فتحي غبن... فان غوغ فلسطين الذي ولد ومات في خيمة

منعه الاحتلال من مغادرة غزة لمتابعة علاجه

 twitter
twitter
فتحي غبن

فتحي غبن... فان غوغ فلسطين الذي ولد ومات في خيمة

غزة: ليس من قبيل المصادفة أن يولد الفنان التشكيلي الفلسطيني فتحي غبن في خيمة، ثم أن يرحل عن العالم، في خيمة أخرى تلخص 76 عاما من التيه الفلسطيني ونكباته المتعددة الأشكال. ففي صباح الأحد 25 فبراير/ شباط 2024، فارق الفنان التشكيلي الفلسطيني فتحي غبن الحياة، بعد صراع مع المرض، الذي تفاقم بفعل منع قوات الاحتلال الإسرائيلي له من مغادرة غزة للعلاج.

وقبل رحيله المؤلم، انتشر لغبن تصوير يشكو فيه ضعف رئتيه، فكان يصرخ: "بدي أتنفس" لكن أنفاسه كانت قابلة للحصار هذه المرة، بل للمنع الأبدي. لتنتهي بذلك رحلة أحد أبرز الفنانين التشكيليين الفلسطينيين المعاصرين، والمولود في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني 1946.

لغة خارج النص

أول لقاء جمعني بالفنان فتحي غبن، كان في معرض للفن التشكيلي في "أتيليه غزة"، جمعية الشبان المسيحية، بغزة، قبل ثلاثة أعوام، والذي دُمّر خلال الحرب. كنت أعرفه اسما وصورة، ووجدته هناك يقف أمام لوحة فنانة غزية شابة، يشير بيديه، وهو يشرح عناصر اللوحة وكأنه يعيد تشكيلها من جديد. وحين اقتربت منه وجدته يصف اللوحة، مستنطقا اللون من صمته، ليجعل له لغة موازية، لغة خارج النص، تتحرك بالفكرة الجديدة والمخيلة الخصبة. شعرت للحظة بأن فتحي غبن يحمل الألوان بين يديه، ويوزعها على لوحة الصبية من جديد، لينثر الجمال والشغف في عالم يمتلئ بالبشاعة.

 كانت فلسطين بالنسبة إليه بمثابة "الكانفس" الذي تتشكّل عليه لوحة الحياة

وتشاء الصدفة في ذلك اليوم، أن نجلس إلى طاولة واحدة، وقد شاركته الحوار بصحبة فنانين صديقين، وكان حديثنا حول الفن والهوية، ولم يتوقف حينها عن الحديث عن فلسطين، وكأن فلسطين عنده هي الموضوع الأول والأخير. وبعد عدة لقاءات جمعتني به، عرفت فيه فنانا يحمل كلّ الوقت الوطن وتفاصيله، لقد كانت فلسطين بالنسبة إليه بمثابة "الكانفس" الذي تتشكّل عليه لوحة الحياة.

سرد الواقع الفلسطيني

لم يكن غبن مجرد رقم، شأنه شأن جميع ضحايا القضية الفلسطينية الذين لم يتوقفوا منذ نكبة 1948 وصولا إلى الحرب الطاحنة الأخيرة في غزة. فقد حمل الفن مثل هوية ثانية، منشغلا به انشغاله بمأساة شعبه وذاكرته الحية. فقدّم للعالم صورة القرية الفلسطينية وطبيعتها، والشارع والمخيم بتعدّد هوياته، ورفع خلال رحلته من قيمة الإنسان وأبدى تمسكه بالجانب المتمرّد على الظلم المتمادي. ومع العمر تحولت رحلته الفنية إلى سرد للواقع الفلسطيني المأساوي، من التهجير والدمار وغياب المأوى والأمان.

وما بين الخيمة الأولى والخيمة الأخيرة، كان غبن ابن المخيم الأصيل، يجسد بريشته الواقع الفلسطيني وينقل قصة الألم المشتعل بأجساد المهجرين. فوضع في لوحاته ما خاف من محوه عبر الزمن، وأبقى الحقل فنا يدل على أثر الغائبين عنه قسرا، ورسم العرس الفلسطيني ليدلل على الفرح الذي كان، والحزن الذي حلّ. وامتلأت لوحاته بالحصاد الزراعي الفلسطيني، حتى لا يغيب لون الثمر ورائحة الأرض من ذاكرة الأجيال.

