إسرائيل في حرب شاملة... حالة فلسطينيي 48

AFP
AFP
متظاهرون من فلسطينيي الـ48 واليسار الاسرائيلي يتظاهرون في جامعة تل ابيب ضد مشروع قانون يمنع رفع العلم الفلسطيني في 28 مايو 2023

إسرائيل في حرب شاملة... حالة فلسطينيي 48

حيفا- هنالك فصل آخر من الحرب المدمرة التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين، من النهر إلى البحر، أي إلى وجه آخر طالما عانى من التعتيم والتهميش. وأعني معاناة العرب الفلسطينيين مواطني دولة إسرائيل من حالة غير مسبوقة من الملاحقة والتنكيل الذي تقوم به "دولتهم" في سياق تلك الحرب. إنها دعوة مفتوحة للانتباه لهذا الجانب من الصراع والعمل دوليا وإقليميا وفلسطينيا وداخليا– في إسرائيل- للعمل على وقف هذه الملاحقات واحترام المكانة القانونية- حتى لو منقوصة- للمواطنين العرب؛ رغم محاولة اليمين القومي والديني في إسرائيل تهميشها أو تقويضها كما حصل في إقرار "قانون أساس" بأن إسرائيل دولة قومية لليهود (2018).

يشكل العرب الفلسطينيون مواطنو إسرائيل نحو 20 في المئة من عموم المواطنين في إسرائيل، حصلوا على المواطنة بعد إعلان قيام إسرائيل عام 1948، والذي تخلل حالة طرد وتطهير عرقي واسعة ضد غالبية الفلسطينيين (النكبة) والتي قامت بها القوات اليهودية قبل إعلان الدولة واستمرت بها المؤسسات الأمنية الإسرائيلية بعد قيامها، وبذلك تشكلت حالة اللجوء الفلسطيني في دول عربية مجاورة. بينما بقيت الضفة الغربية تحت الحكم الأردني وقطاع غزة تحت الحكم المصري حتى حرب يونيو/حزيران 1967، عندما احتلت إسرائيل هذه المناطق.

تمسكَ معظم الفلسطينيين في إسرائيل بمواطنتهم، وبهويتهم الفلسطينية- العربية، وشكل هذا التمسك محورا مهما في تطلعاتهم وفي نضالاتهم السياسية والاجتماعية. وساهم ذلك في تعزيز صمودهم في وطنهم وفي تحقيق إنجازات فريدة، بحيث تحولوا تدريجيا إلى جماعة تمتلك مقومات وميزات تعليمية واجتماعية واقتصادية، تفوق نسبيا أية مجموعة عربية أخرى في العالم، وأستطيع القول إنهم نسبيا- ومقارنة بعددهم- أقوى مجموعة عربية وفلسطينية مدنية في العالم.

قامت حكومات نتنياهو منذ 2009 بتثبيت مسألة "التفوق العرقي" لليهود من خلال سلسلة قوانين وإجراءات أهمها على الإطلاق إقرار قانون الدولة القومية اليهودية الذي ينفي مسألة شراكة المواطنين العرب ويجعل الدولة ملكا حصريا لليهود، سواء كانوا في إسرائيل أو في أنحاء العالم

