حلول طبيعية في مواجهة الخرسانة

المدينة الخضراء ليست حلما

حلول طبيعية في مواجهة الخرسانة

في قلب حي خونتي المكتظ بوسط العاصمة التايلاندية، بانكوك، وعلى مساحة مستطيلة تبلغ نحو 102 فدان، ولد مشروع حضري طموح يعيد تعريف العلاقة بين المدينة والطبيعة: حديقة "بنجاكيتي" التي صُممت على رؤية "المدينة الإسفنجية" وابتكرها المعماري كونغجيان يو والمبنية على فكرة أن النظم الطبيعية يمكن أن تصبح خط الدفاع الأول أمام الفيضانات وتغير المناخ.

كان الموقع في الماضي مصنعا للتبغ وأرضا صناعية ملوثة مملوكة للعائلة الملكية التايلاندية، مغطى بالأسفلت والبنايات الخرسانية، تتناثر بينه بعض الأشجار المظللة. لكن في غضون 18 شهرا فقط، وبميزانية محدودة، تحول إلى متنفس حضري أخضر. صُممت أربع بحيرات رئيسة على شكل أحجار "الخطوة" تفصلها طرق المصنع القديمة، وتستوعب مجتمعة نحو مليون متر مكعب من مياه الأمطار، بينما تعمل نباتاتها الرطبة على ترشيح المياه الملوثة وتنقيتها.

هذه البحيرات ذات الأشكال العضوية، تحتضن مئات الجزر الصغيرة المكونة من الخرسانة المعاد تدويرها من أنقاض الموقع، وتغطيها أشجار قائمة وأخرى جديدة، مما يخلق تنوعا بيئيا غنيا. شبكة من الممرات الخشبية الملتوية تحيط بكل بحيرة، وتسمح للزوار بالتجول على أطرافها الخضراء، فيما تعلو ممرات مرتفعة بين ظلال أشجار الأكاسيا، لتمنح الحديقة وأفق المدينة مشاهد بانورامية.

عند المدخل الغربي، تقود الطريق إلى ساحة فسيحة تتوسطها مدرجات عشبية دائرية بقطر نحو 84 مترا، وإلى بركة عاكسة تشبه في تصميمها الجزر المنتشرة بالبحيرات. أما المباني الصناعية القديمة فقد حولت إلى مركز رياضي ومتحف، بعد إزالة أجزاء من سقوفها للسماح بدخول الضوء والهواء، وتحويلها إلى فضاءات تحتضن زراعة جديدة.

لم تعد هذه البقعة مجرد مشروع تجميلي، بل مثال حي كيف يمكن مدينة مكتظة ومعرضة للفيضانات مثل بانكوك أن تعيد إحياء أرضها الصناعية المهملة، لتصبح رئة طبيعية تحتضن الماء، وتبرد الهواء، وتفتح أبوابها أمام الجميع.

في قلب المدن المليئة بالأسمنت، تبرز فكرة إعادة إدراج الطبيعة إلى المشهد الحضري لتكون جزءا من الحل، لا أن تعزل في الحدائق كزينة فقط. وفي العدد الخاص من دورية وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم، ناقش العلماء كيف يمكن الأشجار والغابات الحضرية والسطوح الخضر أن تكون خط دفاع متينا ضد تغيرات المناخ، وأن تكون في الوقت ذاته أدوات دفاع فعالة لمواجهة أحوال الطقس المتطرفة، ووسيلة لتحسين الصحة العامة، ودعامة لتحقيق العدالة الاجتماعية.