خارطة للأجيال

لم يقف الفن عند غبن عند حدود اللوحة، فهو خارطة تحفظ ذاكرة المكان للأجيال، فالبيت في لوحة هو الصورة الأصل للبلاد المحبوسة المحاطة بالسياج والجدران، أما الطين والحجر وثمرة الأرض، فهي الصوت الذي يخاطب به العالم، ويحتفظ من خلاله بهوية وطنه المهدّد دوما بالاحتلال والقضم.

 twitter

أما الوجه الفلسطيني، بملامحه الحزينة، ونظراته المسترسلة نحو ماضي البلاد ومستقبلها المجهول، فكان فتحي غبن يريده شاهدا على تراجع القيم الإنسانية في عالم ترك الفلسطيني وحده في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية، وكأن ما بين الإنسان والمكان مجرد غبار يمكن مسحه عن سطح الذاكرة، فكان فن غبن محاولة دائمة لمقاومة محاولات محو الذاكرة.

كما اهتم غبن بالمرأة الفلسطينية، فقدمها بصورتها الريفية، وهي تحمل الفأس وتشارك الرجل في بناء الحياة، محملا إياها رمزية المشاركة في استعادة الوطن.

لم يكن يحتاج منظارا

لطالما أطل غبن على قريته هربيا، مكان المنشأ، على حدود بلدة بيت لاهيا، ولم يكن يحتاج إلى منظار ليرى الأرض التي حرم من زيارتها، فكانت  قريته هي الحسرة،  والألم الذي يراه خارج جسده، لكنه لا يستطيع التخلي عنه، فيحتضنه من خلال لوحاته، وكأنه الكأس الذي يمزج الطعم المر بنكهات الجمال المتعددة داخل لوحته.

   تتلمذت على يديه أجيال من الفنانين، وهو ما أهّله ليكون ركيزة فلسطين في الفن التشكيلي، وليحمل لقب "فان غوغ غزة"

تلك الغصة التي رفعها فتحي غبن في وجه العالم، ظهرت على ملامحه بمرور الزمن، فكانت ثنيات وجهه وتجاعيده، لوحة أخرى تتشكل لتروي قصة المخيم، والعوز، والبرد،  والتعب والحياة المؤقتة التي تحولت إلى دائمة بفعل استمرار الاحتلال في مصادرة حياة الفلسطينيين.

وأتى تعلم فتحي غبن الفن بالممارسة ليمنحه صورة العرّاب الفني، إذ تتلمذت على يديه أجيال من الفنانين، وهو ما أهّله ليكون ركيزة فلسطين في الفن التشكيلي، وليحمل لقب "فان غوغ غزة".  وقد منحته مهنته، تدريس الفن، أدوات كبيرة بفعل مواكبة الأجيال، ما زاد من خبراته الفنية التي جسدها بأفكاره اللافتة.

 twitter

وأتى احتراف غبن النحت بالطين، ليزيد من حضوره في المشهد الفني الفلسطيني، ويمنحه صفة المعلم الكبير للأجيال. وتجلت بصمته في النحت عبر الطين الملون وإنتاج التماثيل التي توحي بالحرية والصوت الإنساني الأصيل، لتضعه في مقدمة الفنانين والنحاتين في الوطن العربي. وقد شارك في مئات المعارض الفنية العربية والعالمية، ونال اهتماما دوليا خاصا، لرقي المنتج الفني والثقافي الذي قدمه. وقد حاز فتحي غبن على وسام هيروشيما، ووسام اتحاد الجمعيات العالمي بطوكيو، وحصد لقب "فنان فلسطين" عام 1993، فيما توّجت رحلته الزاخرة بنيله لقب وسام الثقافة والعلوم لدولة فلسطين عام 2015. كما نال جائزة بيت الصحافة للفن التشكيلي الفلسطيني عام 2023، وقد سلمه الجائزة حينها ممثل الاتحاد الأوروبي في قطاع غزة..

ومن أبرز محطات حياته الفنية كانت لوحة "الهوية" عام 1983، تلك اللوحة التي رسمت فكرة مستقبلية للشارع الفلسطيني، عبر المقلاع الثوري، الذي ظهر في تفاصيلها، فأصبح فيما بعد ملاحقا من قوات الاحتلال، وصودرت أعماله واعتقل أكثر من مرة بتهمة التحريض على العنف، فكانت هذه اللوحة بمثابة نبوءة بانطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى ضد الاحتلال الإسرائيلي عام 1987.

وخلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، نزح فتحي غبن من منزله في مخيم جباليا، وقد لحق ذلك قصف منزله، ودمرت لوحاته وإرثه الفني، وهو ما انعكس سلبا عليه، قبل أن تسوء حالته الصحية، ويفارق الحياة في خيمة أخيرة تشهد على فصل جديد من فصول معاناة شعبه.

font change

مقالات ذات صلة