ليلى وأخواتها

ليلى وأخواتها

صورة شام طفلة المراسل الفلسطيني أنس الشريف، الذي اغتالته إسرائيل مع مجموعة من زملائه قبل أيام، لا تفارق ضميري وقلبي.

البنت مدللة أبيها. هذه العلاقات تخلخل النموذج الذي يحاول أن يهيمن بدفع سياسي وديني واجتماعي يتم تسويقه عن عالم ذكوري تسوده الأحكام المسبقة والعنف والصرامة والسلاح، والعبوس والنحر والقتل.

حين تتسرب نماذج عميقة من ثقافة مجتمعاتنا والتشارك وفن العيش وتسامح التعايش وعمق الثقافة والدين السماحة... يكون لهذا أثر كأثر الهواء العليل في الفؤاد العليل، كدموع الفرح أو الحزن، كالحقيقة، كالأمل.

الآباء، الذي يرفعون الأنثى التي تنتمي إليهم إلى مرتبة الأغلى والكنز في هذه الدنيا، أي إنهم ينتمون إليها.

ليلى

في 2008 أخرجت فيلما تسجيليا "كمْ لنا"، وكانت قصة البطل السوري يوسف العظمة (9 أبريل/نيسان 1884–1920) محورية فيه.

خط الفيلم كان من بيت وزير الحربية في حي المهاجرين بدمشق إلى منطقة ميسلون غربي مدينة دمشق حيث موقع المعركة وضريح العظمة. ذهابه إلى معركة ميسلون رغم معرفته بأن سلاحه لا يستطيع مقاومة جيش فرنسا. وخرج وزير الحربية السورية إلى المواجهة كي لا يقال إن دمشق لم تقاوم.

خرج لأنه بطل ولأنه يوسف العظمة. ضريحه يقع في منطقة ميسلون قرب دمشق أصبح مزارا، يقع في طبيعة ذات شجن وأشجار باسقة وتراب له تاريخ. منزله في حي المهاجرين تحول فيما بعد إلى متحف، وحين صورت المنزل في الفيلم، كان أصبح من الممنوع دخوله وتصويره، وكان قد فرغ من كل أثر له، وصار المتحف يشير كأنما إلى بطولة من أحال البيت إلى متحف.

وأنت تهبط حي المهاجرين في الأزقة الضيقة المزروعة بالورد، تشعر بخطى يوسف العظمة فيها. كان قبل أن يتوجه إلى ساحة الوغى ترك وصيته، "أنا أدع ابنتي الوحيدة ليلى أمانة لدى جلالتكم". هذه الوصية تركها في ذمة الملك فيصل وربما في ذمة شخصيات سورية أخرى أيضا.

كان عمر ليلى في عام 1920، حين خرج والدها وزير الحربية يوسف العظمة ذلك الصباح من بيته في حي المهاجرين إلى ميسلون خمس سنوات حسب مصادر وثماني سنوات حسب مصادر أخرى، لكنها في كل المصادر كانت طفلة أبيها وفلذة كبده، وأسفه في هذه الدنيا على تركها وحيدة. كان يعلم أنه لن يعود من ميسلون، وكان عمره آنذاك 36 عاما.

طيلة الفيلم كنت أفكر بليلى (1912–1971) عند تصوير الضريح في الفيلم كان قد مضى على رحيل ليلى عن دنيانا 49 عاما، فأحضرت له وردة جورية بيضاء ووضعتها على الضريح وقلت له في نفسي: هذه من ابنتك ليلى.

وربما ليلى هي التي أرسلت الوردة لأبيها عبري وإلا كيف أتيت أنا والوردة.

أذكر أن الوصية الأصلية كانت مخططة بقلم أصفر، أو أنا تخيلت ذلك، وتخيلت الوصية ترافقه على الدرب فيتأكد. وتؤنسه كأغنية خفيفة تسلي الروح. تبقى هذه الوصية أنى ذكرت فريدة في اختزالها وفي تكثيفها لدرب الحب والانتماء والشجاعة.

شجاعة الرجل النبيل البطل وثروته (طفلته).