يمكن تعريف الحلول القائمة على الطبيعة بأنها تدخلات تعتمد على العمليات الطبيعية لتحقيق أهداف التكيف مع تغير المناخ والتحضر، بالإضافة إلى استعادة الوظائف البيئية


فكرة إعادة إدراج الطبيعة في المشهد الحضري، ليست حلما بعيد المنال، بل واقع يتجسد اليوم في مشاريع رائدة حول العالم. فمن خلال دمج الأنظمة البيئية الطبيعية، سواء أكانت غابات حضرية كثيفة أم شبكات من الأنهار الصغيرة، تعمل المدن على إعادة تشكيل نفسها لصالح الإنسان والمناخ. وقد أثبتت هذه "الحلول الطبيعية" فعاليتها في تخفيف حدة ظاهرة الجزر الحرارية، وتحسين الصحة النفسية والرفاهية العامة للسكان، ودرء أخطار الفيضانات، مما يحول البيئات الحضرية القاسية إلى أماكن أكثر مرونة وصحة.

ومع ذلك، فإن التحدي الأكبر يكمن في كيفية ضمان أن تعود فوائد هذه التحولات البيئية على جميع شرائح المجتمع، وليس فقط على الأحياء الغنية التي غالبا ما تكون الأفضل تجهيزا لاستقبال هذه المشاريع.

الحلول القائمة على الطبيعة

يمكن تعريف الحلول القائمة على الطبيعة بأنها تدخلات تعتمد على العمليات الطبيعية لتحقيق أهداف التكيف مع تغير المناخ والتحضر، بالإضافة إلى استعادة الوظائف البيئية. هذه الحلول تُعرف أيضا بالبنية التحتية الخضراء، أو الطبيعة الحضرية، أو التكيف القائم على الأنظمة البيئية، أو ببساطة: استعادة البيئة وحفظها.

على عكس البنية التحتية التقليدية المصممة هندسيا، التي تكون غالبا صلبة وغير مرنة، توفر الحلول القائمة على الطبيعة مرونة عالية لمواجهة الآثار المتغيرة لتغير المناخ وعدم اليقين في المستقبل.

ومن ضمن الحلول، إنشاء حدائق الغابات والأراضي الرطبة المصممة، وهي مساحات خضراء حضرية يجري تخطيطها وتنفيذها بعناية لدمج عناصر الطبيعة – من أشجار ومسطحات مائية ومناطق رطبة – في قلب المدن، بهدف تحقيق وظائف بيئية وحماية مناخية واجتماعية في آن واحد.

shutterstock
مبنى أخضر بنباتات تنمو على واجهته

وعلى عكس الحدائق التقليدية التي تركز على الترفيه البصري، تأتي هذه الحدائق كحلول قائمة على الطبيعة لمواجهة تحديات حضرية ملحة، مثل الفيضانات، وتلوث المياه، وارتفاع درجات الحرارة الناتج عن "الجزر الحرارية" الحضرية ويتم تصميمها بحيث تحاكي الأنظمة البيئية الطبيعية، فتضم أراضي رطبة قادرة على امتصاص وتخزين مياه الأمطار بكفاءة، مع نباتات مائية وبرية تعمل كمصاف طبيعية لترشيح المياه الملوثة وتحسين جودتها، إلى جانب دعم التنوع البيولوجي عبر توفير موائل للطيور والحياة البرية، ومن ضمن تلك الحدائق حديقة بنجاكيتي في بانكوك التي تثبت أن التصميم المدروس يمكن أن يحول حتى أكثر المواقع تدهورا إلى مساحات خضراء منتجة تعزز صمود المدن في وجه تغير المناخ.

كما تضم قائمة الحلول تصميم مجموعة من المناطق الطبيعية داخل المدن التي تمثل نموذجا متقدما للتخطيط الحضري المستدام، حيث يتم دمج الطبيعة في قلب النسيج العمراني لتقديم فوائد بيئية واجتماعية واقتصادية في آن واحد. من أبرز الأمثلة على ذلك حديقة لينكولن في مدينة شيكاغو، التي تعد واحدة من أقدم وأكبر المساحات الخضراء في الولايات المتحدة، لكنها اليوم تحمل دورا يتجاوز الترفيه والنزهة.

