"سلاح الموستيكات" وفائض العجز

"سلاح الموستيكات" وفائض العجز

استمع إلى المقال دقيقة

على مدى الأسبوعين الماضيين، غزت شوارع العاصمة اللبنانية بيروت، مئات الدراجات النارية- "الموستيكات" كما يطلق عليها أصحابها- يقودها شبان من "حزب الله"، يرفعون الأعلام الإيرانية والرايات الصفراء، ويرددون الشعار المألوف: "شيعة شيعة شيعة"... ثلاث مرات، وذلك احتجاجا على قرار الحكومة اللبنانية تكليف الجيش الوطني، بوضع جدول زمني للبدء بسحب سلاح "حزب الله"، مع نهاية الشهر الحالي.

لطالما استعان "الثنائي الشيعي" بـ"سلاح الموستيكات"، لإيصال رسائل سياسية داخلية، أو للضغط على الحكومات، أو لترهيب طائفة أو حزب ما، وقد بلغ هذا السلاح قمة مجده خلال "ثورة 17 تشرين"، التي وقف "الثنائي" ضدها بشراسة، بعدما لمس في شعاراتها تهديدا لطرفيه: الفساد والسلاح غير الشرعي.

ومنذ بروز "سلاح الموستيكات" كأسلوب تكتيكي لتحقيق أهداف سياسية، بات اللبنانيون يعلمون أنه بعد أي توتر مع "الثنائي"، سوف تخرج "الموستيكات" من منطقتين: الشياح، وهي منطقة تقطنها غالبية شيعية، وتقع على تخوم الضاحية الجنوبية، أو خندق الغميق، وهي منطقة تقطنها أيضا غالبية شيعية، وتقع على تخوم وسط بيروت، لتغزو شوارع العاصمة.

وغالبا ما كانت الغزوات تُنسب إلى "حركة أمل"، مع نفي قاطع أن يكون لـ"حزب الله" يد فيها. ذلك أن هناك لغة دارجة لدى جمهور المقاومة، قوامها شيطنة عناصر الحركة وأنصارها، ورفع مقاتلي الحزب إلى مرتبة القداسة. وكانت قيادة الحركة بعد كل غزوة تتبرأ من الفاعلين، ببيانات تصبح موضع تندر من جميع اللبنانيين، حتى جمهور "الحزب"، الذي كان يفاخر بانضباطه...

مع الأيام، شكلت هذه الغزوات قلقا أمنيا لسكان بيروت، وتسببت في نزوح الكثير من القاطنين على خط التماس بين الشياح وعين الرمانة، وخطوط التماس بلغة الحرب الأهلية اللبنانية هي الحدود الفاصلة بين بيروت الغربية ذات الغالبية المسلمة والشرقية ذات الغالبية المسيحية، وكانت حين تستبيح بيروت وتغزوها كما يغزو الجراد حقلا أخضر، تجعلها تعيش ليالي متواصلة تحت رحمة العنف والنهب والتكسير والفوضى والشتائم...

كان "الحزب" قد أجرى مسبقا "بروفات" (تمارين) محدودة على استخدام "سلاح الموستيكات"، حيث نفذ غزوات خاطفة على طريق المطار، فهاجم موكبا لقوات "اليونيفيل"

من ناحية أخرى، ظلت أعداد "الموستيكات" وكثافة المشاركين في الغزوات، محط تساؤل لكثير من اللبنانيين، فكيف باستطاعة حركة سياسية يُقال إنها فقدت شعبيتها، وتقلصت أعداد مناصريها، وأصبحت عبارة عن بضعة موظفين فاسدين في الدولة، ومنتفعين على هامشها، ومجموعة من الزعران، جمع هذه الحشود المئوية بهذه السرعة؟ 
هذا كله ظل دون أجوبة حتى الثلاثاء الماضي، يوم اجتمعت الحكومة اللبنانية لتفتي في مسألة حصر السلاح، حيث لجأ "الحزب" بعد إعلان رفضه القرار الحكومي، وإشاعة انطباع بأن سلاحه يساوي هوية الطائفة، إلى "سلاح الموستيكات"، فسيّر عناصره الدارجات النارية، من معقلهم في الضاحية باتجاه بيروت، على شكل غزوات متتالية هي الأكثر زخما وصخبا في تاريخ هذا السلاح. 
كان "الحزب" قد أجرى مسبقا "بروفات" (تمارين) محدودة على استخدام "سلاح الموستيكات"، حيث نفذ غزوات خاطفة على طريق المطار، فهاجم موكبا لقوات "اليونيفيل"، المكلفة مع الجيش بتطبيق بعض بنود اتفاق وقف إطلاق النار، إلى أن ظهر من دون أقنعة وبهذا الزخم القوي الذي تشهده العاصمة، منذ ما بعد جلسة الثلاثاء إياها.
ومع ذلك، فقد أشارت أصابع الاتهام إلى "حركة أمل"، التي سارعت إلى إصدار بيان، أعلنت فيه أنها طلبت من عناصرها عدم المشاركة في الغزوات، وتمنت عدم رفع علمها الأخضر، الأمر الذي قطع الشك باليقين، وأثبت أن "الحزب" هو محرك هذه الغزوات منذ بداية ظهورها، ولكنه كعادته يتلطى بظل الحركة، لكن الزمن دار دورته، واضطره إلى استخدام "سلاح الموستيكات" وحده من دون شريك له، لعله يحقق به ما كان يحققه بسلاحه التقليدي: تطويع الداخل تحت ضغط التهديد بالحرب. 

تبرؤ الحركة من غزوات "الموستيكات" الحالية، يكشف عن وجود قراءتين لدى "الثنائي" حول الوضع الداخلي. "الحزب" يعتقد أنه ما زال قادرا على فرض إيقاع البلد، وما زال يتحرك بعقلية "الدويلة" المهيمنة على الدولة، ويسعى إلى التنصل من الاتفاق الذي التزمت به الحكومة، تنفيذا للأوامر الإيرانية بالطبع، في حين يدرك رئيس مجلس النواب رئيس "حركة أمل" نبيه بري، مندوب "الحزب" إلى الاتفاق، أن الاتفاق لم يكن خيارا بين عدة خيارات متاحة، بل حل فرضته حقائق مرة على الأرض، وجاء رأفة بـ"الحزب"، فلو استمرت الحرب شهرا إضافيا، لما بقي منه أثر، ولأصبحت المناطق الشيعية أثرا بعد عين.
حتى الساعة، لم يسجل "سلاح الموستيكات" أي قيمة استراتيجية لـ"الحزب"، فالغزوات لم تحقق أهدافها، كما لم تزحزح الحكومة عن موقفها، وتبين أن "الحزب" علاوة على تهاوي قوته، بات يعاني من الضياع أيضا، ويتضح ذلك من خلال تصريحات قادته، الذين لم يحسموا بعد ماذا يريدون: أهو الدخول في حرب جديدة مع إسرائيل؟ أم أخذ البلد إلى حرب أهلية؟ أم الضغط على الحكومة سياسيا فقط؟
يبقى أن لجوء "حزب الله" إلى "سلاح الموستيكات"، واستخدامه لشن الغزوات شرقا وغربا في بيروت، غير أنه فائض عجز بعد قوة، فيه استلهام للنموذج القبلي الجاهلي قبل البعثة النبوية، الذي يختصره البيت القائل: "وأحيانا على بكر أخينا إذا لم نجد إلا أخانا".

font change