فلسطينيو غزّة العراة على حافة قبر جماعي

مشاهد مرعبة تستعيد مجازر النكبة

فلسطينيو غزّة العراة على حافة قبر جماعي

غزة: بعد مضي أكثر من شهرين على الحرب الإسرائيلية الطاحنة على قطاع غزة، أضحت مأساة العيش في تلك البقعة الضيقة من الأرض مستعصية على الوصف، من تفكك شبه تام للنسيج الاجتماعي، ووقوع جميع سكان القطاع، شمالا وجنوبا، تحت خطر القتل الجماعي، بسبب القصف العشوائي المستمر على منازل المواطنين، بالإضافة إلى إحكام الحصار على المناطق كافة، مما ينذر بمجاعة قريبة، في ظل شحّ المواد الغذائية أو انعدامها، والارتفاع الجنوني لأسعار السلع إن توفّرت.

قطاع غزة المختنق بالكثافة السكانية، الذي يعاني منذ سنوات طويلة من الفقر والبطالة، بفعل الاحتلال الإسرائيلي وسيطرته على كلّ ما يدخل إليه، وتعامله حسبما تتطلب المزاجية الأمنية، جاءت الحرب التي أعلنتها إسرائيل بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، لتزيد معاناة سكانه، الذين يعتمد معظمهم على الدخل اليومي المحدود، في ظل تأزم مستمر للحالة الاقتصادية والاجتماعية، حيث يتجه أرباب الأسر والمتخرجون، للعمل سائقي سيارات أجرة، أو باعة في الأسواق، أو باعة متجولين، أو في بعض الصناعات البسيطة، وكلها مهن تعتمد على الدخل اليومي الزهيد، الذي لا يكفي في الأصل لقضاء احتياجات أسرهم اليومية، أطفالهم، وما إن بدأت الحرب، حتى صار أولئك بحكم المفلسين تماما. في الوقت نفسه توقفت رواتب موظفي السلطة الفلسطينية، بعد حسم حكومة الإحتلال حصة قطاع غزة من أموال المقاصة العائدة للسلطة الفلسطينية، كنوع من العقاب الجماعي لأهل القطاع، وهذا ما جعل جميع سكان غزة تقريبا، في حاجة إلى المساعدات، فمن نزح من شمال غزة إلى الجنوب، لم يجد خيارا سوى العيش في مراكز الإيواء.

مداهمات وسرقات وإهانات

أما المواطنون، البالغ عددهم زهاء 700 ألف، ممن لم يغادروا شمال قطاع غزة، ومدينة غزة، على الرغم من تهديدات إسرائيل، وتعدد أشكال الإيذاء، فقد قصدوا بدورهم مراكز الإيواء، ظنا منهم أنها أكثر أمانا من منازلهم المهددة بالقصف، وأيضا لضمان الحصول على المساعدات، وهم يخضعون لحصار غذائي مشين، يتهدّد حياتهم، ويعرضهم للجوع، إذ أصبح الحصول على القوت اليومي، مسألة شاقة، وفي بعض الأماكن مستحيلة، أما الأمن الصحي فبات أشدّ خطورة مع استمرار الحرب وانعدام أبسط وسائل الحفاظ على النظافة الشخصية.

يُقدم جنود الاحتلال على إخراج رجال المنزل أمام الأطفال والنساء، مستخدمين الألفاظ البذيئة في حقهم، بالإضافة إلى الاعتداءات الجسدية، والإهانات المتعمدة

وفي حين تتواصل اقتحامات الدبابات الإسرائيلية للمناطق شمال غزة، مثل مخيم جباليا، وبلدة بيت لاهيا وبيت حانون شمالا، وحي الشجاعية والتفاح شرقا، وتل الهوى والكرامة ومخيم الشاطئ غربا، فإن ذلك يترافق مع إقدام الجنود على دهم المنازل وتفتيشها، وسرقة الذهب والأموال الخاصة بسكانها، كما يقدم جنود الاحتلال على إخراج رجال المنزل أمام الأطفال والنساء، مستخدمين الألفاظ البذيئة في حقهم، بالإضافة إلى الاعتداءات الجسدية، والإهانات المتعمدة، بما في ذلك التعرية والتجريد من الملابس في ظل البرد الشديد، ومن ثم ضربهم والتنكيل بهم، وإعدام بعضهم، حسبما يرى قائد مجموعة الجنود المداهمة، حسب التعليمات التي يتلقاها أو حسب مزاجه.

REUTERS
لقطة شاشة من مقطع فيديو في 7 ديسمبر 2023 تظهر أسرى ومعتقلين فلسطينيين في أحد شوارع بيت لاهيا شمال قطاع غزة.

تشهد هذه الحرب بصورة متفاقمة، ومع اشتداد المواجهات في مناطق القطاع كافة، انفلاتا تاما لجنود الاحتلال وتحررا من قوانين الحرب، وهيمنة لغريزة الانتقام، التي يمارس من خلالها جنود الاحتلال كل أشكال القسوة والإذلال ضدّ المدنيين الفلسطينيين، وقد شهدت الأيام القليلة الماضية ارتكاب قوات الاحتلال جرائم حرب صارخة، لا تقلّ فظاعة عن المجازر التي ترتكب يوميا، بما تحمله من أفعال تُخلّ  بالشرف الإنساني، والمروءة، وتكسر جميع المعايير الأخلاقية في التعامل مع المدنيين خلال الحروب والأزمات.