ظهرت الشرفات الخضراء المدرجة كأحد أبرز الحلول المعمارية القائمة على الطبيعة. هذه الشرفات ليست مجرد امتداد جمالي للمباني، بل أنظمة بيئية مصغرة توفر للنباتات موطنا وسط غابة الإسمنت

وتضم الحديقة بركا ومناطق رطبة تمت استعادتها بعناية، مما يخلق نظاما بيئيا قادرا على امتصاص مياه الأمطار وتقليل خطر الفيضانات، ولا تعمل هذه المسطحات المائية والنباتات المحيطة بها على إدارة المياه فقط، بل تساهم أيضا في خفض درجة حرارة المناطق المحيطة.

وتساهم هذه المساحات في خفض ما يعرف بـ"جزيرة الحرارة الحضرية"، وهي الظاهرة التي تجعل المدن أكثر حرارة من المناطق الريفية بفعل الإسفلت والخرسانة. فالنباتات والأشجار في الحديقة تظلل الأرض، وتبخر المياه، وتبرد الجو، مما يخلق مناخا محليا أكثر اعتدالا، خاصة في فترات الصيف الحار. إلى جانب ذلك، توفر هذه البيئات موائل طبيعية للحياة البرية داخل المدن، من الطيور المهاجرة إلى الحشرات الملقحة، مما يعزز التنوع البيولوجي في مناطق كانت لولا ذلك ستصبح بيئة حضرية جافة.

وللمناطق الطبيعية الحضرية تأثير اجتماعي وثقافي لا يقل أهمية عن دورها البيئي، إذ تمنح السكان أماكن للاسترخاء والتفاعل الاجتماعي وممارسة الرياضة، فضلا عن تعزيز ارتباطهم بالطبيعة وسط بيئة حضرية صاخبة. وفي زمن يزداد فيه الازدحام والتلوث، تبرهن هذه المساحات على أن المدن يمكنها أن تكون أكثر خضرة ومرونة، إذا ما تم الاستثمار في حلول تعتمد على الطبيعة بدلا من الاكتفاء بالبنية التحتية التقليدية.

وقد ظهرت الشرفات الخضراء المدرجة كأحد أبرز الحلول المعمارية القائمة على الطبيعة. هذه الشرفات ليست مجرد امتداد جمالي للمباني، بل أنظمة بيئية مصغرة توفر للنباتات موطنا وسط غابة الإسمنت، وتعمل على تحسين جودة الهواء، تقليل حرارة المباني، وتوفير بيئة أكثر راحة للسكان.

تُعتبر تجربة مجمع "فونبارك ألت أيرلا"  في فيينا من أوائل النماذج العالمية الناجحة لهذا المفهوم. بُني المجمع في سبعينات القرن الماضي، ويضم آلاف الشقق، وقد صُممت شرفاته على شكل مدرجات واسعة تُزرع بأنواع مختلفة من النباتات، بدءا من الأزهار الموسمية وصولا إلى الشجيرات الصغيرة. وقد كانت النتيجة مزيجا فريدا بين المسكن الحضري والحديقة الخاصة، مع إسهام واضح في تخفيف درجات الحرارة صيفا وتحسين جودة الهواء داخل المجمع.

وفي سنغافورة، حيث تعرف المدينة بكونها "مدينة في حديقة"، يُعدّ مشروع "سكاي هابيتت" مثالا رائدا، فالمبنى يضم شرفات واسعة وحدائق معلقة على مستويات مختلفة، بحيث تتوزع المساحات الخضراء رأسيا، مما يزيد قدرة المبنى على امتصاص ثاني أكسيد الكربون وخفض الحرارة. كما صممت هذه الشرفات بطريقة تسمح بمرور الضوء والهواء، مما يعزز التهوية الطبيعية ويقلل الحاجة لاستخدام التكييف.