إلا أن هذه الإنجازات الهامة لم تمكنهم من الحصول على مواطنة تشاركية متساوية مع اليهود؛ فالدولة اليهودية في جوهرها وتشريعاتها وسياساتها دأبت على وضعهم في خانة "مواطنين" من الدرجة الثانية. وفي كثير من الحالات جعلت وضعهم أقرب إلى الآبرتهايد منه إلى الدولة الديمقراطية الطبيعية. حتى إن هناك تعبيرات لإسرائيليين يرون دولتهم دولة فصل عنصري. وعموما، فقد قامت حكومات نتنياهو منذ 2009 بتثبيت مسألة "التفوق العرقي" لليهود من خلال سلسلة قوانين وإجراءات أهمها على الإطلاق إقرار قانون الدولة القومية اليهودية الذي ينفي مسألة شراكة المواطنين العرب ويجعل الدولة ملكا حصريا لليهود، سواء كانوا في إسرائيل أو في أنحاء العالم. 
كل هذا بالإضافة إلى إجراءات تنفيذية تؤكد أن الدولة ليست محايدة بين مواطنيها، بل تقوم بالكيل بمكيالين والعمل على موضعة العرب في خانة ومكانة ثانوية تسهل الانقضاض عليهم، وعلى بقايا مواطنة مضروبة ومحجوبة.
لعل أهم ما يدل على ادعائي بشأن المكانة الثانوية والمهزوزة للمواطنين العرب الفلسطينيين في إسرائيل، هو سلسلة وقائمة طويلة من الانتهاكات الإسرائيلية، الرسمية والشعبية التي ترافقت مع إعلان حالة الحرب في إسرائيل في أعقاب هجوم "حماس"، و"الجهاد الإسلامي"، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 على غلاف غزة والذي تخلله استهداف مرفوض وغير مقبول ضد مدنيين إسرائيليين، في منطقة غلاف غزة. وهو أمر سبق أن أكد بعض قادة "حماس"، ومنهم خالد مشعل وصالح العاروري، نأيهم عنه وتجنبهم أو نفيهم له. 
وما زاد من تأزم وضع فلسطينيي أراضي الـ48 بعد بدء العمليات العسكرية الإسرائيلية ردا على هجوم "حماس" ونتائجه، هو هول الاعتداءات الإسرائيلية على المدنيين في غزة وفظاعة الجرائم ضد الإنسانية، التي آلمت ضمير كل إنسان في العالم، فما بالك عندما يصل الأمر بأبناء الشعب نفسه، الممنوعين حتى من إبداء حالة تعاطف إنساني أو تفهم للمعاناة الإنسانية لهذا الجزء من شعبنا من فلسطينيي غزة.
بعد إعلانها حالة الحرب قامت إسرائيل الرسمية والشعبية في غالبيتها، بالتعامل مع المواطنين العرب الفلسطينيين على أنهم "طابور خامس"، من "الأعداء". وبرزت دعوات لترحيلهم والانقضاض عليهم جماعيا وفرديا بصفتهم "غير موالين للدولة" ولأجندتها ضد الشعب الفلسطيني وحقوقه، وحقوقهم، في وطنهم، بما في ذلك من جهات رسمية وأعضاء كنيست ووزراء إسرائيليين. 

AFP
مظاهرة في الناصرة ضد زيارة نتنياهو الى المدينة اثناء حملته الانتخابية في 13 يناير 2021


وخلال شهر من إعلان الحرب قامت أجهزة الأمن الداخلية في إسرائيل بتعقب واضح لكل كلمة أو محاولة تعبير من قبل مواطنين عرب، يمكن أن يفهم منها أنها تعبير عن "تفهم" أو تبرير لما فعلته "حماس"، أو أنه يدافع عن كونها حركة وطنية فلسطينية، وليست مرادفا لـ"داعش"، كما ترمي لذلك الدعاية الإسرائيلية، أو أي موقف يربط بين "الهجوم على غلاف غزة" ومعاناة الفلسطينيين في سجنهم الكبير في غزة قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول. إنها حملة كبيرة من الملاحقة والتنكيل غير المسبوق بحق المواطنين الفلسطينيين ونشطائهم.

قام رئيس بلدية بطرد عمال عرب من بلديته تحت ذريعة الحفاظ على "السلم الأهلي". واستمرارا للملاحقات قامت الحكومة بمناقشة مشروع قرار لسحب المواطنة ممن "يتعاطفون مع الإرهاب" بشكل فضفاض سوف يقود- إذا تم- إلى تدهور خطير وغير مسبوق في حقوق المواطنة للفلسطينيين في إسرائيل

