ليت فنسنت كان حيا ليرى ما فعله كيفر بزهرته

رحلة شغف بحياة فان غوغ وفنه

HENRY NICHOLLS / AFP
HENRY NICHOLLS / AFP
أنسيلم كيفر يقف بجوار عمله "نيفرمور" (2014) خلال جلسة تصوير لمعرض "كيفر/فان غوغ" في الأكاديمية الملكية للفنون بلندن، 24 يونيو 2025

ليت فنسنت كان حيا ليرى ما فعله كيفر بزهرته

يفصل شارع بيكاديلي الواقع وسط لندن بين الأكاديمية الملكية للفنون وغاليري "وايت كيوب" فرع "ماسونز يارد". ليست هناك علاقة فنية أو إدارية بين الطرفين، ولكل واحد منهما برنامجه في ما يعرضه من أعمال فنية. استقلال حيوي ومريح لا ينفي أن الغاليري كانت دائما أكثر حرية في خياراتها المتمردة، مقارنة بالتوجهات المحافظة للأكاديمية. هذه المرة طرأ شيء من التغير في تلك العلاقة. ليست لدي معلومات عما جرى في الكواليس، غير أن معرض "كيفر فان غوغ" كان من شأنه أن يعصف بالقواعد الثابتة ويعيد رسم الخرائط بحيث يبدو شارع بيكاديلي فاصلة بين جناحي المعرض.

قبل أربعة أيام من افتتاح المعرض في الأكاديمية، افتتح الجزء الخاص بالمكعب الأبيض. ذلك معرض كامل حضر فيه أنسيلم كيفر بكامل عدته الخيالية والتقنية والفكرية. معرض مهيب آخر يمكن إضافته إلى سلسلة المعارض التي يجوب بها الرسام الألماني مدن العالم، غير أنه يكشف هذه المرة عن أسرار شغفه بحياة وفن الهولندي فنسنت فان غوغ. لطالما كانت زهرة عباد الشمس التي رسمها هذا الأخير في واحدة من لوحاته الصغيرة، أشبه بالرقية التي يضعها أنسيلم كيفر على سطوح لوحاته، بغض النظر عن الموضوعات التي يعالجها. كيفر لم يخف علاقته المتوترة بفنسنت وانشداده إلى فنه. في شبابه قام كيفر برحلة تتبع فيها خطى فنسنت بدءا من هولندا وانتهاء بآرل، جنوب فرنسا، مرورا بالأراضي البلجيكية وباريس. كان يبحث عن شيء ما يجعله قادرا على تفسير ذلك السحر الذي تمارسه رسوم فنسنت عليه. ومن المؤكد أنه عاد من تلك الرحلة بالزهرة التي يقف أمامها آلاف البشر يوميا في "ناشيونال غاليري" بلندن. في هذا المعرض تعيدنا الزهرة إلى ما استغلق علينا ونحن نحاول تفكيك سر الإلهام الغامض الذي يدفع بكيفر إلى الاحتفاء بزهرة فنسنت.

حياتان وخرافتان في معرض

خرافة مقابل خرافة، وحياة مقابل حياة. لم ينس كيفر الحرب بطابعها الأسطوري في كل معارضه، على الرغم من أنه ولد والحرب العالمية الثانية في سنتها الأخيرة. رسوم فنسنت تحولت إلى حكايات. حياته التي كانت تقع على حافة الجنون بسبب حساسيته المبالغ فيها، تمت أسطرة وقائعها بحيث تحول الرسام الذي قطع أذنه من أجل أن يقدمها الى حبيبته حسب الحكاية الشعبية، إلى دليل قاطع على صحة المثل القائل "الفنون جنون".

