في قلب باريس، أسفل ساحة التروكاديرو، حيث يتزاحم السياح لالتقاط صورهم مع برج إيفل، ثمة عالم آخر لا تصل إليه عدسات الهواتف ولا أشعة الشمس. قبو في "متحف الإنسان" يضم أكثر من 18 ألف جمجمة، جمعت من أطراف الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية، كثير منها من الجزائر. بين هذه الجماجم، واحدة صغيرة الحجم، لفتت انتباه كزافييه لو كلير، الكاتب الفرنسي ذي الأصول الجزائرية.
إنها جمجمة طفلة، لا يزيد عمرها على سبع سنوات، ربما كانت تركض على سفوح جبال القبائل أو تحمل جرة ماء من النبع، قبل أن يوقفها ضابط فرنسي بسيفه. لم تمت في ساحة معركة، بل في فناء قريتها المحروقة، ثم حمل رأسها إلى فرنسا، لتدخل تجارة "العلم" في القرن التاسع عشر، حيث كانت الجماجم تباع وتشترى، وتستخدم لتأكيد نظريات عنصرية حول تفوق العرق الأوروبي.
في روايته "خبز الفرنسيين"، لا يكتفي كزافييه لو كلير (حميد أيت طالب) بوصف هذه المأساة التاريخية، بل يفتح معها حوارا حميما، متخيلا حياة هذه الطفلة التي قرر أن يسميها زهرة. الاسم هنا ليس اختيارا بريئا، بل هو رفض لتركها مجرد رقم في صندوق خشبي. "زهرة، ستغادرين هذه السراديب، أعدك. ستعودين إلى التراب الذي انتزعت منه"، يكتب المؤلف، وكأنه يعقد معها ميثاقا أدبيا وأخلاقيا.
استعارة القوت المسروق
عنوان الرواية مفتاحها الأول. فالخبز، في ظاهره، طعام يومي، لكنه هنا رمز للحياة والحق والكرامة. حين يفتتح الكاتب نصه بعبارة صادمة سمعها يوما في مخبز بنورماندي: "هنا لا نبيع خبز الفرنسيين للبونيو! عشرة أرغفة! وماذا بعد؟"، فهو يضعنا أمام امتداد مباشر للمنطق الاستعماري، من الجزائر القرن التاسع عشر إلى فرنسا المعاصرة.