وأشار مركز "عدالة" المعني بالمكانة القانونية للعرب الفلسطينيين في إسرائيل إلى أنه يتابع أكثر من 150 حالة ملاحقة بحق مواطنين عرب، وهذا يتضمن طلابا جامعيين وموظفين في السلك العام أو حتى في الشركات الخاصة، جل ما قاموا به أنهم شجبوا الاعتداء على مدنيين في غزة من قبل إسرائيل أو أشاروا إلى "تفهمهم" لهجوم "حماس" في غلاف غزة، أو أنهم وضعوا إشارة استحسان (لايك)، مقصودة أو غير مقصودة على صورة تشير إلى أخذ رهائن أو أسر جنود إسرائيليين، أو تشير إلى حق الفلسطينيين في الدفاع عن النفس في وجه إسرائيل التي تحاصرهم وتحتلهم منذ عشرات السنين.
لقد وصل الأمر إلى توقيف ومحاكمة نشطاء وأكاديميين، لأنهم نشروا ما يشير إلى تطورات الحرب ومعاناة الغزيين، أو يدعو إلى وقف العمليات العسكرية الإسرائيلية واعتداءاتها على المدنيين. واستمرارا لذلك فقد أوقف مدير وحدة الطوارئ في مستشفى إسرائيلي مركزي بسبب منشور وضعه على صفحته قبل الحرب بأشهر، وتضمن دعوة للسلام بين الشعبين. وتم إيقاف محاضرات جامعيات عن العمل بسبب مواقف تدعو لوقف الحرب وتفسر لجوء "حماس" لاستعمال القوة. كما قام رئيس بلدية مركزي بطرد عمال عرب من بلديته تحت ذريعة الحفاظ على "السلم الأهلي". واستمرارا للملاحقات قامت الحكومة بمناقشة مشروع قرار لسحب المواطنة ممن "يتعاطفون مع الإرهاب" بشكل فضفاض سوف يقود- إذا تم- إلى تدهور خطير وغير مسبوق في حقوق المواطنة للفلسطينيين في إسرائيل.
وفي الجامعات والكليات وصل الأمر بإدارات الجامعات التي تتغنى إجمالا بكونها واحات لحرية الرأي، إلى اتخاذ إجراءات لإبعاد طلاب عرب عن الدراسة أو إرسال إشعارات لتقديمهم للجان الطاعة بسبب منشورات تعبر غالبيتها عن مشاعر القلق والتضامن مع أهل غزة ومعاناتهم. وحتى الآن تم إرسال إشعارات كهذه بحق حوالي 80 طالبا عربيا، ورغم أن وسائل التواصل الاجتماعي تعج بآلاف الكتابات التحريضية ضد المواطنين العرب إجمالا، والطلاب العرب بشكل خاص، وفي حالات كثيرة بمبادرة منظمة من قبل طلاب جامعيين يهود، إلا أنه لم يتم تقديم أي طالب يهودي في هذا السياق للجان الطاعة أو تهديده بالفصل من قبل إدارات الجامعات. 
وفي المقابل، قامت إدارة الجامعة العبرية في القدس بالمبادرة لدعوة محاضرة عربية معروفة عالميا في مجالها، للاستقالة الطوعية بسبب منشور وقعت عليه ويصف ما تفعله إسرائيل في غزة بأنه "حرب إبادة"، وتجاهلت إدارة الجامعة عشرات الرسائل والمناشدات من قبل أكاديميين وباحثين عالميين مختصين تؤكد ملاءمة المصطلح لوصف الوضع في غزة وتدعو إدارة الجامعة للتراجع عن موقفها هذا. 

وصل الأمر إلى حدود الكارثة الحقيقية عندما حاصرت مجموعة من الفاشيين العنصريين مساكن الطلبة في كلية نتانيا، وقامت بالاعتداء جسديا على بعض الطلاب العرب، ومنادية بشعار "الموت للعرب"، وأجبرت الطلاب على مغادرة مساكن الطلبة

وفي المقابل أقدمت كليات على إيقاف عدد من المحاضرين العرب واليهود الذين اعترضوا على تعميمات بشأن الحرب، وحصريا ممن انتقدوا الخط الدعائي الرسمي في إسرائيل والذي يربط بين الكارثة اليهودية إبان النازية، وما قامت به "حماس" في غلاف غزة، أو أنهم رفضوا مقولة أن "حماس" تساوي تنظيم "داعش".
لقد وصل الأمر إلى حدود الكارثة الحقيقية عندما حاصرت مجموعة من الفاشيين العنصريين مساكن الطلبة في كلية نتانيا، وقامت بالاعتداء جسديا على بعض الطلاب العرب، ومنادية بشعار "الموت للعرب"، وأجبرت الطلاب على مغادرة مساكن الطلبة، وتبين بعد ذلك أن رئيسة البلدية في نتانيا، وهي من حزب نتنياهو، كانت متورطة في الدعوة مسبقا إلى إخلاء مساكن الطلبة من أجل إسكان مواطنين يهود أخلوا من بيوتهم بسبب الحرب واستهداف بلداتهم بصواريخ "حماس"، و"الجهاد الإسلامي". 
اقتربت هذه الحالة أكثر من أية ملاحقة أخرى من حالة "البوغروم"، وعبرت عن حالة عنصرية عنيفة تشكل جزءا مهما من الحالة الإسرائيلية هذه الأيام، والتي تجد تعبيرا عنها في دعم وقتل وتهجير أهل غزة، وفي ملاحقة وقتل فلسطينيين في الضفة الغربية وغزة، وفي ملاحقة المواطنين العرب الفلسطينيين في إسرائيل. بحيث تحولت الحالة العنصرية والمجيشة قوميا لدرجة الفاشية، إلى حالة إسرائيلية رسمية وشعبية. يضاف إليها سعي وزارة الأمن القومي، التي يقف على رأسها إيتمار بن غفير المعروف بعنصريته وعدائه للفلسطينيين، إلى توزيع السلاح على المواطنين (اليهود) تحت اسم "لجان الطوارئ" التي فاق عددها 620 لجنة، والسعي الحكومي إلى تغيير أنظمة إطلاق النار في المظاهرات وإتاحة المجال لاستخدام الرصاص الحي والموجه لاحتجاجات المواطنين الفلسطينيين على الحرب فيما لو قام بها هذا الجمهور. 