في هذا المعرض تعيدنا الزهرة إلى ما استغلق علينا ونحن نحاول تفكيك سر الإلهام الغامض الذي يدفع بكيفر إلى الاحتفاء بزهرة فنسنت

لذلك صار فنسنت أكثر الرسامين شعبية على الرغم من أنه لم يكن شعبويا لا في رسومه ولا في سلوكه، وأشك أنه كان يشارك الناس العاديين أفكارهم في العيش. خرافة فنسنت هي ما دفعت بأنسيلم كيفر إلى خلق حياة مضادة لزهرته لتنجو من مناخ الخرافة. ولو كان فنسنت حيا ورأى زهرته في أحوالها المختلفة التي ظهرت في أعمال كيفر، لشعر بقيمة ما أنجزه على مستوى تحويل المرئي إلى قوة تفكير في ما لا يرى من المشاعر. في كل أعماله السابقة، رسم كيفر زهرة فنسنت ونحتها بمواد مختلفة، الرمل والرصاص والتراب والأغصان اليابسة والخشب. غير أن الأهم من ذلك، أن تلك الزهرة كانت دائما شاهدة على الخراب الذي اخترق الوضع البشري.

في كل معرض حضرته من معارض أنسيلم كيفر، كنت أبحث عن تلك الزهرة لأتأكد من أنه لا يزال وفيا لإلهام الرسام الذي علّمه فن القلق. في صندوق زجاجي مستطيل، يجمع كيفر بين زهرته وواحد من الكتب التي سبق أن عرضها في معرضه الباريسي "مكتبة بابل". لقد سبق له أن استعمل تلك الكتب في معارض سابقة، غير أنها المرة الأولى التي يجمع فيها الزهرة في واحد منها في عمل واحد، وفي ذلك إشارة إلى أنه يرغب في الزج بزهرته في الخلود. بابل وزهرة فنسنت في مكان واحد، وهما الشيء نفسه الذي يفتك الجمال بنا من خلاله.

Jens Kalaene/picture alliance via Getty Images
الفنان الألماني أنسيلم كيفر خلال حفل تسليم "الجائزة الوطنية الألمانية" في كنيسة فريدريششتات الفرنسية. تُمنح الجائزة لمن ساهم في توحيد ألمانيا وتعزيز العلاقات مع جيرانها الأوروبيين

زهرة في عالم ملحمي

أعاد بابلو بيكاسو رسم لوحة نساء الجزائر التي رسمها أوجين دولاكروا عام 1834، كما أن فرنسيس بيكون أعاد رسم صورة بابا الفاتيكان إنّوسنت العاشر التي رسمها دييغو فيلاسكيز عام 1650. ذلك تقليد قديم. أن يقوم رسام معاصر بإعادة رسم لوحة قديمة لكن بأسلوبه الشخصي. ولكن أنسيلم كيفر يقف في علاقته بفنسنت فان غوغ خارج ذلك التقليد. إنه لا يعيد رسم زهرة عباد الشمس بقدر ما يستعرض من خلالها تاريخه الشخصي بكل ما يحتويه من انفعالات نفسية كان لها أكبر الأثر في معالجاته التقنية، على الرغم من أنه كان ابن عصره على مستوى العلاقة بالمواد وطريقة النظر إلى المشهد الطبيعي الذي هو حريص على أن يكون واحدا من أهم عناصر بنية لوحته. كيفر رسام مناظر طبيعية فذ.

لا يعيد كيفر رسم زهرة عباد الشمس بقدر ما يستعرض من خلالها تاريخه الشخصي بكل ما يحتويه من انفعالات نفسية كان لها أكبر الأثر في معالجاته التقنية

لقد رافقته زهرة فنسنت منذ بداياته وصارت جزءا من عالمه الداخلي بحيث أنها كانت حاضرة في كل مراحله الأسلوبية. هل رسمها للتذكير بعلاقته الروحية بفنسنت، أم أنها تأخذ طريقها إلى لوحاته تلقائيا بقوة تأثيرها الداخلي من غير أن يتمكن من منعها من القيام بذلك؟ لا أحد في إمكانه أن يسأل كيفر "لمَ وضعت تلك الزهرة وسط عالمك الملحمي؟"، ذلك لأنها لا تبدو غريبة أو دخيلة. فالفنان كان حريصا دائما على أن يضع أسئلته الوجودية في موازة متعة النظر إلى المشاهد الطبيعية التي غالبا ما يصنعها من الأغصان اليابسة. في تلك الحالة لن يكون ظهور تلك الزهرة غريبا. يعتبر كيفر زهرة عباد الشمس التي رسمها فنسنت جزءا من إرثه الشخصي. في هذا المعرض يرسم كيفر مشاهد طبيعية، متخيلا أن فنسنت كان يرغب في رسمها.  