أما في ميلانو، فيبرز مشروع "الغابة العمودية" كأحد أكثر الأمثلة شهرة عالميا. هذا المجمع يتكون من برجين سكنيين مغطيين بأكثر من 900 شجرة و20 ألف نبتة وشجيرة، كلها مزروعة على شرفات مدرجة، وهذه المساحات الخضراء تحول الأبراج إلى غابات رأسية تساهم في تنقية الهواء، وعزل الضوضاء، وتوفير موائل للطيور والحشرات في قلب المدينة.

وتؤكد هذه النماذج أن الشرفات الخضراء المدرجة ليست رفاهية معمارية، بل أداة فعالة للتكيف مع تغير المناخ، وتحسين الصحة العامة، وتعزيز جودة الحياة في المدن. ومع ازدياد الكثافة السكانية، تصبح هذه الحلول جزءا أساسيا من التخطيط الحضري المستدام، حيث تلتقي العمارة بالطبيعة في شراكة تحفظ البيئة وتخدم الإنسان.

فوائد وعدالة

أحد أبرز المكاسب التي تحققها الحلول القائمة على الطبيعة، هو تحسين الصحة العامة. فقد أثبتت أبحاث عديدة أن قضاء الوقت في المساحات الخضراء، سواء كانت حدائق عامة أو غابات حضرية أو سطوحا خضراء، يقلل مستويات التوتر والقلق، ويحفز النشاط البدني.

على سبيل المثل، تشير دراسة أجرتها جامعة إكستر البريطانية إلى أن العيش بالقرب من مساحات خضراء يقلل احتمال الإصابة بأمراض القلب والاكتئاب بنسبة تصل إلى 20%. وفي كوبنهاغن، أظهرت إحصاءات بلدية المدينة أن إضافة حدائق جيبية صغيرة في الأحياء السكنية رفعت معدلات المشي اليومي بنسبة 60% خلال عام واحد فقط.

تحقق الحلول القائمة على الطبيعة عوائد اقتصادية غير مباشرة إذ تقلل المساحات الخضراء تكاليف الرعاية الصحية على المدى الطويل

كما أن الوصول السهل والمباشر إلى المساحات الخضراء، يعزز الرفاهية النفسية والاجتماعية، وهو ما يجعل الحلول القائمة على الطبيعة ليست مجرد مشاريع بيئية، بل أدوات لتحسين جودة الحياة.

في طوكيو، على سبيل المثل، تم تصميم ممرات خضراء على طول القنوات المائية، حيث يمكن الناس المشي أو ركوب الدراجات في بيئة هادئة، بعيدا من الزحام، مع الحفاظ على الترابط البيئي بين أجزاء المدينة. هذه المسارات لم تحسن الصحة الجسدية للسكان فحسب، بل أصبحت أماكن لقاء وتواصل اجتماعي.

وفي عمان، أعادت أمانة العاصمة إحياء عدد من الحدائق المهملة في الأحياء الشرقية، مما شجع العائلات على قضاء وقت أطول خارج المنازل، وأعاد روح الحياة إلى تلك المجتمعات.

من التحديات الكبرى في التخطيط الحضري، ضمان العدالة الاجتماعية في توزيع المساحات الخضراء. فغالبا ما تحظى الأحياء الثرية بحدائق أفضل وبنية تحتية بيئية متطورة، بينما تفتقر الأحياء الفقيرة إلى هذه المزايا.

وإذا طبقت الحلول القائمة على الطبيعة بشكل متوازن، يمكن أن تعالج هذا الخلل. ففي مدينة ملبورن الأوسترالية، أطلقت الحكومة المحلية برنامج "شجرة لكل بيت" في الأحياء المنخفضة الدخل، بهدف توفير الظل وتقليل درجات الحرارة، إضافة إلى تحسين المنظر العام.