التطورات الخطيرة، وغير المسبوقة، في تعامل المؤسسة الإسرائيلية مع مواطنة العرب الفلسطينيين في إسرائيل، تدل على أننا أمام حالة توجب المعالجة الفورية، وخصوصا أن استطلاعات الرأي العام في إسرائيل ومنذ سنوات طويلة تفيد بوجود حالة فاشية معادية للمواطنين العرب ولحقوقهم المشتقة من مواطنتهم

هذا عدا إمكانيات الاعتداء المباشر من يهود متطرفين على مدنيين فلسطينيين في بلداتهم المنفصلة أو في أحيائهم داخل المدن المختلطة.
هذه التطورات الخطيرة، وغير المسبوقة، في تعامل المؤسسة الإسرائيلية مع مواطنة العرب الفلسطينيين في إسرائيل، تدل على أننا أمام حالة توجب المعالجة الفورية، وخصوصا أن استطلاعات الرأي العام في إسرائيل ومنذ سنوات طويلة تفيد بوجود حالة فاشية معادية للمواطنين العرب ولحقوقهم المشتقة من مواطنتهم، ويمثلها وزراء وساسة في حكومة إسرائيل، ناهيك عن أن نتنياهو حرض علنا ضد مواطنيه العرب وهو يتبوأ منصب رئاسة الوزراء، وفي عدة مناسبات قبل الحرب الأخيرة.

AFP
من المظاهرات المعارضة للتعديلات القانونية التي ادخلها نتياهو على النظام القضائي الاسرائيلي

تفاقمت حالة الملاحقة والقمع الرسميين ومن قبل مؤسسات عامة، مثل الجامعات والمستشفيات والاعتداءات من قبل عامة اليهود، هي استمرار لحالة موجودة منذ سنوات وتغذيها ميول قومية وعنصرية وفاشية متزايدة خلال السنوات، إلا أنها أصبحت في نطاق خطر داهم الشهر الأخير يستبيح حقوقهم ويهدد وجودهم.
أثبتت الحرب وتداعياتها أن العرب الفلسطينيين مواطني إسرائيل ليسوا في مأمن، لا في مواطنتهم ولا في وطنهم التاريخي، وأن خطر سحب مواطنتهم وترحيلهم قائم فعليا إذا ترك الأمر لإسرائيل، وهنالك حاجة للعمل على وقف هذا الجانب من التردي في الحالة الإسرائيلية، بما في ذلك من خلال تدابير دولية تجبر إسرائيل على احترام حقوق الفلسطينيين في إسرائيل وتثبيت حقوقهم المتساوية ومواطنتهم، فيما يتعدى وجودهم في وطنهم. 
من المهم وضع هذه المسألة على أجندات المؤسسات الدولية، كما على جدول أعمال الدول التي تدعم إسرائيل في حربها الشاملة ضد الفلسطينيين، وهذه دعوة للتدخل، بأشكال مختلفة، لمنع إسرائيل الرسمية والشعبية من الاستمرار في إجراءات غير ديمقراطية ومناقضة للمواطنة- ولو كانت منقوصة- وإجبار إسرائيل على حماية حقوقهم كمواطنين، وبصفتهم أهل البلد الأصليين وغير الوافدين. كما أنها دعوة لعموم الفلسطينيين والعرب لوضع مكانة وظروف الفلسطينيين في إسرائيل على قائمة حساباتهم، وفيما يتعدى كل ذلك، إنها دعوة للفلسطينيين في إسرائيل ولقياداتهم للعمل على تنظيم مجتمعهم لأجل تعزيز صمودهم وتمسكهم بحقوقهم، وهي مسألة تثبت الأحداث الأخيرة، أنها قد تأخرت كثيرا، ولا يمكن الاستمرار باعتبارها قضية ثانوية في النضال لأجل المساواة والمواطنة الكاملة ولأجل حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة، وحتى لغاية إحداث تحول إسرائيلي داخلي، من الوضع الفاشي والمعبأ قوميا إلى وضع مدني معقول ومقبول ديمقراطيا، ومن وضع دولة التفوق العرقي اليهودي إلى دولة المواطنة والمساواة، والتي قد تساهم في تحقيق حل تاريخي للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي. 
في الخلاصة، ومن التجارب المريرة، لا يمكن الركون إلى المنظومة الإسرائيلية بحماية المواطنين الفلسطينيين من سطوة الدولة، التي تعتبر نفسها قومية حصرية لليهود، بل إن هناك ضرورة إلى استحداث آلية رقابة حصرية، دولية، ومن المفضل أممية، تتابع أوضاع هذا الجزء من الشعب الفلسطيني سعيا لحماية وجوده وحقوقه.

font change

مقالات ذات صلة