يفصل شارع بيكاديلي الواقع وسط لندن بين الأكاديمية الملكية للفنون وغاليري "وايت كيوب" فرع "ماسونز يارد". ليست هناك علاقة فنية أو إدارية بين الطرفين، ولكل واحد منهما برنامجه في ما يعرضه من أعمال فنية. استقلال حيوي ومريح لا ينفي أن الغاليري كانت دائما أكثر حرية في خياراتها المتمردة، مقارنة بالتوجهات المحافظة للأكاديمية. هذه المرة طرأ شيء من التغير في تلك العلاقة. ليست لدي معلومات عما جرى في الكواليس، غير أن معرض "كيفر فان غوغ" كان من شأنه أن يعصف بالقواعد الثابتة ويعيد رسم الخرائط بحيث يبدو شارع بيكاديلي فاصلة بين جناحي المعرض.
قبل أربعة أيام من افتتاح المعرض في الأكاديمية، افتتح الجزء الخاص بالمكعب الأبيض. ذلك معرض كامل حضر فيه أنسيلم كيفر بكامل عدته الخيالية والتقنية والفكرية. معرض مهيب آخر يمكن إضافته إلى سلسلة المعارض التي يجوب بها الرسام الألماني مدن العالم، غير أنه يكشف هذه المرة عن أسرار شغفه بحياة وفن الهولندي فنسنت فان غوغ. لطالما كانت زهرة عباد الشمس التي رسمها هذا الأخير في واحدة من لوحاته الصغيرة، أشبه بالرقية التي يضعها أنسيلم كيفر على سطوح لوحاته، بغض النظر عن الموضوعات التي يعالجها. كيفر لم يخف علاقته المتوترة بفنسنت وانشداده إلى فنه. في شبابه قام كيفر برحلة تتبع فيها خطى فنسنت بدءا من هولندا وانتهاء بآرل، جنوب فرنسا، مرورا بالأراضي البلجيكية وباريس. كان يبحث عن شيء ما يجعله قادرا على تفسير ذلك السحر الذي تمارسه رسوم فنسنت عليه. ومن المؤكد أنه عاد من تلك الرحلة بالزهرة التي يقف أمامها آلاف البشر يوميا في "ناشيونال غاليري" بلندن. في هذا المعرض تعيدنا الزهرة إلى ما استغلق علينا ونحن نحاول تفكيك سر الإلهام الغامض الذي يدفع بكيفر إلى الاحتفاء بزهرة فنسنت.
حياتان وخرافتان في معرض
خرافة مقابل خرافة، وحياة مقابل حياة. لم ينس كيفر الحرب بطابعها الأسطوري في كل معارضه، على الرغم من أنه ولد والحرب العالمية الثانية في سنتها الأخيرة. رسوم فنسنت تحولت إلى حكايات. حياته التي كانت تقع على حافة الجنون بسبب حساسيته المبالغ فيها، تمت أسطرة وقائعها بحيث تحول الرسام الذي قطع أذنه من أجل أن يقدمها الى حبيبته حسب الحكاية الشعبية، إلى دليل قاطع على صحة المثل القائل "الفنون جنون".