Getty Images
صورة جوية لمياه الصرف الصحي المعالجة تتدفق إلى نهر إرويل من محطة بولتون لمعالجة مياه الصرف الصحي التي تديرها شركة يونايتد يوتيليتيز المحدودة

إلى جانب الفوائد الصحية والاجتماعية، تحقق الحلول القائمة على الطبيعة عوائد اقتصادية غير مباشرة. إذ تقلل المساحات الخضراء تكاليف الرعاية الصحية على المدى الطويل، وتحد من أضرار الكوارث المناخية مثل الفيضانات أو موجات الحر، كما تزيد قيمة العقارات المجاورة لها. ففي سنغافورة، حيث تعد السطوح الخضراء والحدائق العمودية جزءا من هوية المدينة، أظهرت الدراسات أن المباني التي تطبق هذه الحلول تشهد انخفاضا في استهلاك الطاقة بنسبة تصل إلى 15%، بفضل العزل الحراري الطبيعي.

تحديات عملاقة

تمثل التحديات والفرص في تطبيق الحلول القائمة على الطبيعة، ساحة معقدة تجمع بين الطموح البيئي والواقع الاجتماعي والاقتصادي. فمع أن الاهتمام بهذه الحلول يتزايد محليا ودوليا، فإن العوائق العملية لا تزال تقف أمام توسيع نطاقها وتطبيقها بفعالية، خاصة في البيئات ذات السياقات الاجتماعية والثقافية المتنوعة.

وتعد الترجمة من البحث إلى الممارسة، أول وأكبر فجوة، إذ غالبا ما تبقى نتائج الدراسات العلمية حول فوائد الحلول القائمة على الطبيعة حبيسة الأوراق الأكاديمية أو المؤتمرات، بينما يواجه الممارسون في الميدان تحديات تتعلق بكيفية تحويل هذه المعرفة إلى مشاريع واقعية قابلة للتنفيذ. ويزداد الأمر تعقيدا في المدن والمجتمعات التي تفتقر إلى الخبرات الفنية أو الدعم المؤسسي، حيث تصبح الفجوة بين النظرية والتطبيق واسعة إلى حد قد يفرغ الفكرة من محتواها.

تتطلب التحديات البيئية والحضرية المعقدة أفكارا جديدة تجمع بين الكفاءة التقنية وتحقيق المنافع البيئية، مثل استخدام المواد المستدامة

كما يمثل التقييم الشامل والمتكامل بدوره تحديا آخر، إذ إن معظم الأطر الحالية تركز على قياس التأثيرات البيئية المباشرة، مثل تقليل الانبعاثات أو تحسين جودة المياه، لكنها نادرا ما تقيس الفوائد الاجتماعية والاقتصادية الطويلة المدى، مثل تحسين الصحة العامة، أو تعزيز التماسك الاجتماعي، أو رفع جودة الحياة في الأحياء الحضرية. غياب هذه الرؤية المتعددة الأبعاد، يجعل من الصعب على صناع القرار والممولين إدراك القيمة الكاملة لهذه الحلول.

وتحدد المراقبة والتقييم المستمر استدامة هذه المشاريع، لكن الواقع يكشف نقصا في آليات متابعة فعالة وموحدة تتيح تقييم الأداء عبر الزمن، خاصة في مواجهة أحداث مناخية متطرفة كالعواصف أو الفيضانات أو موجات الحر. وبدون هذه المراقبة، قد يتم تنفيذ مشروعات خضراء تبدو ناجحة في البداية، لكنها تفشل في الصمود أو تحقيق أهدافها بعد سنوات قليلة.

ولتحقيق أقصى استفادة من الحلول القائمة على الطبيعة، يبرز عدد من المسارات الاستراتيجية التي يمكن أن تشكل أساسا لمستقبل أكثر استدامة. أول هذه المسارات هو الشمولية والعدالة، إذ يتطلب نجاح هذه الحلول إشراك المجتمعات المحلية منذ المراحل الأولى للتخطيط وحتى التنفيذ، مع ضمان أن تكون الفئات المهمشة جزءا فاعلا من العملية، حتى لا تتحول هذه المبادرات إلى مشاريع تخدم فئة محدودة على حساب أخرى أو تخلق آثارا غير مقصودة تؤدي إلى الإقصاء أو الضرر.