أما ما يتعلق بالوصية وتنفيذها وعدم تنفيذها فهو لا يشغل عقلي. أنا فكرت كيف أن ليلى عاشت حياتها مليئة بالحنان والفخر والثقة.

وأن أباها رغم أنه تركها إلا أنه استحق أبوته لها. وطد انتماءها له وأعزها. وطد ثقتنا برفاق الدرب وثقتها بالأب.

لعله أحب سوريا كما ليلى. هناك قدم روحه وهنا روحه.

شام

منذ أيام قليلة، ارتفعت في الضمير العربي والعالمي حكاية أب آخر وبطولة أخرى.

الشهيد الشاب أنس الشريف رحل عن 27 عاما.

أنس الشريف من مخيم جباليا في قطاع غزة (1996–2025)، عمل مراسلا ميدانيا من غزة ونقل الحقيقة، في زمن الكلمة فيه تقابلها دبابة أو رصاصة أو تجويع أو ترويع.

في 6 أبريل/نيسان كتب إحدى وصاياه أو ربما هي وصية واحدة كتبها على مراحل. فالموت يمور في المكان "ذقت الألم والفقد مرارا ورغم ذلك لم أتوان عن نقل الحقيقة كما هي بلا تزوير أو تحريف".

بطولة أنس لها مقامها الرفيع في الضمير الفردي والجمعي، يقاوم الطائرات الحربية الإسرائيلية بالكلمة والكاميرا، ويشهد... شجاعة خارقة وتفانٍ نادر ولطف الإنسان المراسل والإنسان الأب

بطولة أنس أيضا لها مقامها الرفيع في الضمير الفردي والجمعي، يقاوم الطائرات الحربية الإسرائيلية بالكلمة والكاميرا، ويشهد... شجاعة خارقة وتفانٍ نادر ولطف الإنسان المراسل والإنسان الأب.
في وصيته أيضا ورد هذا المقطع "أوصيكم بقرة عيني ابنتي الحبيبة شام التي لم تسعفني الأيام لأراها تكبر كما كنت أحلم". 
ثم قضى مع رفاقه الستة في قصف من مسيرة استهدفت خيمتهم بجانب مجمع الشفاء الطبي في مدينة غزة.
في الصور نرى شام تقف قربه وهو يقوم بالتغطيات وفي الفيديو الأخير له معها، فيديو الوداع ربما، سألها عن رأيها في البقاء في غزة وحاورها وسمعها وقبلها ألف قبلة، وارتمت في أحضانه ألف حضن وحضن، كان يمكث قليلا في الكلمة وهو ينادي على شامه: بابااااا... وكانت تنتبه وتجيب بدقة ومسؤولية عن أسئلته، كانت تكبر كما الحقيقة الجاثمة بينهما على صدر غزة.
رحل وترك شام في ضمير الكون وفي قلوب أصحابه وأهله وقلوبنا. 
لا يتعدى عمر شام الثلاث أو الأربع سنوات. هي شامة غزة وطفلة أبيها. أودعها تحرس غزة أو لتحرسها غزة . 
هل نغص ونحن نكتب هذه السطور، وهل يبدو الكون غابة، لكنه يبدو نبيلا أيضا، النبل أجمل وأبقى وأقوى من القبح.

 وعد


الطفلة التي أنقذها رجال الدفاع المدني السوري في زلزال سوريا في 2023، بعد قضائها أكثر من أربعين ساعة تحت أنقاض منزلها في مدينة سلقين على الأرجح في ريف إدلب شمال سوريا.
لا أعرف بدقة اسمها، سميتها "وعدْ"، لن أنسى كيف كبّر الرجال، أكثر من عشرين رجلا من رجال الدفاع المدني وكيف استجاروا بالله كي تخرج حية من تحت أنقاض منزلها وحين سحبوها، احتفوا بنجاتها في نشيد مهيب كمولد الولادة، ودعاء وشكر.
شكروا الله على سلامتها ورفعوها بين أيديهم كنعمة، كهدية، وقالوا: "الحمد الله يا عمو". 
هذ الحب غدنا لا بد.       

font change