في العقود الأخيرة، تحولت السمنة من مسألة شخصية أو "خيار لنمط الحياة" إلى أزمة صحية عالمية تهدد حياة الملايين وتثقل كاهل أنظمة الرعاية الصحية في كل مكان. ورغم أن العالم بدأ يدرك خطورتها منذ منتصف القرن العشرين، إلا أن وتيرة القلق لم تواكب سرعة انتشار الظاهرة.
فبينما كانت السمنة ترى قديما كرمز للراحة والرفاهية، أصبحت اليوم مؤشرا الى اختلال التوازن بين ما نأكله وما يستهلكه جسدنا من طاقة. لكن السؤال الذي حيّر الباحثين لعقود ظل قائما: هل السبب الرئيس في تفشي السمنة هو قلة النشاط البدني؟ أم أن الإفراط في تناول الطعام هو الجاني الحقيقي؟
دراسة علمية عالمية حديثة حاولت حسم هذا الجدل، مقدّمةً أدلة ملموسة تعيد رسم خريطة فهمنا لعلاقة السمنة بالتنمية الاقتصادية. وبينما تشير النتائج إلى دور غير متوقع للنشاط البدني، فهي تسلط الضوء على متهم رئيس ربما تجاهلناه طويلا: النظام الغذائي الحديث.
لطالما ألقى الباحثون وخبراء الصحة العامة باللوم على قلة النشاط البدني كعامل رئيس في تفاقم أزمة السمنة حول العالم، خصوصا في الدول ذات الاقتصادات المتقدمة. لكن دراسة دولية جديدة، شملت أكثر من 4000 شخص من 34 مجتمعا حول العالم، تضع هذه الفرضية التقليدية موضع تشكيك، وتوجه أصابع الاتهام بشكل أقوى نحو النظام الغذائي، لا نمط الحياة الخامل.
من المعروف أن السمنة كانت نادرة في المجتمعات التقليدية الفقيرة، سواء الصيادين أو المزارعين، وظلت كذلك حتى القرن العشرين. ومع تسارع عجلة النمو الاقتصادي والتطور الصناعي، بدأت معدلات السمنة في الارتفاع الحاد، مترافقة مع زيادة الأمراض المزمنة مثل السكري وأمراض القلب. وقد اعتُبرت هذه الظاهرة نتيجة مباشرة لانخفاض النشاط البدني وازدياد الاستهلاك الغذائي، لكن لم يكن من الواضح أيّ من هذين العاملين يتحمل المسؤولية الكبرى.
قاد فريق بحثي دولي دراسة موسعة جمعت بيانات دقيقة من 4213 بالغا تتراوح أعمارهم بين 18 و60 عاما، ينتمون إلى طيف واسع من المجتمعات، من صيادي القبائل في أفريقيا، إلى الرعاة والمزارعين، وصولا إلى سكان المدن في الدول الصناعية الكبرى.
تم استخدام تقنيات علمية متقدمة لقياس إنفاق الطاقة اليومي بدقة والإنفاق الأساسي الذي يستهلكه الجسم في الراحة، ونسبة الدهون في الجسم عبر تحليل التخفيف النظائري. كما استخدم الباحثون مؤشر التنمية البشري كمقياس شامل للتنمية الاقتصادية، يقيس الثروة، والتعليم، ومتوسط العمر.
بعكس التوقعات، وجدت الدراسة أن إجمالي إنفاق الطاقة اليومية في ذلك الطاقة التي يستهلكها الجسم أثناء النشاط البدني كان أعلى في المجتمعات الصناعية مقارنة بالمجتمعات التقليدية. وحتى بعد تعديل النتائج وفقا لحجم الجسم، لم يكن هناك انخفاض ملحوظ في نشاط الطاقة مع زيادة التنمية.
بعبارة أخرى، سكان الدول المتقدمة لا ينفقون طاقة أقل بالضرورة، رغم أن نمط حياتهم يبدو أكثر خمولا. بل إن بعضهم يستهلك طاقة أكثر من نظرائهم في المجتمعات التقليدية.
في المقابل، أظهرت الدراسة علاقة إيجابية قوية بين مستويات التنمية الاقتصادية وزيادة مؤشر كتلة الجسم ونسبة الدهون في الجسم. ومع أن الإنفاق الكلي للطاقة لا يتراجع بشكل كبير مع التنمية، إلا أن مستويات السمنة ترتفع بشكل واضح. هذا التناقض قاد الباحثين إلى استنتاج أن الفرق الأساسي لا يكمن في ما يُستهلك من طاقة، بل في ما يُتناول من سعرات.
تحدي السمنة
يعاني شخص واحد من كل ثمانية أشخاص في العالم من السمنة، وهي نسبة تعكس تصاعدا مقلقا في معدلات الإصابة. ومنذ عام 1990، تضاعفت معدلات السمنة لدى البالغين حول العالم، بينما شهدت نسب الإصابة بين المراهقين ارتفاعا بمقدار أربع مرات، ما يشير إلى تحوّل السمنة إلى أزمة صحية عامة تؤثر على مختلف الفئات العمرية.
وصل عدد البالغين الذين يعانون من زيادة الوزن إلى نحو 2.5 مليار شخص، من بينهم 890 مليون شخص يعانون من السمنة، أي ما نسبته 43٪ من السكان البالغين. ومن هؤلاء، 16٪ يعانون من السمنة المفرطة. أما في عام 2024، فقد سُجّل وجود نحو 35 مليون طفل دون سن الخامسة يعانون من زيادة الوزن، مما يكشف عن اتساع نطاق هذه الظاهرة حتى في الفئات العمرية المبكرة.
تشير إلى معاناة أكثر من 390 مليون طفل ومراهق تتراوح أعمارهم بين 5 و 19 عاما من زيادة الوزن، من بينهم 160 مليونا يعانون من السمنة. وقد ارتفعت النسبة المئوية للأطفال والمراهقين الذين يعانون من زيادة الوزن من 8٪ في عام 1990 إلى 20٪ في عام 2022. والمقلق أن نسبة المصابين بالسمنة من هذه الفئة العمرية تضاعفت أربع مرات، من 2٪ إلى 8٪، خلال الفترة ذاتها.