Zeynep Demir Aslim/Anadolu via Getty Images
أمام لوحة من معرض الفنان الألماني أنسيلم كيفر في الأكاديمية الملكية للفنون بلندن، 24 يونيو 2025، ويضم المعرض أعمالاً تُعرض للمرة الأولى

شذرات من العذاب

أنسيلم كيفر اليوم في الثمانين من عمره. وعلى الرغم من أنه لا يزال مصرا على إنجاز لوحاته وأعماله النحتية بحجوم كبيرة، حيث يبلغ عرض عدد من لوحاته ستة أمتار وارتفاعها مترين، إضافة إلى ما تحمله سطوحها من كثافة هي مزيج من مواد ثقيلة، فإنني أشك في أنه يهب مساعديه ولو قليلا من حرية التصرف. ومن المرجح أن دور أولئك المساعدين يقتصر على الجوانب الثانوية التي تتعلق بحمولة لوحاته الكبيرة من المواد. عبقرية كيفر في هذا المعرض الاستثنائي في التاريخ الفني المعاصر، تكمن في استلهام مفردة صغيرة واحدة، كان فنسنت قد رسمها بألوان زاهية أثناء إقامته في مدينة آرل، زهرة عباد الشمس التي هي أكثر شهرة من فنسنت نفسه.

يضع أنسيلم كيفر دائما حياته الشخصية في خدمة موضوعه، وهو إذ يتماهى رمزيا مع فنسنت معذبا، فإنه يحاول أن يعثر على شذرات من ذلك العذاب في التاريخ البشري الشامل

تخلى كيفر عن ألوان فنسنت ورسم الزهرة بعجينة رمادية متخثرة ذات مزاج ترابي، مما أضفى على لوحاته طابعا حزينا هو المعادل البصري لحكاية فنسنت في سنواته الأخيرة التي عاشها وهو يعاني من انهياراته العصبية. وكعادته، كان كيفر هذه المرة أيضا ملحميا في سعة نظرته، أسطوريا في تأويل سردياته. يجيد صناعة لوحته من مواد مختلفة، الطين والرماد والقش المحروق والنباتات الجافة والفحم، وفي الوقت نفسه يحرص على أن يحتضن المشهد الطبيعي المرسوم بأسلوب كلاسيكي فخم، وقائع تحيل على الحرب التي لطالما شكلت مرجعية أساسية لعالمه.

HENRY NICHOLLS / AFP
امرأة تتصفح دليل المعرض قرب عمل "نيفرمور" (2014) لأنسيلم كيفر، خلال معرض "كيفر/فان غوغ"، لندن، 24 يونيو 2025.

حرص كيفر على أن تكون زهرة عباد الشمس دليله في الدخول إلى عالم فنسنت، في الأخص حقوله. تلك فكرة استثمرها في الانفتاح بذاكرته على حقول بلاده المحروقة. ومثلما تنفتح ذاكرته على تاريخ بلاده، فإن ذاكرته الفنية حاضرة لا يفوتها شيء. عمله النحتي الوحيد في المعرض، "الصعود الصعود السقوط"، هو عبارة عن غصن طويل وضع بالمقلوب وتعلوه زهرة عباد الشمس التي تساقطت بذورها على كتاب. قبل سنوات، أقام كيفر كما أسلفنا الذكر معرضا بباريس بعنوان "مكتبة بابل". بعد ذلك لم تعد معارضه تخلو من الكتب، في محاولة منه لوضع المعرفة في مواجهة الخراب. يجعل أنسيلم كيفر دائما حياته الشخصية في خدمة موضوعه، وهو إذ يتماهى رمزيا مع فنسنت معذبا، فإنه يحاول أن يعثر على شذرات من ذلك العذاب في التاريخ البشري الشامل.         

font change

مقالات ذات صلة