فقد اقتحم الجنود المدججون بالسلاح مراكز للإيواء التابعة للأمم المتحدة، شمال غزة، بالقرب من المستشفى الأندونيسي، واعتقلوا العشرات من الرجال، والأطفال في سن الخامسة عشرة، أمام أعين عائلاتهم. وفي مشهد مروع، تقشعر له الأبدان، جرّد أولئك المعتقلون من ملابسهم أمام عائلاتهم، واقتيدوا دون معظم ملابسهم إلى أماكن مجهولة، محملين بالشاحنات، كأنهم بضائع أو نفايات.

أسرى ومعتقلون فلسطينيون في أحد شوارع بيت لاهيا شمال قطاع غزة، وقد جردوا من ملابسهم.

فيديوهات الرعب

في اليوم التالي، نشر إعلام الجيش الإسرائيلي صورا وفيديوهات، توضح ما تم فعله بالمعتقلين، وكأنهم يعرضون فيلم رعب هوليووديا، تحمل مشاهده كل بشاعة العالم وبؤسه، وانحدار المستوى الأخلاقي فيه، وتجسد العجز الذي وصلت إليه البشرية مجتمعة، في حماية الإنسان وقيمته.

رأينا جنود الاحتلال وهم يصفّون المدنيين المعتقلين على شكل سلسلة طويلة بجانب حائط بناية تعرضت للقصف من قبل، وتظهر فيها أيضا ناقلة عسكرية إسرائيلية محملة عن آخرها بالرجال الذين أجبروا على خلع ملابسهم. وتبدو هذه السلسلة من الآدميين الفلسطينيين العراة وهي تزحف بناء على تعليمات الجنود، للوصول إلى الشاحنة. وتظهر في المشهد أيضا أحذية متناثرة، وملابس ملقاة على الأرض، لإكمال المعنى المذلّ في الصورة.

في المشهد التالي، تظهر شاحنة تحمل العشرات من الفلسطينيين العراة المكومين في ذروة البرد، وتنقلهم إلى مكان مجهول، هذه الصورة بتقديمها عناصر البارود والجسد العاري، توحي برمزية سينمائية بأن المشاهد التالية هي مشاهد إعدام لهؤلاء الأسرى. أما المشهد الأخير، فهو الأشد قسوة، فالنازحون الفلسطينيون المعتقلون، عراة في مكان خال من البنيان تماما، يقتعدون العراء معصوبي الأعين والأيدي بأربطة ملونة، وفي مقدمة الصورة، حفرة كبيرة، تتسع لأجسادهم جميعا، لتكون مقبرة جماعية بعد لحظات، ويبدو أن المخرج العسكري لهذا المشهد، تعمد ترك مخيلة العالم أجمع تكمل ما جرى أو ما قد يجري، كنوع من إشراك الجمهور في صناعة عناصر الجريمة.

أما المشهد الأخير، فهو الأشد قسوة، فالنازحون الفلسطينيون المعتقلون، عراة في مكان خال من البنيان تماما، يقتعدون العراء معصوبي الأعين والأيدي، وفي مقدمة الصورة، حفرة كبيرة، تتسع لأجسادهم جميعا

جرائم مكررة

هذه المشاهد تعيد إلى الأذهان قصصا سمعناها من أجدادنا، عن مجازر ارتكبها الاحتلال على مرّ تاريخه الأسود، وهي مشاهد مكررة عن مذبحة دير ياسين وكفر قاسم والطنطورة وعيلبون ومجد الكروم والكثير من القرى الفلسطينية التي تعرضت للتهجير خلال النكبة الفلسطينية في 1948، وقتها كانت الجريمة ترتكب، ويتستر عليها الاحتلال، مخفيا آثارها عن العالم ليكمل في طريق جريمة أخرى، أما هذه المرة، فالجاني نفسه يعرض جريمته أمام الملأ، دون حياء أو خشية من أية مساءلة قانونية، وهو بذلك يعلن للجميع الجبروت ونيّة الإجهاز على الجميع، معلنا أن العالم بأسره أضحى عاجزا أمامه.

بالنسبة إلى الفلسطينيين، هذه الصور هي جزء من حرب نفسية يشنّها الاحتلال بالتوازي مع الحرب الفعلية، فكل ما شاهدناه يحمل رسائل للنازحين في الشمال والجنوب، تقول لهم بصريح العبارة: دوركم قادم.

فلسطينيون يغادرون الشمال عبر طريق صلاح الدين في منطقة الزيتون على المشارف الجنوبية لمدينة غزة في 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023.

إن هذا الاسترخاص لقيمة الحياة الإنسانية، الذي يتم دون أي رادع قيمي أو أخلاقي، يجعل الفلسطينيين فريسة خيالات مرعبة عما ينتظرهم في قادم الأيام، ويقرب إلى أذهانهم الشكوك بأنه سيكون أقسى وأفظع مما شهدوه حتى الآن، فهذه المشاهد تكررت في أحياء وسط مدينة غزة، وفي حي الزيتون شرق غزة، إذ اقتيد عشرات الرجال والأطفال شبه عراة أيضا، إلى أماكن مجهولة، كل هذا لا يظهر الوحشية المفرطة فحسب في حق المدنيين الفلسطينيين، بل الهدف منه إبقاء باب الألم مفتوحا أمام شعب يساق بالقوة إلى حافة المقصلة، وكل فرد من أفراده بات ينتظر دوره مع الموت.

font change

مقالات ذات صلة