كُتّاب خليجيون يظهرون ويختفون

كُتّاب خليجيون يظهرون ويختفون

استمع إلى المقال دقيقة

خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية، شهدت دول الخليج عددا لافتا في ظهور كتّاب جدد، دفعهم الحماس إلى إصدار أعمال روائية وقصصية، ومجموعات شعرية، أو كتب فكرية، وكانت معارض الكتب منصات انطلاقهم، وصفحات الصحف والملاحق الثقافية تنشر أسماءهم لأول مرة، وبعضهم حصد جوائز محلية وعربية، مما عزز الأمل بولادة جيل أدبي خليجي متجدد..

لكن بعد سنوات قليلة، انحسر هذا الزخم. بعضهم غيّر مساره كليًا، وفتح دار نشر خاصة، أو أسس مكتبة، لينقل نفسه من موقع المبدع إلى موقع التاجر أو الوسيط الثقافي، آخرون جذبهم بريق المناصب الإدارية أو الإعلامية، فانشغلوا بمهام العمل الرسمي على حساب الكتابة، وهناك من وجد في منصات التواصل الاجتماعي فضاء أسرع للتأثير، فترك الكتاب الورقي لصالح المحتوى المرئي أو الشفهي القصير، مدفوعًا بجمهور أوسع، وتفاعل فوري، وبعضهم انسحب بهدوء، حتى تلاشى اسمه من المشهد الأدبي والثقافي.

أسباب هذه الظاهرة متعددة، أولها التحدي الاقتصادي، إذ لا توفر الكتابة الروائية في الخليج، كما في معظم العالم العربي، دخلاً مستدامًا، كي يتفرغ الروائي لمشروعه الروائي طوال العمر، مما يجعلها مهددة بانشغالات الحياة. ثانيها، يغيب التخطيط لتطوير الكاتب بعد كتابه الأول، فلا يجد البيئة التي تصقل تجربته. وثالثها سرعة التحولات الاجتماعية والتقنية، التي دفعت كثيرين إلى استبدال العمل الطويل الأمد بمنتج سريع الانتشار، يضمن حضورًا يوميًا بدلاً من انتظار صدور كتاب كل عامين، أي تفضيل الحضور الفوري على التراكم البطيء... والنتيجة أن المشهد فقد عددًا من الأصوات التي كان يمكن أن تنضج وتضيف إلى الأدب الخليجي تراكمًا نوعيًا.

التحدي الأكبر اليوم هو تحويل تلك الطفرة الأولى من الأسماء إلى جيل متواصل الحضور، قادر على ترك أثر تراكمي لا تبتلعه سرعة التحولات ولا يغريه بريق البدائل العابرة

ما نحتاجه اليوم هو منظومات دعم ورعاية، وبرامج مستمرة لصقل الموهبة، حتى لا يتحول جيل كامل من الكتّاب إلى ذكرى عابرة، أو إلى أسماء تلمع ثم تنطفئ بلا أثر. ما يحتاجه هذا الجيل اليوم هو منظومات دعم جادّة، تعيد للكتابة قيمتها كمسار حياة لا كمرحلة عابرة، وتمنح المبدع أسباب البقاء في دائرة الضوء، لا الاكتفاء بوهج البداية.
وعند المقارنة حول مستوى الدعم، نجد أن تجارب في أوروبا وأميركا اللاتينية، على سبيل المثال، تثبت أن استمرار الكاتب ليس وليد الصدفة، بل ثمرة منظومات دعم متكاملة: منح إقامة أدبية، شبكات نشر وتوزيع واسعة، وصناديق تمويل تمنح المبدع وقتًا ومساحة للإنتاج. في المقابل، يبقى الكاتب الخليجي معتمدًا على جهده الفردي، وعلى مناسبات محدودة لعرض عمله، ما يجعله عرضة للانطفاء المبكر.
إن الفجوة بين توهج البداية وغياب الاستمرار ليست دليلاً على ضعف الموهبة، بل على غياب البنية الحاضنة التي تحفظ شعلة الإبداع. والتحدي الأكبر اليوم هو تحويل تلك الطفرة الأولى من الأسماء إلى جيل متواصل الحضور، قادر على ترك أثر تراكمي لا تبتلعه سرعة التحولات ولا يغريه بريق البدائل العابرة. 
وهنا تبرز الحاجة إلى منظومات دعم حقيقية، توازن بين إغراء البدائل وسحر الاستمرار، حتى لا يتحول جيل كامل من الكتّاب إلى ذكرى مؤقتة في أرشيف معرض كتاب قديم...

font change