع تحوّل نمط الحياة، بات المقهى مكانا للدراسة، وعقد الاجتماعات، ومتابعة مباريات كرة القدم، وحتى اللقاءات العائلية. تقول يوستينا ماجد، الطالبة في كلية الطب، إنها تدرس يوميا في كافيه قريب من الجامعة: "البيت مزدحم ولا أستطيع التركيز. الكافيه بات مكاني المفضل للمذاكرة".

لا توجد إحصاءات رسمية دقيقة عن عدد المقاهي في مصر، خصوصا بعد التوسع العشوائي في السنوات الأخيرة. من القاهرة إلى الإسكندرية، تنتشر المقاهي في كل مكان، حتى أصبحت المسافة بين كل مقهى وآخر 500 متر فقط في بعض الأحياء

وفي الوقت ذاته، يلاحظ أصحاب المقاهي ارتفاع تكلفة التشغيل. فأسعار المشروبات تضاعفت ثلاث مرات خلال سنة، نتيجة ارتفاع أسعار البن عالميا. أضف إلى ذلك الضرائب والكهرباء والرسوم البلدية التي أثقلت كاهل المستثمرين. يقول مالك مقهى في الكربة: "قبل سنة كانت القهوة بـ 30 جنيها، اليوم أصبحت بـ 70 جنيها. ومع ذلك، الزبون يأتي لأن المقهى أصبح حاجة اجتماعية ونفسية". بينما تتراوح أسعار المشروبات في الكافيهات الحديثة من "القهوة الأميركاني" وأنواعها او أي من المشروبات ما بين 150 جنيها الى 200.

تاريخ من "الشيشة" إلى الإنترنت المجاني

في القرن العشرين، كانت مقاهي وسط البلد في القاهرة ملتقى للأدباء والمفكرين والسياسيين. مقاهي "ريش" و"زهرة البستان" و"الفيشاوي" كانت شاهدة لحوارات نجيب محفوظ، وجلسات المثقفين، ونقاشات اليساريين والليبيراليين. اليوم، تغيّر الوجه، لكن الوظيفة الأساس بقيت. لا يزال المقهى مساحة للحوار، لكنه أصبح أيضا مرآة لتحولات المجتمع. من "الشيشة" إلى الإنترنت المجاني، ومن الكراسي البلاستيكية إلى الأرائك الوثيرة، تغير الشكل لكن الجوهر لا يزال قائما: مكان يجمع الناس.

غيتي
سوق خان الخليلي الشعبي الذي يتكون من عشرات المقاهي، القاهرة 9 مارس 2024

لا توجد إحصاءات رسمية دقيقة عن عدد المقاهي في مصر، خصوصا بعد التوسع العشوائي في السنوات الأخيرة. من القاهرة إلى الإسكندرية، ومن مرسى مطروح إلى شرم الشيخ، تنتشر المقاهي في كل مكان، حتى أصبحت المسافة بين كل مقهى وآخر 500 متر فقط في بعض الأحياء. وتتحول بعض المناطق الراقية إلى "عشوائيات مقاه"، كما في حالتي مصر الجديدة والكوربة، بسبب التعدي على الأرصفة والشوارع. ومع غياب الرقابة الصارمة، تجد أصحاب المقاهي يتوسعون أفقيا من دون حسيب أو رقيب.

مصدر دخل وملاذ اجتماعي

وعلى الرغم من ذلك، لا تزال المقاهي تمثل فرصة لعدد من الأسر التي تعيش على الكفاف. هي مصدر دخل، وملاذ اجتماعي، بل أصبحت لبعض الشباب "مكانا بديلا للحلم" في ظل انسداد آفاق الوظائف. تجمع المقاهي في مصر مفارقة عجيبة: فهي في الوقت نفسه انعكاس للأزمة الاقتصادية، وحل من حلولها. تتيح فرص عمل، وتفتح آفاقا للشباب، وتمنح الناس متنفسا في مدينة تزداد ضغوطها. لكنها أيضا تنتج فوضى عمرانية، وتضاعف أزمات المرور، وتساهم في الإنفاق العشوائي. فهل انتشار المقاهي – خصوصا تحت الجسور – ظاهرة إيجابية يجب تنظيمها وتطويرها؟ أم أنها مؤشر الى أزمة أعمق في التخطيط والثقافة والاقتصاد؟ الإجابة ليست بسيطة. لكن المؤكد أن المقهى لم يعد مجرد فنجان قهوة... بل صار ظاهرة اقتصادية واجتماعية كاملة، تروي قصة بلد ينهض من قلب الأزمات بفكرة صغيرة ومقعد وطاولة.

font change

مقالات ذات صلة