أما المسار الثاني فهو التعاون والشراكة، حيث يلعب التكامل بين الباحثين والممارسين والقطاع الخاص والمجتمع المحلي دورا محوريا في سد الفجوة بين الدراسات النظرية والتطبيق العملي على أرض الواقع، مما يضمن أن تكون الحلول قابلة للتنفيذ وفعالة على المدى الطويل.

ويأتي الابتكار في التصميم والتكنولوجيا كعامل أساس آخر، فالتحديات البيئية والحضرية المعقدة تتطلب أفكارا جديدة تجمع بين الكفاءة التقنية وتحقيق المنافع البيئية، مثل استخدام المواد المستدامة، وتوظيف تقنيات الاستشعار الذكي، أو دمج الحلول البيئية مع البنية التحتية القائمة. وأخيرا، يبقى الاعتراف بالمعارف المحلية عنصرا لا غنى عنه، إذ تحمل خبرات السكان الأصليين والمجتمعات المحلية فهما عميقا للعلاقة بين الإنسان والطبيعة،

ويمكن أن يعزز فاعلية الحلول ويجعلها أكثر ملاءمة للواقع المحلي، خاصة في ظل التغيرات المناخية وتسارع التحضر. بهذه المقاربات المتكاملة، يمكن فتح آفاق واسعة أمام تطبيق الحلول القائمة على الطبيعة كجزء أساس من مدن المستقبل.

كما تواجه الحلول القائمة على الطبيعة تحديات كبيرة على صعيد الحكم والسياسات، إذ تعد من أبرز العوائق التي تعرقل تنفيذها بفعالية، خصوصا في مناطق مثل أفريقيا جنوب الصحراء. فمن ناحية، يفتقر العديد من هذه البلدان إلى أطر تنظيمية وسياسات متماسكة تعطي الأولوية لحماية البيئة وتعزيز دور الطبيعة في مواجهة التحديات المناخية والتنموية.

ويفتح هذا الضعف في البنية التشريعية والسياساتية المجال أمام تنفيذ مشروعات غير منسقة أو غير مستدامة، مما يقلل جدواها على المدى الطويل. ومن ناحية أخرى، يؤدي غياب الإرادة السياسية وتضارب الأولويات الوطنية، حيث تفضل أحيانا المشروعات الاقتصادية السريعة العائد على حساب الاستثمارات البيئية الطويلة المدى، إلى إبطاء أو تعطيل تبني هذه الحلول. يضاف إلى ذلك نقص التمويل المخصص لتنفيذ مشاريع الحلول القائمة على الطبيعة، فضلا عن ضعف آليات ضمان استدامتها وصيانتها بعد التنفيذ، مما يجعل كثيرا من المبادرات البيئية عرضة للتوقف أو الفشل مع مرور الوقت.

وكل هذه العوامل مجتمعة تؤكد أن النجاح في تطبيق الحلول القائمة على الطبيعة لا يتطلب فقط الابتكار التقني والمعرفة العلمية، بل يحتاج أيضا إلى إصلاحات مؤسسية جذرية، وإرادة سياسية واضحة، والتزام مالي طويل الأمد، لكن، ورغم هذه التحديات، فإن الفرص لا تزال كبيرة، خصوصا مع تنامي الوعي العالمي بأهمية الطبيعة كحليف في مواجهة تغير المناخ، وزيادة رغبة المدن في تبني حلول مرنة تجمع بين البعد البيئي والاجتماعي. تطوير آليات لتقليص فجوة البحث والتطبيق، وإنشاء أطر تقييم شاملة، وتعزيز أنظمة المراقبة، يمكن أن يحوّل هذه الحلول من أفكار طموحة إلى أدوات رئيسة في تخطيط المدن وإدارة الموارد.

font change

مقالات ذات صلة